تفسير سورتي ( العاديات ـ الكوثر )

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورتي ( العاديات ـ الكوثر )

الجمعة 10 محرم 1397 / 31 كانون الأول 1976

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

       إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون ، أما بعد أيها الإخوة المؤمنون :

       نواجه اليوم السورة الرابعة عشرة وهي سورة العاديات ، ولقد تهديت حيال قصار السور إلى أسلوب في العرض وجيز ، لا أدري أيقع منكم موقع الرضى أم أنتم تنكرون ذلك ؟ عموماً أنا راغب أن أقف فحسب عند المعالم البارزة في سياق الدعوة مركزاً الأضواء بصورة خاصة علـى القوانين الأساسية التي تحرك الدعوة ، وغاية من هذا القبيل لا يعنيها في شيء أن تطيل عند التفصيلات والجزئيات ، وإن كانت هذه التفاصيل تحمل إغراءات لا تقاوم . فلنجرب وفي ذهننا قاعدتنا الأولى في النظر إلى كتاب الله وفي أحداث السيرة وهو أننا ننظر إلى الحركة في إطارها كله وننظر إلى القرآن في سياقه كله ، ونجهد أن نربط آيات الكتاب بعضها ببعض وأن لا نعدو عن المعاني الأساسية التي تفيدها هذه الارتباطات ، فنعمل فيها يد التمزيق والبتر والتشتيت ثقة منا أن ذلك يجني على كليات الدعوة وعلى كليات القرآن ، ونقول الآن مستعينين بالله جل وعلا .

       عندنا الآن السورة الرابعة عشرة التي هي العاديات ( والعاديات ضبحاً ، فالموريات قدحاً ، فالمغيرات صبحاً ، فأثرن به نقعاً ، فوسطن به جمعاً ، إن الإنسان لربه لكنود ، وإنه على ذلك لشهيد ، وإنه لحب الخير لشديد ، أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور ، إن ربهم بهم يومئذٍ لخبير ) وبعد هذه السورة نزلت في جملة من سور القرآن القصيرة ، نزلت الكوثر ( إنا أعطيناك الكوثر ، فصلِ لربك وانحر ، إن شـانئك هـو الأبتر ) ونزلت سـورة الماعون ( أرأيت الذي يكذب بالدين ، فذلك الذي يدع اليتيم ، ولا يحض علـى طعام المسكين ، فويل للمصلين الذين هم عن صلاتهم ساهون ، الذين هم يراؤون ويمنعون الماعون ) نزلت سورة الكافرون ، المعوذتان الفلق والناس ، الإخلاص ( قل هو الله أحد ، الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ) إلى آخر هذا السياق من قصار السور . لن ندخل في التفصيلات ، ولكن نحب أن نلفت أنظار إخواننا إلى جملة من الظواهر تبدّت في هذه الدراسة التي مضت ، وهي مع كل خطوة من الخطوات التي نخطوها تزداد وضوحاً .

       إن هذا القدر من السور ( أي قصار السور ) استغرق من عمر الدعوة ما لا يقل عن ثلاث سنوات ، والدعوة خلال هذه المدة عاشت بين عواصف شديدة وزعازع تقتلع الجبال ، عاشت بين قوم يكرهونها ويبغضونها ويكيدون لها ولا يتوانون عن اسـتخدام أي نوع من الأسلحة لكي يقضوا على الدعوة وعلى أصحابها ، ولكن العجيب الذي يلفت النظر أننا حين نضع لوحة ما مضى أمام أنظارنا ونحاول أن نضيف إليها ما تشيعه الآيات والسور فإننا نلاحظ أن أسلوب العمل وطريقة العمل ، طريقة تناول الأمور وسـياسة تهذيب النفوس ، ومعاملة الخصوم ، كل ذلك يقع من الناس موقع الغرابة لأن الناس لا عهد لهم بأسلوب من هذا القبيل . لقد كان منظوراً لو أن الدعوة كانت على غير هذا الشكل ، أن يأخذ الصراع ألواناً أخرى وأن يجري مع الناس حيث جروا ، ولكنا وجدنا الأمر على خلاف ذلك ، إنه وبعد أكثر من عشر سور من القرآن الكريم وجدنا من حيث النتيجة نتلمس طريقنا نحو التعرف على الصورة الأولية لهذا التكوين الجديد ، وجدنا هذا الإسلام يتجه نحو تكوين المجتمع الخاص به القائم على عقائده وشعائره وأخلاقياته الخاصة ، ولكن الشيء الذي يلفت النظر بشدة أن هذا المجتمع لم يكن يكترث كثيراً بهذه الخصومة الحاقدة التي تموج من حوله بالشر ، لا أقول أنه أغفلها ، ولا غفل عنها ، ولكنه لم يعطها بالاً . حسبك أن تنظر إلى ما مر ، الشيء الأساسي الذي اهتمت له الدعوة وعني به القرآن وأكّد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم في أفعاله وأقواله ومواقفه هو أن يؤسس نقطة الافتراق بين ما ينبغي عليه في الجاهلية وبين ما ينبغي عليه أن يكون في الإسلام ، فكانت هذه النقطة هي الإيمان بالله تبارك وتعالى ورفض الشرك والوثنية وسائر المذاهب التي لا تستقيم على أساس الوحي .

       والشيء الثاني الذي ركّزت عليه الدعوة وأكّدته آيات الكتاب وركّز عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً هو ضرورة تغيير ما في النفس ، وهذه نقطة ذات أهمية بل لعلها المفرق الذي يميز الإسـلام عن كل مناهج الأرض ، فهو يرى أن النفوس الخربة لا تصلح لتأسيس المجتمعات السليمة ، وأن الناس الذين يتسمون بهشاشة الطبع وسذاجة التكوين لن يكونوا رواداً في أعظم ميدان خاضته البشرية حتى الآن ، فمن هنا كان تأكيدنا منذ البداية على أن الإسلام أعطى المعركة داخل النفس أولوية مطلقة لا تعلو عليها معركة أخرى ولا يتقدمها اعتبار آخر ، فالبناء الجديد يحتاج لكي يدعم ويشيد إلى عناصر من لون خاص . لقد تغير جيل الصحابة تغيراً كاملاً عما كانوا عليه في الجاهلية .

        إن المجتمع الجاهلي يغلي بالحقد والضغينة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يعذبون الصحابة أشد التعذيب ، ولكن القرآن لم يكترث بهذا ، اقرأ سورة العاديات ، ماذا ترى ؟ ( إن الإنسان لربه لكنود ) أي جاحد لنعم الله ( وإنه على ذلك لشهيد ) مجمل سلوكه يشهد بانصرافه وبغفلته عن الله تعالى ، وبالتالي عدم الوفاء بما طلب الله منه ( وإنه لحب الخير لشديد ) إن عبقرية اللغة كلها تتجمع في كلمة الخير ، يقولون هي المال الكثير ويقولون كذا وكذا ، ولكن لو رجعنا إلى الربط بين سورة العصر وما حددته من قسم الناس إلى قسمين ، قسم يرتضي بالله تعالى وهو من الذين آمنوا بالله وعملوا الصالحات وتواصوا بالحق والصبر ، وقسم آخر يضم كل فئات الناس الضالة عن منهج الله تعالى ، فالله يقسم عليهم أنهم لفي خسر ، وأن طرائقهم لا تنتج شيئاً للبشرية . ولو رجعنا إلى هذا وربطناه بالآية ( وإنه لحب الخير لشديد ) نجد أن الخير يتسع ليشمل كل ما يختاره الإنسان لنفسه ، ولكن جاء هنا في معرض الذم والقدح لسلوك الإنسان ، فإذا كان المراد بالخير هو الخير الذي اختاره الله فالكلام فيه مناقضة يتعالى عنه كلام الله جلّ وعلا ، ولكنك حين تريد أن تحقق الانسجام والتناسق والتآخي بين كلمات الله وآيات الله تجد أن الخير هنا هو ما يختاره الإنسان لنفسه مفصولاً عن حقائق الوحي وهداية السماء .

       ( أفلا يعلم إذا بعثر ما في القبور ، وحصل ما في الصدور ، إن ربهم بهم يومئذ لخبير ) صورة رهيبة ، إن الله يأمر الملك بالنفخ في الصور فتنشق الأجداث عن أصحابها وتقف ليوم الحساب ، لكن القرآن هنا يصرف النظر عن هذا التعبير القريب ليتناول القضية بتعبير يترك ظلاله وانطباعاته الرهيبة في نفس القارئ والسامع إذا بُعث ما في القبور ، كيف تبعثر الشيء ؟ تبعثره دون نظام ودون تنسيق ، تبعثره وأنت غير راضٍ أن تضع هذه قبل هذه وبعد هذه ، وإنما تبعثر الأمر هكذا كيفما اتفق ، يوم القيامة يوصف بهذه البعثرة التي تعبر عنها الحروف التي جاءت لتكوّن كلمة ( بعثرة ) بكل ما فيها من شدة وما أشبه ذلك ، فالله جلّ وعلا يريد أن يوقظ ما في نفس الإنسان . تصور هذا المصير الذي ينتهي إليه الناس والذي يعبر الله فيه عن علمه لا بالتعبير المألوف من أن الله يعلم ، لا ، وإنما يعبر عنه بتحصيل ما في الصدور ، كيف تستل الشيء رغماً عن صاحبه فتحصله وتحوزه ، فالله جلّ وعلا سيستخرج منك رغم إرادتك كل ما أضمرت وعملت في هذه الحياة .

       ماذا تفيد هذه السورة في مرحلة الدعوة ؟ إننا في مرحلة الدعوة أمام قطاعين منها ، جاهلية هنا وإسلام هنا ، وما من شك في أن أية نظرة إلى وقائع السيرة تكشف عن أرضية الجاهلية التي تتفجر من تحت أقدام المسلمين حمماً وبراكين ونار تلظى ، فأين الكلام عن هذا ؟ أين الكلام عن تعذيب المسلمين والتنكيل بهم ؟ لماذا غاب الكلام عن هذا في كتاب الله ؟ الكلام كان ينصب على مجتمع المسلمين فقط دون أي ذكر لما كانوا يعانونه من عذاب . هذا المجتمع الذي بدأ يتكوّن . دعك من هذا ، وانصرف إلى السورة الأخرى وهي الكوثر .

       ( أنا أعطيناك الكوثر ، فصلّ لربك وانحر ، إن شانئك هو الأبتر ) أتى الكلام هنا بشارة للنبي صلى الله عليه وسلم بأنه أعطاه الكوثر ، وسواء أصحّت الأحاديث التي وردت في أن الكوثر نهر في الجنة هو لمحمد صلى الله عليه وسلم أم لم تصح ، فيجب أن نقف مع دلالة اللغة في وضعها الأصلي لنتعرّف على معنى الكوثر ، ويجب أن نعرض هذا المعنى على المواضع التي حينما تنزّلت السورة ، فالكوثر كلمة مأخوذة من المادة ( كثر ) وهي تدل على الكثرة والنماء ، والكوثر صيغة مبالغة ، تقول أعطيت فلاناً شيئاً كثيراً أي هو شيء زائد ، ولكنك حين تقول : أعطيته الكوثر فأنت تريد بذلك أنك أعطيته ما هو أكثر من الكثير ، سلوا أنفسكم ، ما خصائص الواقع الذي كان حين تنزّل هذا الكلام ؟ إن المشركين ما تورّعوا عن رفع أي سلاح يتوهمونه أنه ينفعهم في معركتهم مع هـذا الدين ، نعود إلى سيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، ولد يتيماً ، ولم تمهله أحداث الأيام حتى ماتت أمه ، وعاش يتقلب في أحضان الأوصياء ، الجد والعم كما تعلمون ، ثم تزوج ، وأنجب الأولاد والبنات ، ولكن شاءت إرادة الله أن يأخذ منه الذكور ، وكما تعلمون أن مجتمع الجاهلية يرى الذكر غنماً وعزاً يحمي أهله ، ويكون الرجل الذي لا ذكور عنده مسـتضعفاً ذليلاً ، هؤلاء المشركون لو كان عندهم بقية أحاسيس لراعوا شعور هذا الجانب من محمد صلى الله عليه وسلم . كان المشركون يمرون بالنبي صلى الله عليه وسلم فيهمز بعضهم إلى بعض ويقولون : دعوه فهو قليل وإن أولاده الذكور يموتون وإن الإناث لا يشكلن عصبة ، والعرب قالت قديماً :

بنونا بنو أبنائنا وبناتنا     بنوهن أبناء الرجال الأباعد

     فليكن لمحمد مائة ابنة وليزوجهن لمائة رجل وليكن عند بناته مائة رجل فما فائدة ذلك ؟ إنهم لن يكونوا مع محمد بل يكونون مع آبائهم .

    وهذا يعني أن ذكره سينقطع بعد موته لأنه لا عقب له من الذكور فهو أبتر . هذا السلاح الوسخ القذر الدنيء كان يرفع في وجه محمد صلى الله عليه وسـلم ، وخيراً ما فعل المشركون ، إن المشركين حين قالوا هذا فتحوا النافذة واسعة لكي تأصل قضية هامة من قضايا الإسلام ، وقضية هامة من قضايا الإنسانية ، ما الكثرة وما القلة ؟ من هو الأبتر ومن هو الباقي ؟ إن الدنيا شهدت الملايين من الناس ، وتمتع منهم بالنعيم والحشم والسلطان والجاه وكان لهم بنون كثر يحوطونهم ويذودون من حولهم ، وطوتهم أحداث الزمان ومضوا كأنما لم تطأ أقدامهم ظهر هذه الأرض ، وأصبحوا منسيين في التاريخ . فالكثرة بهذا المعنى الفج لا تعني أي شيء . ومن هو الأبتر ؟ هل البقاء والخلود هو أن يكون لك أولاد وأحفاد وهكذا .. ؟ إن كثيراً من الناس كان لهم مثل هذا ، ولكن لم يغنِ عنهم ذلك شيئاً ولم يترك لهم في العالمين ذكراً . فأراد الله جل وعلا أن يقرّ الأمر في نصابه ، إن الكثرة لا ترتبط بالذرية ، وفي المستقبل سوف يقرأ المسلمون القرآن وهو يتنزل عليهم أن بني إسرائيل يوم أن واجهتهم الدعوة الإسلامية في المدينة كانوا يرفعون في وجه النبي صلى الله عليه وسلم هذا السلسلة النسبية ويقولون نحن أولاد إبراهيم أبي الأنبياء صلوات الله عليه وأبناء إسـحاق ويعقوب والأسـباط ، فردّ الله عليهم في القرآن ( تلك أمة قد خلَت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يفعلون ) وكان أحد أنبياء بني إسرائيل ـ حينما تبجحوا على الرسالة بأنهم أولاد إبراهيم ـ كان يقول لهم : إن الله قادر على أن يخلق من هذه الحجارة أولاداً لإبراهيم . فالبنوة قد تكون عاراً وشناراً وقد تكون بلاءً ، والعبرة لا تكون هنا والكثرة ليست هنا ، الكثرة أن يكون من حولك أُناس يحبونك ويفتدونك بالأرواح ، لا لشخصك وإنما للمعنى الذي يحمله شخصك ، وانقطاع الذكر شيء لا يتصل بالذرية لا من قريب ولا من بعيد ، والله جل وعلا يقص على المسلمين من نبأ نوح عليه السلام حينما أمر الله أن تتفجر عيوناً والسـماء أن تتنزل مـاءً مدراراً ، نادى نوح ربه ( قال رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أرحم الراحمين ، قال إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألني ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين ) فمسألة البنوة والأبوة لا قيمة لها في معايير الحق وموازين العدل الذي قامت عليه السماوات والأرض ، ودوام الذكر وانقطاع الذكر شيء لا يتصل بهذه الشخوص الفانية . وإنما يتصل بالحق الذي يحمله الإنسان . محمد كما تقولون يا معاشر المشركين رجل ليس له ذكور من الأولاد ، وبالفعل فهو سيموت يوم يموت وليس له ولد ، حتى ابنه إبراهيم الذي رزقه الله على الكبر وكان عليه الصلاة والسـلام يؤمل أن يكون له قرة عين له وسكناً لنفسه ، حتى هذا الولد الأخير الذي جاءه من مارية مات قبل أن يمشي على الأرض . لو أن هذا الذي تقولونه صحيح لانقطع ذكر محمد ، ولكنكم وأنتم تتحدثون بهذا الكلام تسمعون ذكر محمد يخترق القبائل ويجوب الآفاق ، ومضى الزمان كله ونحن نسمع الآن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم يتردد في أرجاء الدنيا خمس مرات في اليوم والليلة ، والناس بالملايين يصلون على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهؤلاء الخصوم الذين قالوا هذا القول مضوا بالرغم ما كان لهم من أبناء وأحفاد لا يذكرهم الناس ، وإذا حفظت صحف التاريخ أسماءهم فإنما يُذكرون باللعنة . أي الفريقين أكثر خيراً ؟ أنتم يا معاشر المشركين الذين تتكاثرون بأولادكم وأموالكم أم محمد صلى الله عليه وسلم الذي له الأتباع الذين لم يلدهم ولادة جسدية وإنما بالروح والدعوة والإسلام ؟ من هو الأدوم ذكراً والأبقى صوتاً ؟ أأنتم يا أيها الناس الذين تنبذون محمداً بهذا القول والذين سوف تطويكم يد الزمان كما تطوى أية قذارة على الوجود ؟ أم محمد صلى الله عليه وسلم الذي ينطوي الزمان كله ولا ينطوي ذكره من سمع الزمان والذي يقف الخلائق يوم القيامة وقد أخذهم الكرب والهول فلا يجدون ملجأ من الله إلى إليه عليه الصلاة والسلام ليشفع لهم عند الله تعالى ؟ فأين إذاً مقاييس الجاهلية ؟ فالظاهرة هنا : خذ مثلاً ســورة الفلق ، سورة الناس ، إنها تعويذات تربط هذا القلب الطاهر ، قلب محمد صلى الله عليه وسلم  بالتوكل على الله تعالى بأن يلتجئ إلى الله ويستعيذ بالله من شر الوسواس الخناس الذي سلط على الإنسان ومن شر الحاسدين ، خذ مثلاً سورة الإخلاص ( قل هو الله أحد الله الصمد ، لم يلد ولم يولد ، ولم يكن له كفواً أحد ) ماذا تجد ؟ وصف لله تعالى بما ينبغي أن يوصف به من جليل الصفات ، خذ إليك بقية السورة ثم اسأل نفسك : إلى أي قطاع ينتمي هذا الكلام ؟ أين كان القرآن عن المعركة الدائرة ؟ ألا يقيم لها وزناً ؟ ألا يحسب حساب أخطارها ؟ إنها مشكلة كبرى صادفت الدارسين للإسلام . وهي سر الفرق بين الإسلام وبين غيره من الدعوات . إن الإسلام لا يبني لفترة من الزمان محدودة ولا لبقعة من المكان محصورة ، وإنما هو يبني للأبد ولكل الناس .

       حين كان الصحابة يرون ما ينصب عليهم من البلاء ونحن الآن نتصوره تصوراً ، وفرق هائل بين الذي يتصور الحادثة تقص عليه ويتأثر لها ، ولكن تأثر الذين تنصب أسواط العذاب على ظهورهم وجنوبهم وجلودهم أشد وأعظم هولاً . هؤلاء الأصحاب حينما كانوا يريدون أن ينساقوا مع النازع البشري الذي يسوقهم إلى رد العدوان بالعدوان كانت يد الوحي تلوي زمام هؤلاء الناس لياً عنيفاً ، وكانت العين الباصرة الكريمة عين محمد صلى الله عليه وسلم تلاحظ هؤلاء الأصحاب وترى هذا الذي يحل بهم ولكن ، أيملك محمد صلى الله عليه وسلم أي خيار في الموضوع ؟ إن محمد صلى الله عليه وسلم أداة في يد القاضي وإن المسلمين أداة في يد القاضي ، وإن الله تعالى اختارهم لكي يضعهم في طريق هو الذي خطّه ورسم معالمه ، فهل يستطيع المسلمون أن يخترقوا هذه المعالم ؟ لا ، للإسلام منهج ، ما ينبغي للمسلمين أن يفكروا في تجاوزه ، وما ينبغي لنا نحن الآن ونحن ندرس القرآن أن تأخذنا رغبات النفس لكي ننساق وراء تصورات وأوهام هي ليست انطباعاً يتأتى ويتكون من درس صادق وأمين لوقائع التنزيل ووقائع السيرة المطهرة ، وإنما هو صدى مشوش لواقع يعيشه الناس ويتأثرون به وتتكون أفكارهم وآراؤهم وتتحدد مسالكهم وخطواتهم على ضوئه . إنه لا ينبغي لنا ونحن وندرس هذا أن ننساق إلا وراء الانطباع البحت . سل نفسك : كم من السنين مرت في هذا المنهج القاسي في هذا الطريق الوعر خمس عشرة سنة والمسلمون يسمعون كلام الله وهو يدعوهم إلى الصبر ، ويدعوهم إلى أن يلتفتوا إلى دخائل نفوسهم ، وأن يقتلعوا منها رواسب الجاهلية ، أن يغيروا قيماً ويغرسوا قيماً أخرى ، وأن يرفعوا عقائد ويضعوا مكانها عقائد أخرى ، وهم بعد يتكوّنون . لو أننا أمهلناهم بعض الشيء وتركنا لهم أن يتصرفوا مع النزوة العارضة لضاع منا طرف الخيط . إن الإسلام لا يعمل هكذا ، إن الإسلام يعمل من وراء تصورات الناس ، ومن وراء إرادات الناس ، ومن وراء رغبات الناس ، وبتعبير أدق وأوضح إن الإسلام وهو يخط طريقه بحثاً في الصخور يعمل على الضد من الطبيعة البشرية ، لا ينساق معها ولكن يعدلها ، لا يجاملها ولكن يأخذ بزمامها ، فيقيمها على الطريق طائعة أو راغمة ، إن البشر يتصرفون على خلاف هذا ، من هنا نجد هذه الظاهرة التي قد تفسر كل شيء ، نجد أن إسلام المسلمين أنفسهم لمنهج الله وخلافاً لما يتصور قصار النظر قد وضع زمام المبادرة بين أيديهم لم تعد المسألة مسألة مقابلة مبنية على ظنون عما يريد أن يفعله خصمي لكي أقابله بمثل ، لم يعد المسألة من هذا القبيل لأنها ليست حساباً بشرياً وإنما أصبحت المسألة قدرة الله تتصدى لها قدرة الناس الصغار ، وقدرة الله تعمل من حيث لا يحتسب الناس ، من وراء ظنون الناس .

       إن منهج الإنسـان يعلو ويهبط تبعاً لمعطيات الظـرف الذي يمر به الإنسان ، أضرب لكم مثلاً : إن هذا الإنسان تعتريه حالات تمر عليه شهور ، تراه الآن عنيفاً قوياً مستعلياً ، وتراه في غير هذه الحالة في غاية الذل والخزي والهوان ، سلوكه في الحياة تغير ، موقفه من الأحداث تغير . خذ مثلاً : صاحب الجنتين المذكور في سورة الكهف ( واضرب لهم مثلاً رجلين جعلنا لأحدهما جنتين من أعناب وحففناهما بنخل وجعلنا بينهما زرعاً كلتا الجنتين آتت أكلها ولم تظلم منه شيئاً وفجرنا خلالهما نهراً وكان له ثمر فقال له صاحبه وهو يحاوره إن ترني أنا أقل منك مالاً وولداً فعسى أن يؤتيني خيراً من جنتك ويرسل عليها حسباناً من السماء فتصبح صعيداً زلقاً ) إن صاحب الجنتين وهو في عنفوانه أثناء ترادف الأرزاق عليه كان له موقف ، موقف الاستعلاء والاستغناء لم يكفه أن يرد كل صنع إلى نفسه ولكنه تألى على الله ( قال لئن رددت إلى ربي لأجدن خيراً منها منقلباً ) ولكن ربك حين أراد أن يضرب للمسلمين هذا المثل أبان لهم عاقبة هذا الرجل ، حينما طاف عليها طائف من ربك وحينما جللها حسبان من السماء فإذا هي كأن لم تغنَ بالأمس ، فأصبح يقلب كفيه على ما أنفق فيها وهي خاوية على عروشها . تصوّر ، موقف في أعلى الاستعلاء وموقف في أدنى دركات الهوان ، إن هذا الإنسان تصرفه في تلك الحالة وتصرفه فـي هذه الحالة شيء آخر . خذ مثلاً آخر وهو فرعون ، حيث يخاطب من حوله ( يا قومي أليس لي ملك مصر وهذه الأنهار تجري من تحتي أفلا تبصرون ) منتهى العنفوان والكبرياء والغطرسة ، وكان الناس يسجدون له بين يديه ، وحينما يأتيه من الله رسول وهو موسى صلوات الله عليه يتساءل متعجباً : ( أم أنا خير من هذا الذي هو مهين ولا يكاد يبين ) بل ويتطاول أكثر فيقول ( يا هامان ابنِ لي صرحاً لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى وإني لأظنه كاذباً ) وحينما يدركه الغرق يقول ( آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل ) البشر في تقلبات الأطوار لا يستطيعون السيطرة على أهوائهم وعلى رغباتهم . إن ترك الإنسان لهذه الحالات المتقلبة يصرف الأمور علـى ضوئها سوف يؤدي إلى كارثة .

       القرآن حين كان يقود المسلمين بالوحي ويلوي زمامهم نحو الطريق كان يؤكد هذه القاعدة ، إن البشر لكي ينجحوا لا بد أن تقودهم آيات الله جل وعلا ، ولا بد أن يضيء مشاعل الطريق أمامهم نبي مرسل محمد صلى الله عليه وسلم ، ولئن توهم الناس أن الله بقدرته على كل شيء كان يمكن مع التأدب اللازم مع الله أن ينصر محمداً صلى الله عليه وسلم بقطع النظر عن هذا البلاء كله بلا حاجة إلى أن يمر بهذه التجارب العنيفة المدمرة التي تسحق النفوس والتي عبّر الله عنها بقوله ( حتى إذا استيأس الرسل وظنوا أنهم قد كُذبوا أتاهم نصرنا ولا مبدل لكلمات الله ) كان ممكناً أن يتجاوز الله جل وعلا عن كل هذا وأن يعفي رسوله الكريم وهو أحب الخلق إليه صلى الله عليه وسلم من أن يتعرض لكل هذا البلاء والهوان .

       يا أيها الإنسان إنك ترى الفلك يدور ، وترى النبات ينمو ، وكم من الناس عاشق في هدأة الليل يناجي طيف الحبيب يتمنى لو طال الليل ، وكم من مكروب في زحمة النهار يتمنى ظلمة الليل ليتوارى بها من هذا العذاب الأليم الذي فيه ، ودورة الفلك لا تكترث بهذا أو ذاك ، إن الزمان أيام ، أربع وعشرون ساعة ، لو سخرت رغباتك جميعاً ما نقصت دقيقة ، وإنك لتضع البذرة في التراب وأنت تزرع ، كم يتمنى الزارع لو أن زرعه نبت وأثمر وأينع في يوم ، ولكن أماني الناس ورغباتهم ما شأنها بقوانين الوجود ؟ لا شيء على الإطلاق ، لا بد للزمن أن يأخذ مداه ، لا بد للفلك من أن يتم دورته ، لا بد ولا بد ولا بد ، والناس الذين تأخذهم رعونة الطباع والذين تتفلت زمام الأمور من بين أيديهم ، لن يصلحوا أطباء لهذا الوجود ، إنه لا بد من المعاناة ومن الصبر ، وإنه بعد ذلك لا بد من الحق والحقيقة ، إنك قد تضع البذرة في التراب تكون صالحة في الأصل ولكنها تحمل بيوض السوس الذي سيدمرها ، فنجدها تنبت ، ولكنك تنظر إلى الساق فتجدها منخورة ، تنظر إلـى الأوراق فتراها مثقبة ، تنظر إلى الثمرة فتجد لا شيء ، فليس يكفي فقط أن يتم الزمن دورته ، وليس يكفي فقط أن تنتظر أن تأخذ الثمرة أطوارها ، وإنما ينبغي قبل كل شيء وبعد كل شيء أن تنتقي البذرة التي تضعها في الأرض . إن هذا العود الذي تأتي به لتغرسه كي يكون شجرة ما لم يمر على خبير في الزراعة فيتفحص أمره ويراه سليماً من الآفات فمن العبث أن تضعه في التراب . لأنه قد يكون مصاباً ويكون شجرة مرة المذاق غير كاملة النمو ، كذلك المبادئ والمناهج ، ومن هنا وقوف الإسلام طويلاً وطويلاً عند الخطوات الأولى ، لا ينساق وراء نوازع النفوس وقد كان يمكن ذلك ، ولا يساوق هذه الرغبات في نفوس الأصحاب وقد كان يمكن ذلك ، ولكان يمكن أن يخرق لهم نواميس الكون وكان ممكناً ذلك ، وإنما يمضي كل شيء على طريقه المرسوم والمحسوم ، ليس من أجل المسلمين وليس من أجل خاطر المسلمين أي خرق لنواميس الكون ، لا بد أن ينتظر المسلمون . وهذا يلفت أنظارهم وهم يواجهون مستقبلهم إلى أن يركزوا جهودهم حول هذا الأمر ، ولكن الذي يُخاف بالفعل أن تُخرج الرعونة بعض المسلمين عن سواء الطريق ، وأن تلفتهم عن رؤية القواعد الأساسية والقوانين في الحركة والبناء .

       والكلام عن هذا الموضوع الخطير يطول ولكن نكتفي بهذا .. وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم ، والحمد لله رب العالمين .