( فلمّا أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا)
( فلمّا أسلما وتلّه للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين إنه من عبادنا المؤمنين )
حديث الجمعة :
اقتضت إرادة الله عز وجل من وراء سوق قصص رسله وأنبيائه الذين خلوا صلواته وسلامه عليهم أجمعين في رسالته الخاتمة المنزلة على خاتمهم عليه الصلاة والسلام أن يكون ذلك عبرا لتثبيت الإيمان في قلوب المؤمنين إلى يوم الدين .
ومن تلك العبر الواردة في قصص المرسلين عليهم الصلاة والسلام ،عبرة صدق الإيمان بالتسليم المطلق الذي لا تردد فيه لله تعالى فيما يأمر، ويقضي ، ويكون فيه بلاء عظيم . ومن ذلك القصص المتضمن لهذه العبرة، قصة رؤيا خليل الله إبراهيم عليه السلام الذي أراه الله عز وجل في منامه حيث أمره بذبح ابنه إسماعيل عليه السلام ، وقد ورد هذا الحدث العظيم في الآيات من الثانية بعد المائة إلى الآية الحادية عشرة بعد المائة من سورة الصافات حيث قال الله تعالى :
(( فلمّا أسلما وتله للجبين وناديناه أن يا إبراهيم قد صدقت الرؤيا إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين وفديناه بذبح عظيم وتركنا عليه في الآخرين سلام على إبراهيم كذلك نجزي المحسنين إنه من عبادنا المؤمنين )) ، ففي هذه الآيات الكريمة سرد للرؤيا التي رآها خليل الله إبراهيم عليه السلام في منامه وهو يؤمر من الله عز وجل بذبح ابنه فصدق رؤياه ، ثم همّ في يقظته عازما على تنفيذ الأمر الإلهي دون تردد تماما كما رأى ذلك في منامه ، كما صدق رؤياه ابنه أيضا دون تردد مُسلِّما أمره لقضاء الله تعالى ، فكافأهما الله تعالى كأحسن ما تكون المكافأة لصدق إيمانهما ،ولثباتهما ، وصبرهما لحظة البلاء حيث كافأ الخليل بالإبقاء على ابنه إسماعيل حيا ، كما كافأ ابنه أيضا بالاستمرار حيا في الحياة ، وفداه بذبح عظيم في مستوى عظمة البلاء ، وفي مستوى رضى الخليل وابنه عليهما السلام به ، وفي مستوى تسليمهما لأمر الخالق جل في علاه .
ودون الخوض في تفاصيل هذا الحدث العظيم في تاريخ البشرية، والذي لم يحصل مثله من مقبل لأب مع ابنه ،خصوصا وأن الأب قد رزقه على الكبر ، وتعلق به قلبه كأشد ما يكون تعلق قلب أب بابنه الذي رزقه على الكبر ، وهذا ما جعل بلاء ذبحه عظيما ، لا بد من أن نركز على ما الذي يجب أن تستفيده الأمة المسلمة إلى قيام الساعة من هذا الحدث العظيم الذي تحيي ذكراه كل عام في العاشر من ذي الحجة المحرم .
إن خليل الله إبراهيم هو النموذج والإسوة الذي يلزم كل مؤمن أن يقتدي ويتأسى به . إنه قد تعلق قلبه المؤمن بمحبة الذرية قبل أن تخلق له ذرية ، وقبل أن يوهبها ، وكان يتضرع إلى لله تعالى كي يجود بها عليه ،ولم يكن حبه لها لغرض دنيوي كما يكون حال كثير من الناس الذين يحبون كثرة الذرية كما يحبون كثرة المال، وهما زينة الحياة الدنيا التي يباهي بها بعضهم بعضا ،بل كان غرضه عليه السلام أن تبقى طاعته لله تعالى مستمرة في عقبه إلى آخر الدنيا ، ولم يكن لديه أفضل ولا أحب من ذلك . ويقتضي تأسي المؤمنين به أن يتشوقوا هم أيضا كما تشوق الخليل عليه السلام إلى الذرية بنفس النية ونفس القصد .
ومن إيمان الخليل عليه السلام أن حب ابنه لم يفتر، بل كان في ازدياد دائم كلما قطع ابنه شطرا من حياته ، حتى إذا بلغ ذلك الحب أقصى درجة يمكن أن يصلها حب أب لابنه ،جاءه البلاء العظيم بأمر الله تعالى له بذبح حبة قلبه ، وقرة عينه في شكل إجراء إذ رأى نفسه يذبحه على وجه الحقيقة في رؤيا رآها في منامه ، وصدّقها دون أدنى تردد . وقد يتبادر إلى الأذهان السؤال الآتي: لماذا لم يؤمر بذبحه وهو في يقظة ؟ والجواب هو أن في الأمر حكمة أرادها الله تعالى ، وقد أراد بها اختبار الخليل الذي كان حين ينام تنام عيناه، وقلبه يقظان تماما كما حال جميع المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين . و لقد كانت الرؤيا كشفا من الله تعالى عن طريقة الذبح ، ولو أمر بذبح وهو في يقظة لأشكل عليه أمر الذبح، لأن الذبيح لم يكن ككل الذبائح التي كان يذبحها الخليل عليه السلام ، فهو عبارة عن ذِبح آدمي مكرم عند الله عز وجل ،وهو يعي جيدا دلالة الذَّبح ، وهو نبي كريم ابن نبي كريم ، وهو الابن المحبوب عند والده كأشد ما تكون المحبة، وقد رزقه على الكبر، لهذا كان لا بد إذن من طريقة معلومة في الذَّبح تليق بمقامه العظيم ، ولهذا كان من حكمة الله تعالى أن يري الخليل كيفية ذبحه في منامه كما وصفها القرآن الكريم : (( فلما أسلما وتله للجبين )) . ولا شك أيضا أن الخليل عليه السلام رأى ابنه في المنام مطيعا ، صابرا، ومحتسبا يطلب منه تنفيذ أمر الله تعالى ، تماما كما وجده على نفس الحال في يقظته، وهذا من حكمة الله تعالى أيضا، ومن رحمته بالأب الحنون وبالابن المحب المطيع ، وقد تناغمت طاعتهما لربهما بنفس الدرجة من اليقين ،والثبات ، والصبر .
ولقد غلبت محبة الله تعالى في قلب الخليل عليه السلام محبة ابنه الحبيب ، وكان ذلك فوزا له عند الابتلاء حين أخلى قلبه حب الابن حين تعلق الأمر بحب الخالق سبحانه وتعالى ، إذ لا مكان إلا لهذا الحب .
وما يقتضيه التأسي والاقتداء بالخليل عليه السلام في هذا الذي حدث، هو أن يجعل المؤمنون محبة خالقهم فوق محبة أبنائهم الذين هم ودائع عندهم استودعهم الله تعالى إياها ، ولا يجوز لهم الاعتراض على استرجاعها إذا ما استردها منهم تماما كما استجاب الخليل عليه السلام لما أراه ربه سبحانه وتعالى في منامه ، وصدقه قبل أن يؤمر بذلك في حال يقظته، وذلك لأن قلبه أخلص المحبة لله تعالى ، ولم يسمح لمحبة الولد أن تنافسها حين هم بإنفاذ الذبح الذي أمر به في اليقظة، وقد علم الله تعالى صدق نيته في ذلك ، ففدى الذبيح بالذِّبح العظيم الذي استمد عظمته من عظمة المستهدف بالذَّبح عند الله عز وجل ،وهو النبي بن النبي عليهما السلام .
ومن عظمة النبي الذبيح أنه حين أخبره والده بما رآه في منامه، لم يتردد لحظة واحدة ،بل كان جوابه للتو كما أخبر الله تعالى بذلك في الآية الثانية بعد المائة من سورة الصافات : (( فلما بلغ معه السعي قال يا بني إني أرى في المنام أني أذبحك فانظر ماذا ترى قال يا أبت افعل ما تؤمر ستجدني إن شاء الله من الصابرين )) ، قالها الذبيح صادقا موقنا مصدقا رؤيا المنام قبل فعل اليقظة ، والله تعالى عالم بصدقه ويقينه ، وبذلك كان الولد الذبيح على شاكلة أبيه الخليل في الاستجابة لأمر الله تعالى في المنام قبل اليقظة ، كما كان على شاكلته في قصر محبة قلبه على خالقه، حرصا على مرضاته سبحانه وتعالى قبل إرضاء والده ، وقد حازا معا درجة الإحسان عنده جل في علاه القائل : (( إنا كذلك نجزي المحسنين إن هذا لهو البلاء المبين )) ، وكان الجزاء أن فدى الله تعالى الغلام الحليم كي يبقيه قرة عين والده الأواه المنيب .
مناسبة حديث هذه الجمعة هي تذكير المؤمنين بدلالة الحدث المحتفى به عند هم كل عالم في العاشر من شهر ذي الحجة المحرم حين يتقربون بذبائحهم إلى لله تعالى كأنهم يجددون العهد معه على أنهم يمحضون المحبة له دون سواه مما تتعلق به قلوبهم من زينة الحياة الدنيا أولادا أوأموالا ... أوغير ذلك من المحبوبات لديهم، كما أنهم يشهدونه سبحانه وتعالى على أنفسهم بأنهم إذا ما خضعوا للابتلاء، كان منهم الرضى دون تبرم أو جزع رغبة في نيل مرتبة الإحسان عنده سبحانه وتعالى . ولهذا يتعين على المؤمنين والمؤمنات على حد سواء أن يكون إمحاض الحب لله تعالى حال كونهم آباء وأبناء على شاكلة الخليل والذبيح عليهما السلام إذ كل منهم يمر بمرحلة البنوة والأبوة والأمومة .
ولقد أرانا الله تعالى في هذا الظرف الحالي نماذج ممن أمحضوا له الحب على شاكلة الخليل والذبيح عليهما السلام في أرض الإسراء والمعراج حيث رأينا رأي العين المرابطين فيها يقتل عدوهم الظالم الشرس بكل وحشية فلذات أكبادهم، وهم يسألون خالقهم سبحانه وتعالى بقلوب راضية قد غمرتها محبته التي فاقت محبة أبنائهم الشهداء أن يتقبلهم منهم ، لا يعنيهم في ذلك سوى رضاه عليهم ، فلله درهم ، ولا نزكيهم عليه ، وعلى شاكلة هؤلاء في توخي مرتبة الإحسان يجب أن يكون كل مؤمن، وكل مؤمنة في كل ربوع المعمور .
اللهم عجل بجائزتك لعبادك المؤمنين المرابطين في أرضك المقدسة ، لتكون لهم نصرا مؤزرا من عندك تعز به دينك ، وترفع به رايته خفاقة في آفاق عالم حلت به الدواهي بما كسبت أيدي الناس . اللهم أر أعداء عبادك المرابطين الصابرين المحتسبين عجائب قدرتك ، فإنهم لا يعجزونك ، وأر من خذلوهم من المتخاذلين أنك الرزاق ذو القوة المتين ، وأنك رب خزائن السماوات والأرض.
اللهم ألهمنا إدراك حقيقة دلالة عبادة النحر التي تعبّدتنا بها كي تكون لنا عبادة لا مجرد عادة. اللهم لا تجعل غاية همنا في ملأ البطون ، واجعل غايتنا التفاني في طاعتك كما أمرت لا مبدلين ولا مغيرين ، ولا فاتنين ولا مفتونين .اللهم الطف بنا ، ولا تبتلينا بما لا طاقة لنا به ، وإذا ما ابتليتنا بشيء، فارزقنا الصبر والثبات ، والصدق ، واحتساب الأجر عندك .
والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
وسوم: العدد 1127