( ومن أظلم ممن ذُكِّر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه)

( ومن أظلم ممن ذُكِّر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعوهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذاً أبدا )

حديث الجمعة :

اقتضت إرادة الخالق سبحانه وتعالى خلق الإنسان كي يُستخلف في الأرض  مزودا بما يؤهله لهذه المهمة  الجسيمة، وعلى رأس هذا التأهيل تزويده بالملكة العاقلة، والمدركة ، والواعية التي تمكنه من الوعي أولا بذلته وبوجوده ، وبوجود خالقه ، وبالغاية التي من أجلها خلقه ، وبالذي تتحقق به هذه الغاية من أوامر ونواه حددها له  تحديدا.

ولقد شاءت إرادته سبحانه وتعالى أن يكون بينه وبين الإنسان المخلوق تواصل عبر وحي يوحيه  بواسطة ملائكته الكرام إلى صفوة خلقه من الرسل والأنبياء صلواته وسلامه عليهم أجمعين المكلفين بالتبليغ عنه إلى بني آدم من بدء الخليقة إلى نهايتها . وهكذا حصل التواصل بينه  سبحانه وتعالى وبين خلقه بواسطة ألسنة مختلفة  فطرهم عليها ، وعقول متفاوتة الإدراك حسب سلامة فطرتهم . وقوام  هذا التواصل بين الخالق سبحانه وتعالى هو الإقناع بالأدلة، والبراهين ،والحجج التي تقنع عقول بني آدم ، وتقيدها بإقامة الحجة عليها بأن التبليغ عنه قد بلغها ، ولا عذر لها بعد ذلك .

والبشرعبر تاريخهم الطويل صنفان لا ثالث لهما ، صنف يحسن توظيف الملكة العاقلة، والمدركة ،والواعية بتوفيق من واهبها  له سبحانه وتعالى لعلمه السابق ببقائه على الفطرة السليمة التي فطره عليها ، وصنف معطل لتلك الملكة  قد حرم من توفيق الواهب له لعلمه السابق بانحرافه عن الفطرة السليمة . والله تعالى سمى الصنف الأول مؤمنين ، والصنف الثاني كافرين مصداقا لقوله تعالى في الآية الثانية من سورة التغابن : (( هو الذي خلقكم فمنكم كافر ومنكم مؤمن والله بما تعملون بصير )) . والإيمان في حقيقة أمره إقرار واعتراف ، ولا يحصل الإقرار والاعتراف إلا بالملكة العاقلة ، والمدركة، والواعية ، بينما الكفر في حقيقة أمره إنكار، وجحود مرده تعطيل تلك الملكة كما أخبر الله تعالى بذلك في الآية التاسعة السبعين بعد المائة من سورة الأعراف : (( ولقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن والإنس لهم قلوب لا يفقهون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون )) ، وبتعطيل هذه الملكة التي  عمادها قلوب تغفه ، وأعين تبصر ، وآذان تسمع ، ينحذر المعطلون لها إلى مستوى الأنعام غير العاقلة ،  بل إلى مستوى أضل من ذلك .  

ولقد تعدد في كتاب الله عز وجل الحديث عن الصنفين معا ، صنف من أحسنوا توظيف ملكتهم العاقلة ، والمدركة ، والواعية ، وصنف المعطلين لها ، ومما جاء في ذكر هذا الصنف الأخير قوله تعالى في الآية  الكريمة السابعة من سورة الكهف : (( ومن أظلم ممن ذُكِّر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا وإن تدعوهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا ابدا )) ، ففي هذه الآية الكريمة  بيان سر تعطيل الملكة العاقلة ، والمدركة ، والواعية ، وهو الإعراض عن الآيات التي هي أدلة، وحجج، وبراهين ، والإعراض هو الانصراف، وعدم الاكتراث ، ويكون ماديا حين يدير الإنسان ظهره لمن يكون قبالته ، كما يكون معنويا حين ينصرف بذهنه عما يلقى إليه من كلام .

ووفق هذه الآية  الكريمة يعتبر المعطل لملكته العاقلة ، والمدركة ، والواعية واقعا في أعجب ،وأقبح، وأشنع ظلم على الإطلاق  ، وهو ظلم نفسه قبل ظلم غيره حين يحذر من سوء العاقبة بالأدلة، والحجج، والبراهين ، و يعرض عنها ولا يبالي بها ، لهذا جاء التعبير عن هذا الظلم  بقوله تعالى : (( ومن أظلم  ممن ... ))  أي لا يوجد أظلم منه لنفسه ، لأن الذي يحسن توظيف ملكته العاقلة ، والمدركة ، والواعية إذا عرضت عليه الأدلة، والحجج، والبراهين الدالة على ما ينذر به من سوء العاقبة  ، أقبل عليها متأملا ، فاحصا ، متبيّنا . والمعطل لهذه الملكة يفضي به تعطيله لها  لا محالة إلى النسيان الذي ينتفي معه التذكر ، ويترتب عنه الإهمال ، وأقبح نسيان ما نتج عنه إلحاق الإنسان الضرر بنفسه ، والله تعالى يقول في الآية الخامسة عشرة بعد المائة من سورة طه : ((  ولقد عهدنا إلى آدم من قبل فنسي ولم نجد له عزما )) ، ولقد اقترن هنا النسيان عند آدم ،وهو كذلك في ذريته بغياب العزم الذي اختلف المفسرون في دلالته، فقال بعضهم هو الصبر على ما نُهِي عنه ، وقال آخرون هو حِفْظ ما أمر به  ، وبناء على هذا يجتمع في العزم صبر على المنهي عنه ، وحفظ  للمأمور به .

ولقد بيّن الله تعالى حال الناسي ، وهو المعطل لملكته العاقلة ، والمدركة ، والواعية بأنه كالذي على قلبه كِنَانٌ أي غطاء يحجبه عن إدراك  مضامين الأدلة، والبراهين ،والحجج المعروضة عليه ، وكالذي في أذنه وَقرٌ أي صَمَمٌ  يحول دون وصول الكلام الحامل لتلك الأدلة ، والبراهين ، والحجج إليه . ولقد أشار الله تعالى إلى أن الكنان الحاجب لقلبه ، والوقر المصم لسمعه إنما هو جَعْلٌ منه سبحانه وتعالى ، وبيان ذلك أنه خلق من المشاغل ما  يصرف من يعطل ملكته العاقلة ، والمدركة ، والواعية عن التفكير، والتأمل في عاقبة أمره ، وفي هذه الحال لا تنفع دعوة الداعي له حين يدعوه إلي الهداية ويحذره من الضلال وعاقبته الوخيمة  ، وإلى رفع التعطيل عن ملكته .

ومعلوم أن  سبب نزول هذه الآية الكريمة  هو تعطيل كفار قريش ملكتهم العاقلة ، والمدركة ، والواعية، ولكن حكمها ينسحب على كل من يسير على نهجهم في تعطيلها إلى قيام الساعة ، لأن العبرة في كلام الله عز وجل بعموم لفظه ، لا بخصوص سببه .

ومعلوم أن تعطيل هذه الملكة سيظل أمرا ملازما لبني الإنسان على اختلاف أزمنتهم وأمكنتهم ما دامت الدنيا باقية ،وذلك مهما بلغت درجة علمهم ومعرفتهم ، والدليل على ذلك أن بعض الراسخة أقدامهم في علوم المادة أو في علوم الإنسان معطلة عندهم تلك الملكة . ومن استحكام  الأكنة على قلوبهم ، والوقر في آذانهم أنهم  يرفضون إطلاقا  الإنصات لمن يعرض عليهم الآيات أي الأدلة، والحجج، والبراهين الواردة في الذكر الحكيم

وكثير منهم لم يخطر بباله يوما أن يستعرض ما تضمنته الرسالة الخاتمة  المنزلة على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم من آيات دالة على الهداية ، ومنذرة بسوء العاقبة  في حال الضلال . وفي المقابل قد تكون الآية الواحدة  يعيه سامعها سببا  في اهتدائه لحظة انكشاف الكِنان عن قلبه ، والوقر عن أذنه ، ويكفي أن نمثل لذلك بما حدث لأحد السفراء الألمان  في العصر الحديث الذي رأى صبية  في منطقة القبائل بالجزائر يحفظون القرآن الكريم ،وهم متعلقون به أشد التعلق مع أن لغته الأم هي  الأمازيغية ، وليست لغتهة العربية ، ففكر في الاطلاع على القرآن الكريم ، فمرت به الآية الثامنة عشرة من سورة فاطر : (( ولا تزر وازرة وزر أخرى وإن تدع مثقلة إلى حملها لا يحمل منه شيء ولو كان ذا قربى )) ، فكان هذا سببا في تحطيم وهم ظل يؤمن بها طويلا ، وهو حمل المسيح عليه السلام خطايا المؤمنين به كما زعم  ذلك رهبانهم ، وسببا في اهتدائه وإيمانه بما أنزل الله تعالى على خاتم الأنبياء والمرسلين . وما أكثر من انكشفت الأكنة على قلوبهم ، والوقر من آذنهم بسبب تأمل واحد في آية من آيات الذكر الحكيم . وما أكثر من ولدوا  بين أحضان الأسر المؤمنة ، ولكن استحكمت الأكنة على قلوبهم ، والوقر في آذانهم ، فضلوا وأضلوا .

مناسبة حديث هذه الجمعة هو تذكير المؤمنين بما حذر منه الله تعالى، وهو أخطر الظلم على الإطلاق  ، حين يظلم الإنسان نفسه عن طريق تعطيل ملكته العاقلة ، والمدركة ،والواعية خصوصا في هذا الزمن الذي كثرت فيه الدعوات الباطلة التي يدعو أصحابها  إلى الضلال الصُراح والبَواح تحت شعارات مغرية من قبيل التنوير ، والحداثة ، والتحرر ، والتقدم، والتحضر ، والتقدم  ... إلى غير ذلك مما ابتدعه الضالون المغرضون ، وهم ممولون من جهات خارجية  تضمر العداء لدين الإسلام والحقد عليه ، وعلى أهله من المؤمنين من أجل إشاعة البوائق  في الأمة المسلمة ،بدءا بانحطاط القيم الإسلامية  ، ومرورا بكل المفاسد على اختلاف أنواعها وأشكالها ، وانتهاء بالكفر والشرك ، وكل ذلك من ظلم النفس البشرية التي فطرت على الفطرة السوية .

 وإن طوابير الضلال الخامسة المندسة في المجتمعات المسلمة تعمل ليل نهار ، دون كلل أو ملل ،وتبذل  قصارى جهودها ، وكل ما في وسعها من أجل طمس معالم الشخصية الإسلامية  خصوصا لدى الشبيبة المسلمة مستغلة غِرَّتها ، وقلة  تجربتها في الحياة ، وضيق أفقها العلمي والمعرفي ، واستهواء كل أنواع اللهو لها ،  و فضلا عن استغلال عنفوان غرائزها خصوصا غريزة الجنس ... كي تمرر إلى قلوبها وأذهانها كل ما يفسد فطرتها السوية ، وقد جندت لذلك وسائل الإعلام ووسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت قيودا تقيدها ، وتستخدم ككمائن أو شراك في منتهى الخطورة للإيقاع في كل أنواع المفاسد غير المسبوقة ، وذلك في غياب  فعالية أدوار أولياء الأمور من آباء وأمهات ، ومربين ... وغيرهم ، و مع دس أنواع  خبيثة وماكرة من المفاسد في المناهج الدراسية ، وفي غياب دور المؤسسات، والمنابر الدينية المنشغلة عن مواجهة تلك المفاسد المهددة  للناشئة ،بأنواع من خطاب القطيعة مع الواقع المعيش والتتغريد بعيدا وعما  يتطلبه الظرف الدقيق الذي تمر به أمة الإسلام  المهددة في هويتها ، وفي مقدساتها ، وفي ثوابتها  ، ودون تدارك  خطر تدمير الأسر التي هي نواة المجتمع الصلبة  ، و دون التصدي للإجهاز غير المسبوق على القيم الإسلامية  ، في زمن استقواء قوى الشر في العالم .

و لهذا، ما أحوج أمة الإسلام إلى خلع الأكنة عن القلوب  ، والوقرعن الآذان ، من أجل الإصغاء إلى آيات الله عز وجل بالملكة العاقلة ، والمدركة ، والواعية  تجنبا للسقوط في آفة ظلم النفس ، وتعريضها للهلاك في الدنيا، ولهلاك الآخرة أشد .

اللهم الطف بنا يا لطيفا بالعباد ، ولا تجعل يا مولانا على قلوبنا أكنة ، ولا في آذاننا وقرا، يحول بيننا وبين استيعاب آياتك البينات ، اللهم إنا نسألك هداية من عندك تحول بيننا وبين ظلم أنفسها ، وتنجينا مما درأت له كثير من الجن والإنس.

اللهم وانصر المجاهدين في سبيلك  في أرض الإسراء والمعراج نصرا تعز به دينك ، وتذل به من يعاديه ، ويمكر به  من كفار ومنافقين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .  

وسوم: العدد 1127