نصيحة... فلتقرؤوا شعر الغزل!
في واحد من كتبي، أبديتُ رأياً حول شعر الغزل، وقلت فيه: لو كنتُ وزيراً للتربية والتعليم لن أقرّر على الطلّاب في مناهجنا إلّا شعر الغزل. وقد يبدو الأمر مستهجناً، وفيه الكثير من التعسّف وعدم الرويّة. الآن، وبعد أكثر من خمس سنوات على تأليف ذلك الكتاب، تعزّزت لديّ هذه المقولة؛ إنّه لا بدّ من شعر الغزل في المناهج، وفقط. وخاصّة لمن يفهمه من الطلّاب في المراحل الإعداديّة فأعلى.
أعتقد أنّه لا أصدق من شعر الغزل، ويكفيه هذه القيمة التربويّة مبرراً، لأن يكون موضوعاً تربويّاً للطلّاب، فكلّ فنون الشعر الأخرى منقوصة القيمة التربويّة، فلا بدّ من أن يكذب المادح، ولا بدّ من أن يزيّن المقابح والمساوئ، وقد انتبهتْ بعض الأعمال الدراميّة لذلك، إذ يعيب أحد الطلّاب كيف يمدح الشاعر شخصاً ما ثُمّ يهجوه! كان الأمر بالنسبة لذلك الطالب النبيه مستفظعاً جدّاً، لقد قتلت فيه المناهج براءته الفطريّة لتلوّثه بلوثات الشاعر المنافق.
أمّا في شعر الغزل فإنّ الشاعر صادق في حسّه وفي تصوّره العقليّ، يقول وهو هائم بالنشوة الذاتيّة، لا ينتظر مالاً، ولا ينتظر جائزة، إنّما ينتظر أن يرضى عنه الشعر أوّلاً، وترضى عنه الحبيبة ثانياً، وأظنّه لن يكترث كثيراً لو أنّ تلك المرأة لم ترضَ. بل لا يهمّه العالم أجمع بعد ذلك، وأغلب الظنّ أنّ الشاعر القديم حافظ على هيكليّة القصيدة في عمود الشعر واحتفظ بالغزل؛ ليُـرضيَ نفسه قبل أن يرضيَ أيّ طرف آخر، وترى الشاعر يصرّ على ذلك، ولا يبرحه، وتشعر أنّه يتجلّى في ذلك الجزء من القصيدة؛ في اللُّغة، وفي الوصف، وفي الصورة وفي الإحساس، وفي إبداع المعاني، لكنّه سيصبح أقلّ شاعريّة وهو يمدح. ومن يعود إلى بردة كعب بن زهير "بانت سعاد" التي اعتذر فيها إلى النبيّ- عليه الصلاة والسلام- سيدرك ذلك؛ فلم يُبْقِ شيئاً في نفسه إلّا قاله على طريقته لسعاد المتخيّلة أوِ الحقيقيّة لا فرق. حتّى وهو في حضرة رسول، تغزّل وتمنّى واشتهى، ووصف، ولم يتوانَ عن شيء. ولعلّ الشاعر وجد الفرصة سانحة فأوغل في شعر الغزل "حسّيّاً" حتّى ثمل!
ومناسبة العودة إلى هذا كلّه، ما أجده في المدارس خلال عملي مشرفاً تربوياً، فلا يتعامل المعلّمون والمعلّمات مع قصائد الغزل، كما يجب أن يتعاملوا معَها، فمنهم من يكفّر الشاعر، ومنهم من يُفَسّقه، ومنهم من ينفّر الطلّاب من شعر الغزل وشعرائه باعتبارهم "سفهاء الثقافة العربيّة"، وعليه فلا يأخذون النصّ بجديّة تربويّة وتعليميّة، وربّما تجاوز بعضهم عن القصيدة الغزليّة ولم يشرحها، وأسقطها من المقرّر كليّاً، وربما حرَف معانيها وألفاظها إلى ما يريد من مفاهيم الحلال والحرام والتقوى وعذاب النار ويوم القيامة ومشاهده. إنّ ما يفعله هؤلاء المعلّمون أكبر من كارثة، إنّهم يحطّمون في نفوس الطلّاب أهمّ شعر قالته العرب، وهو المحتوى الأقرب إلى النفوس، فالأصل أن يكون "حصان طروادة" ويوظّفه المعلّمون ليعلموا من خلاله اللُّغة والصورة والعاطفة والتربية الخُلُقِيّة، لأنّ شعر الغزل هو تجلّ من تجلّيات خلق اللهِ الناسَ ذكراً وأنثى، وجعل بينهم مودّة ورحمة، فكيف للمعلّمين أن يهذّبوا نفوس الطلّاب التي تفور بالحبّ والشهوة، إذا لم يكن النصّ الجماليّ طريقاً إلى التهذيب في الحسّ وفي التصرف؟ لأنّ عدم الإشباع العاطفي التربويّ في الغرفة الصفيّة سيؤدّي بالطالب إلى البحث عن بدائلَ أخرى خارجها، عدا أنّ من حقّ الطالب أن يتعلّم شعر الغزل، وأن يشرحه المعلّم على أصوله، وبعدها فلينهلِ الطالب وحده من الشعر الغزليّ ما شاء من كؤوس الطلى وحلو الحديث وشهد المباسم.
في واحدة من زياراتي الصفّيّة للصفّ العاشر الأساسيّ، كان الدرس يتناول قصيدة "يا ليل الصبّ"، قصيدة من أجمل ما يكون الشعر، ذات بحر راقص، ولغة شعريّة راقية في وصفها للمشاعر، فيها ذلك المسّ للطيف للجمال الأنثويّ، لقد كانت هذه القصيدة واحدة من القصائد التي اختارها الشاعر المرحوم فاروق شوشة في كتابه "أحلى عشرين قصيدة حبّ"، وإنّها- عندي لأحلى الأحلى، لكلّ هذا الذي قلته، ولغير ذلك من جماليات منظومة بتساوق تام في كل بيت من أبيات القصيدة أعدّ هذه القصيدة فريدة من "فرائد" الشعر كذلك، ولأنّ الشعراء يقدّر بعضهم بعضاً تجد أنّ هناك من عارضها بقصائد لا تقلّ جماليّة عنها، لقد أصبحت تلك "الفريدة" فرائد أيضاً، وأنجبت لها عرائس شعر ومروج تتهادى في حدائق الجمال اللّغويّ.
جماليّة هذه القصيدة تدفعك لأنْ تقرأها ولا تني في ذلك، وتأخذك أبياتها بيتاً فبيتاً حتّى إذا ما انتهيت شعرت باللذة الشعريّة، كأنّك قد شربت ألذّ شراب، فتقيم في نفسك، ولا تبرح عقلك ومخيلتك، وتستقرّ في وجدانك كلّه لتستوليَ عليك برُمّتك، فتكتشف أنّك تحفظ القصيدة غيباً، وتترنم فيها كأنّك في صلاة! أو كأنّك فيروز التي ترنّمت بها قبلك، وهكذا حفظتُ القصيدة عندما عشتُ معَها في كتاب الشاعر فاروق شوشة، بل إنّ لكتابه هذا فضلاً كبيراً عليّ، فقد حفّظني القصائد العشرين عن ظهر قلب منذ كنتُ معلّماً، وقبل أن أحبّ وأعشق، وأكتب شعر الغزل في دواوينَ سبعة.
في تلك الزيارة الصفّيّة حدّثت الطلّاب عن القصيدة، وعن شعر الغزل، وعن رقّة القلب، وعن الطبيعة الإنسانيّة، وعن الحبّ الفطريّ بين الرجال والنساء، واندمجتُ في هذا الجوّ، ولم يقطع عليّ ذلك التجلّي الشعريّ سوى إعلان الجرس انتهاء اللحظة الفاتنة، فطلب منّي المعلّم أنْ أسديَ للطلّاب نصيحة! لا شكّ في أنّ المعلّم حريص على طلّابه، وكلّ من في سلك التربية والتعليم حريص على الطلّاب، وربّما توقّع منّي "محاضرة دينيّة خُلقُيّة ضدّ الغزل". لكنّني عندما سمعت هذا الطلب: سكتُّ هنيهة، وقلت: نصيحة... فلتقرؤوا شعر الغزل!
وسوم: العدد 1124