صور من التربية
قصص رواها النبي صلى الله عليه وسلم
القصة الحادية والأربعون
صور من التربية
   
د.عثمان قدري مكانسي
   
   
   othman47@hotmail.com 
أراد الشيخ أن يختبر تلميذه بعد أن قضى فترة بصحبته يعلمه ويرشده ، ويعرض عليه طرق
التربية وفنون التعامل مع الناس ، فقال : 
 
يابني ؛ ما تقول في إنسان أخطأ حين أساء إلى غيره ، أيُعاقب وحده أم يُجمَل معه في
العقوبة غيرُه لقرابته منه ، أو لانتسابه إلى أهله وعشيرته ، أو لجنسه ووطنه ؟ . 
قال
التلميذ : بل يُعاقب المسيء وحده ، ومن الظلم معاقبة غيره بسببه ، فالله تعالى يقول
: 
 "
ولا تزر وازرة وزر أخرى " . 
قال
الشيخ :  
أحسنت ، فما تقول لرجل أراد أن يشكرك لجميلٍ صنعتـَه له ، فأخطأ دون أن يشعر ،
أتعود لمعاقبته أم تنبهه؟ . 
قال
التلميذ : 
 قد
أنبهه إن لزم الأمر ، وأتركه متجاوزاً عنه ، إذ ْ جانبه الصواب حين أراد شكري ، وقد
يكون خطؤه قولاً ، وقد يكون عملاً ، فعليّ تصحيح عمله ، والتجاوز عن قوله . 
 
قال
الشيخ : 
أحسنت أيضاً – يا ولدي – فما تقول في إنسان أخطأ عن عمد في الإساءة إليك ؟ 
قال
التلميذ : 
أعاقبه إن قدِرت ، وأكيل له الصاع صاعين ، ولا أبالي ، فهو يستحق ذلك .  
قال
الشيخ : 
أيدك الله ، يا بني ، فما تقول أخيراً في رجل كان ظاهره غيرَ باطنه . نفع الناس
بقوله ، وضرّ نفسَه ، إذ ْ كان فعلُه غيرَ قوله .  
قال
التلميذ : 
على
نفسها جنت براقش ، فهو كنافح المسك على غيره ونافخ الكير على نفسه . 
قال
الشيخ : 
حفظك الله - يا بني – وزادك علماً وحُسْنَ عمل ، إني بك لفخور ، ولك داعٍ ، وبك
مؤملٌ الخير الكثير . 
قال
التلميذ :  
أفلا تذكر لي – يا سيدي – أمثلة على ما امتحنْتني فيه ؟. كي أستفيد أمثلة تضيء لي
دربي ؟ 
قال
الشيخ : 
بلى
.. فلكل سؤال حادثة رواها النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه ، فكانت الضياءَ الذي
سلكوا على هداه طريقهم . والمنهج الذي اتخذوه ، فأوصلهم إلى الهدف الصحيح . 
 
أما مثال السؤال الأول 
:
 
فقد
قص علينا الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم أن نبياً من الأنبياء صلوات الله عليهم
جميعاً نزل تحت شجرة  ، فما استقر جالساً حتى قرصته نملة ، فاستشاط غضباً ، وقام من
فوره ، فأمر أتباعه أن يرفعوا مجلسه ، ففعلوا ، فنظر إلى أسفل الشجرة ، فرأى النمل
يسير بانتظام ، يحمل قوته إلى بيته أسفل الشجرة ، ويعمل بدأَب ونشاط ، صاعداً
نازلاً ، مغرّباً ومشرّقاً ، ولعل نملة تأذ ّت حين جلس فوقها النبي ، فقرصته خوف أن
يطحنها ، فلم يتمالك نفسه أن أمر أتباعه أن يُضرموا النار في بيت النمل ، ففعلوا ،
فأحرق النمل ، وقضى على آلاف منه .  
فأوحى الله تعالى إليه معاتباً ومعلماً : " فهلاّ نملةً
واحدة " رأيتَها تحتك ، فقتلتَها قصاصاً ؟! ما ذنب ما قتلته حرقاً ، إنه ظلم
بيّن ، وتصرّف لا ينبغي أن يكون .  
صحيح البخاري ، كتاب بدء الخلق 
باب
إذا وقع الذباب في إناء أحدكم 
قال
التلميذ : 
هلاّ أوضحت أكثر يا سيدي وبيّنتَ من العبَر والعظات ما يفيد ؟. 
قال
الشيخ : 
هذا
واجب العلماء نحو تلاميذهم وعامّة المسلمين يا ولدي . 
فقد
علمنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في هذه القصة : 
1-         
أن العقوبة لمن اعتدى وأثم ، أما البريء فلا يُؤخذ بجريرة غيره . 
2-   
وأن النمل – كغيره من المخلوقات – أمم أمثالُنا ، تسبّح الله وتحمده . فيجب الحفاظ
– ما أمكن – عليه .  
3-         
أنه لا يعذِّب بالنار إلا رب النار ، هذا في شريعتنا – معشر المسلمين – ويعاقَب
المسيء فقط . 
قال
التلميذ : 
جزاك الله – يا شيخي – خيراً ونفعنا بعلمك ,.... 
قال
الشيخ : إن مدحتَني بما ليس فيّ قصمت ظهري ... ثم قال الشيخ : 
أما مثال السؤال الثاني 
: 
 فقد روى النبي صلى الله عليه وسلم أن الله تعالى يفرح بعودة المسيء إلى رحاب عفوه
، وتوبته عن المعاصي كثيراً ، ومثـّل له بفرح الرجل الذي أضاع راحلته في الصحراء
،وعليها ماؤه وزاده ، فلما أيس من الحياة أعاد الله إليه راحلته ، فأخطأ الرجل حين
أراد شكرالله تعالى . 
قال
التلميذ : 
وكيف ذاك يا سيدي ؟ 
قال
الشيخ : 
سافر رجل وحده في صحراء مترامية الأطراف – والسفر الفذ ّ( الفرد) ليس حميداً ، وقد
وصف الرسول صلى الله عليه وسلم المسافر وحده ، فقال : هو شيطان – سافر حاملاً على
بعيره ما يحتاجه من ماء وزاد ، اخترقها يريد الوصول إلى مبتغاه في الطرف الآخر منها
، جدّ السير فيها ، حتى إذا أدركتـْه القالة ( القيلولة ) ربط راحلته إلى ظل شجرة
ونام ، وكان نومه طويلاً عميقاً ، لم يصحُ منه إلا وقد انفلتت الراحلة ، وغابت عنه
، فقام مشدوها فزعاً ، يبحث عنها هنا وهناك ، فلم يجدها .. انطلق إلى أعلى كثيب
شرقاً ونظر إلى البعيد ، فلم يجدها ، وانطلق إلى كثيب في الغرب يرجو أن يعثر عليها
، فخاب ظنه . هرول في كل الاتجاهات عله يعثر عليها أو على أثرها ، فعاد بخفي حنين .
 
عاد
إلى الشجرة كليلاً مرهقاً ، خسر راحلته ، وخسر معها زاده وماءه ، ، وأيقن بالهلاك ،
فارتمى مكدوداً حزيناً ينتظر الموت ، ويندب حظه ... وأخذه النوم مرة أخرى . 
لما
أفاق ، وجد راحلته ، فوق رأسه ، فلم يصدّق حتى أخذ بلجامها ، وتحسسه مرات ومرات ،
فلما تيقن أنه نجا من الموت عطشاً وجوعاً وعادتْ إليه روحه ، وأخذه الفرح كل مأخذ
قال من شدة فرحه يشكر ربه سبحانه : " اللهم أنت عبدي ،
وأنا ربك ؛ أخطأ من شدة الفرح " . 
إن
الله تعالى أشد  سروراً ، وأكثر فرحاً بتوبة عبده وعودته إليه - إلى التقوى والرشاد
- من هذا الرجل بعودة راحلته إليه ... 
رياض الصالحين ، باب التوبة  
قال
التلميذ : 
سبحان الله ، لا إله إلا الله ؛ ما أكرم خالقنا ، وما أعظم عفوه ...  
تبت إليك يارب ، فاقبلني في عبادك الصالحين  
ثم
التفت إلى شيخه ، فرأى عينيه تدمعان وشفتيه تلهجان بذكر الله رب العالمين ...
فانتظر قليلاً حتى هدأ الشيخ ... ثم نظر الشيخ إليه ، فقال :  
أما السؤال الثالث
:  
فمثاله ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال :  
إن
امرأة تحجّر قلبُها ، فكأنه قـُدّ من صخر ، وغادرتـْه الرحمة ، فأمسى كهفاً مظلماً
، لا يعرف للخير سبيلاً ولا للمعاني النبيلة طعماً ، طرقتْ بابَه الشفقةُ ، فصُدّتْ
عنه ، ، وعشعشت فيه الكراهية ونمَتْ .. لعل هرة أكثرَتْ الدخول عليها ، فطردَتـْها
! ثم طردَتها ، والحيوان أعجم لا تدفعه سوى غريزته ، تستقطبه الرحمة فيُقدِم ،
ويمنعه الأذى فيهرب . والهرة أَلوفٌ – من الطوّافات – تدخل البيوت دون استئذان ،
فإن رأتْ ترحيباً من أهل الدار أقامت ، وإن رأت إعراضاً ولّتْ . أمّا أنْ تمسكها
هذه المرأة القاسية ، فتربطها وتمنع عنها الماء والطعام ، وتسمع مواءها ، فلا تكترث
، وأنينها فلا تهتم ، حتى تذبل وتذوي ، فتموت صبراً ، فهذه غاية القسوة ، ونهاية في
الظلم .  
كان
أولى بها أنْ تتركها في أرض الله تأكل من هوامها وحشراتها ، تتصيّدها هنا وهناك ، ،
ولن تعدم في أرض الله الواسعة ما يقيم أَوَدَها ، ويكفيها مؤونتها . 
إن
الإسلام العظيم نبّه - فضلاً عن حقوق الإنسان في العيش الكريم والحرية – إلى الرفق
بالحيوان ، فلا يحمـّله ما لايُطيق ، ولا يشتدّ عليه بالضرب ، ومن لم يكن كذلك فليس
له من الإنسانية نصيب .  
وقد
رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة في النار تخدشها هرة ، فقال : ما شأن هذه ؟
 
قالوا : حبسَتها حتى ماتت جوعاً ، لا أطعمتـْها ، ولا أرسلَتـْها تأكل من خَشاش
الأرض حتى ماتت ..والبون واسع بين مَن نزل في البئر ، فسقى الكلبَ ، فغفر الله
تعالى له ، وبين هذه المرأة ، نعوذ بالله من مصير كمصيرها .  
1-
صحيح البخاري 
كتاب بدء الخلق ، 
باب
إذا وقع الذباب في إناء أحدكم  
2-
صحيح مسلم  
كتاب الكسوف  
باب
ما عرض على الرسول في صلاة الكسوف 
وقال الشيخ : 
أما السؤال الرابع 
: 
فمثاله ما رواه النبي صلى الله عليه وسلم مصوراً الذي يأكل الدنيا بعلمه ، ولا يعرف
لله وقاراً ، ولا للآخرة سبيلاً . 
قال
التلميذ : 
فما
عاقبة هذا العالم – يا سيدي - ؟ 
قال
الشيخ :  
قال
النبي صلى الله عليه وسلم :  
يُجاء بالرجل يوم القيامة ، فيُلقى في نار جهنم ، ويَلقى من العذاب ما يَلقى ،
فتندلق أمعاء بطنه في النار ، ويحترق أديمُه وأحشاؤه ، إنه ملأها في الدنيا ما لذّ
وطاب من الحرام ، حين أظهر للناس التقوى ، فغشّهم ، وأبطن الهوى ، وتمادى في
الضلالة ، ففضحه الله على هذه الصورة ، يراه الناس يدور بأقتابه ( أمعائه) في النار
، كما يدور الحمار برحاه ، فيدنون منه ، ويتعجبون . 
من
يراه على هذه الصورة – وكانوا يعرفون فيه الصلاح والتقوى في الدنيا ، فقد كان
سَمْتُه سمتَ العلماء ، ومظهره مظهر الأتقياء ، وكان منظره  في الدنيا يدل على
الاتزان والوقار ، فما باله الآن هكذا؟!! - يجتمعون عليه ويسألونه متعجبين : لئن
صرنا في النار الآن لقد كنا في الدنيا نعمل بعمل أهلها فاسقين فاسدين ، فما بالك
اليوم بيننا في النار ؟! كنت تأمرنا بالمعروف ، وتنهانا عن المنكر ! تحضنا على
الصدق والأمانة ، ونبذ الفساد والخيانة ، وكنت تأمرنا بصون اللسان ، وغض البصر ،
وحفظ الفرج ، وحُسن الطويّة !! كنت تنهانا عن الغيبة والنميمة والفواحش ، وتنهانا
عن أكل حقوق الناس وتنفـّرنا من ذلك !! فما شأنك ؟ وما الذي قذفك بيننا؟! 
 
وهناك – والعياذ بالله من هذا المصير الأسود والفضيحة الكبيرة – حيث لا يستطيع
الإنسان أن يُخفي حقيقته ، أو يُدلّس على الناس ، هناك في النار حيث المستور مكشوف
، والباطن معروف ، ولا مجال للإنكار ، والتزيي بزي الأبرار ، يقول واصفاً حقيقة
حاله في الدنيا بكلمات مختصرة اللفظ ، واضحة المعنى " 
كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر ، وآتيه " ... 
إن
النار مصير مَن يُدعى إلى مكارم الأخلاق ، فيرفضها ، ويغرق في المفاسد .. وهي –
النار - أَولى بمن يدّعي الصلاح ظاهراً ، ويأكل الدنيا بالدين باطناً .. لقد أساء
إلى نفسه ، وخسر ذاته . 
وإن
حسرته على ما فرّط أشد من حسرة أولئك ، ولا سيّما حين يعلم أنّ مَنْ أخذ بنصيحته
نجا ، وفاز بالجنة ونعيمها ، وفاز برضا الله ورحمته ... وهو .. هو في نارٍ تلظّى ،
لا يصلاها إلا الأشقى .. 
ويرفع الشيخ وتلميذه أيديَهما ، يدعُوانِ: 
اللهم اجعل سرّنا كعلانيتنا ، وارزقنا التقوى ، والصدق في القول والعمل ، ونجّنا
برحمتك من النار ... يا عزيز ياغفار .  
صحيح البخاري  
باب
بدء الخلق ، 
باب
صفة النار وأنها مخلوقة 
        
        
	
	![]()