في وداع الدكتور عمر الساريسي

في وداع الدكتور عمر الساريسي

ومن حقي أن أبكيك

د. بلال كمال رشيد

[email protected]

كنتُ صغيراً عندما عرفت الدكتور عمر الساريسي والدكتور عودة أبو عودة والدكتور عبدالله الخباص فعلى كثرة أصدقاء أبي إلا أن لهؤلاء الثلاثة خصوصية في المكان والمكانة، فالمكان في مديرية المناهج  في وزارة التربية والتعليم حيث العمل، والمكانة حب من حب الوالد .. أراهم حيث أراه في العمل... وأحمل حبهم كما يحمل حبهم أبي... وأراهم أصدقاء مخلصين متآلفين... وكبرتُ وكبُر هذا الحب... فرقهم المكان وبقيت المكانة... تزداد قوة وتآلفاً وتعاضدا...

كنتُ صغيراً ورأيتهم كباراً... وكبرتُ ولا أراهم إلا كباراً: في علمهم وأخلاقهم وتواضعهم وفي صدقهم وتفانيهم في خدمة الأمة بعلمهم وعملهم.

منذ الصغر ... - والعلم  في الصغر كالنقش في الحجر وكذلك هو الحب - ... نُقشت محبة هؤلاء الثلاثة في قلبي... وهو نقش لا يزول إلا بتوقف القلب نفسه!!

اليوم أتلقى خبر وفاة  الدكتور عمر الساريسي - بعد خمس سنوات من وفاة والدي- ... وكأنني أتلقى خبر وفاة والدي ثانية... يتجدد الحزن في قلبي... أسترجع بالذاكرة صورة الساريسي .. حيث كنت أراه صديقاً رفيقاً ملازماً لأبي .. يتأبط كتاباً... محاضراً أو حاضراً في ندوة... أستذكر صوته المميز.. إيقاعاً وارتفاعاً... أستذكر ضحكته... ترحيبه المجامل والمسهب والسريع بهذا أو بذاك... أراه حيث العلم يكون... سمح هو لطيف متواضع... يحب الناس ويحبه الناس...

تعلق قلبي باسمه وأنا أرى اسمه على أغلفة الكتب المدرسية، أو الكتب الأدبية والنقدية، أو في الصحف والمجلات، فقد كان مؤلفاً، ومشرفاً على لجان التأليف في المناهج، داخل الأردن وخارجه، وكان محققاً للكتب التراثية... ومهتماً بالأدب الشعبي، ومنظراً وناقداً في الأدب الإسلامي.

كان قارئاً نهماً... وكاتباً نشيطاً... يُعرِّف بهذا الكاتب أو بذاك الكتاب... وقد قاده عمله إلى أن يجالس كبار السن، فيأخذ من ألسنتهم الحكايا والقصص الشعبية، ليدونها في سطور الكتب، وهو عمل شاق، ولكنه خدم بذلك الأمة، وحفظ تراثها من الضياع... واكتسب بذلك محبة الكبار وحكمتهم، كان موسوعة علمية وأدبية، كان بسيطاً في كل شيء.. عفوياً.. سمحاً.. لطيفاً.. متواضعاً.

قبل خمس سنوات وفي حفل تأبين الوالد -  رحمه الله-  ألقيتُ كلمة.. بكيت فيها أبي وأبكيتُ محبيه... ونالت استحسان الجمهور تأثراً.. إلا أنه جاءني معاتباً وهو يغالب دمعه... تكلم معي- بلسان أبي- موبخاً:

( لماذا تبكي.. كن رجلاً.. كن قوياً..لا بد للحياة أن تسير.. البركة فيك وفي إخوانك...) قال هذه العبارات بلسانه... وعيناه تقول غير ذلك، فهو يبكي من أبكي... ويفقد من أفقد... ولكن شخصية الأب فيه كانت هي الأقوى، وقال يومها ما قال... وسارت الحياة... وكنت أراه بين الفينة والأخرى... وأشعر براحةٍ عندما أراه... لأسترجع زمناً انتهى فيّ حنيناً وشجوناً!!

التقيته قبل شهور في معرض الكتاب... رأيته تعباً يحمل عصا على غير العادة.... وجد في عينيَّ استغراباً... فرد عليَّ رداً إعلامياً بطعم السياسة: "هرمنا " ، وقلت في نفسي: أي هرم وأنت ما زلت تسير بين الكتب والمكتبات... تتابع وتكتب هنا وهناك؟!!

كان يقابلني بعبارة جميلة ألفتها كثيراً منه ومن كل أصدقاء أبي ومجايليه : " أهلاً بالحبيب ابن الحبيب "  .. وكنت أرتاح للعبارة ولصاحبها... كنت أرى علامات من علامات أبي... وأشعر بروحه تحضنني..!!

يا الله... اليوم نودع الدكتور عمر الساريسي، وأودع معه شيئاً من نفسي... أودع أبي الذي افتقده كل يوم وأبكيه ثانية... وأرثيه وأرثي نفسي... أي ربيع هذا الذي أعيشه وأنا أشهد تساقط الأوراق...؟!!!

عمر الساريسي كان على المستوى الإنساني: أباً وأخاً وصديقاً وفياً... كان رجلاً صادقاً... بسيطاً عفوياً. وعلى المستوى الأكاديمي: كان عالماً معلماً وعاملاً... وازن بين أدب الأمة المعاصر وتراثها القديم... دوّن الأدب الشفاهي... ودرسه كما درس ونظر في الأدب الكتابي على مرّ العصور، وبقي متصلاً بالكتاب والكتابة إلى آخر اللحظات!!

وعاش القضية الفلسطينية وكتب عنها حتى كان آخر كتاب كتبه " رحلة عذاب " ، وعاش هموم الأمة العربية والإسلامية.

لقد عاش حياته جهاداً وكفاحاً بالعلم والقلم... لذا نقول ونحن مطمئنون بأن الدكتور عمر الساريسي لم يمت، فهو باقٍ فينا، لم يمت، بل رحل من دار إلى دار، لم يمت، وقد ترك لنا علماً نافعاً، وولداً صالحاً، وصدقات جارية!!

رحمك الله أستاذي... رحمك الله يا أبي... أنت الآن في رحاب الله حيث العدل والآمان... لا هرمَ ولا  مرض ولا شقاء هناك... جزاك الله عنا خير الجزاء...رحلت وتركت لنا المعاني والمباني.. وها هي الحياة تسير... وأودعك بقول صاحبك أبي:

اليـــــوم ودعنــــا أخــــاً وحبيبـــا                            وغــــداً يـــــودعنــــا أخٌ وحبيـــــبُ

ولربمـــا نمضــي بغيـــر مـــودعٍ                            فالوقــــت ليــــل والمكـــان جديـــبُ

سلام عليكما سلام.... جمعتكما الدنيا على طاعة الرحمن، وأسأله تعالى أن تجمعكما الجنة جزاءً وثواباً ومستقراً...

ها هي الحياة تسير يا كبيرَنا الذي علمنا الإيمان والصبر ... ها هي الحياة تسير وعبر (رحلة العذاب) أفلا يحق لي أن أبكي؟!

سأبكي أبي يا صديق أبي ؛ لأنني أفتقده كل يوم... سأبكيك أنت ؛ لأنني لن ألتقيك بعد اليوم، ولأنني لن أراه فيك ... سأبكي من أفتقد.. وما أفتقده فيهم.. في كل يوم .. وسأقول عنك منذ الآن: هرمنا يا سيدي هرمنا!!!

سأبكي بكل قوة.. سأكون كبيراً لأنني أبكي كباراً...!!!