رانيا 2

رانيا

الجزء 2

ياسين سليماني

[email protected]

ابتسمت والدتها: هل تقترحين مكانا آخر ؟ بوسعك أن تقولي رأيك في الموضوع، ونحن نفكّر فيه... ليس الأمر صعبا حتى يطول ذلك...

قالت رانيا في نفسها: نتائج بكالوريا حسام ستظهر في يوليو لذلك لا يمكنني الذهاب إلى أيّ مكان في هذا الوقت...

قطعت أمّها حبل تفكيرها من جديد:

- ماذا قلت ؟

ردّت رانيا: ما زلنا في يونيو، أريد أن أفعل شيئا في هذا الوقت، لا أن أبقى طول الوقت هكذا...

كانتا تتحدثان، وفي الوقت ذاته لم تنسيا أنهما أمام الطاولة، فكان أكلهما عاديا، بحيث لم ينقطع حتى نهضتا من هناك حامدتين الله.

حين عادتا إلى الصالون لتجلسا هناك قالت الأمّ:

- أفكّرت في شيء تفعلينه ؟ ثمّ انتبهت:

ما رأيك في وهران ؟ جدّتك وخالك هناك، فتستطيعين البقاء في منزلهما وقتا ما، وبناته يحببنك كثيرا فمن غير شكّ أنّك ستمضين وقتا ممتعا بينهم.

ردّت: لا، لا، ليس هذا ما أريد... أريد شيئا آخر، جديدا... يغيّر قليلا من هذا الروتين، شيئا مختلفا...

فكّرت والدتها قليلا ثمّ قالت: لم أعرف ماذا أقول لك... بإمكانك فعل كلّ ما تريدين، فيم ترغبين ؟

سكتت رانيا هنيهة وبعد ذلك ردّت: أريد أن أنتسب إلى معهد الفنون هنا في العاصمة... أتعلّم فيها شيئا ما...

- فكرة رائعة... أين كانت هذه الفكرة مختبئة ؟ لماذا لم تقولي منذ البداية ؟

- تذكّرتها الآن...

- وماذا تريدين أن تتعلّمي هناك ؟

قالت رانيا بنبرة حزن: لو كنت انتبهت قليلا يا أمّي إليّ لكنت عرفت أنّني أعشق الرسم، فلمَ لا أشترك مع مثيلاتي في معهد مثل هذا لنتعلّم الفنّ أكثر.

قالت أمّها: لا بأس يا رانيا، لا بأس، سأنظر في الأمر... سأدخل لأنام قليلا نصف ساعة ثمّ نتحدّث في الموضوع...

غادرت الصالون إلى غرفة نومها فيمَ ذهبت رانيا إلى غرفتها وجلست أمام الكمبيوتر تبحث فيه عن شيء ما.

كان حسام في المنزل عندما دخل والده إلى البيت، جلس الأبوان وسلمى إلى طاولة العشاء فيما لحق بهم حسام بعد لحظات.

- حاولت تكليمك مساء ولم أستطع، أين ذهبت ؟

قال حسام: قمت بجولة بالسيارة وعدت.

ردّ والده بابتسامة: هل كانت الرحلة جميلة بحيث استغرقت يوما كاملا ؟

- أجل، كانت جميلة جدّا وبعيدة في الوقت ذاته.

قال والده باهتمام، وكان يعرف أنّ حسام لا يني يخبره بكلّ شيء، بحيث يأخذ منه النصح في الأمور التي تخصّه:

- أين كنت ؟

- في العاصمة... ذهبت إلى هناك وتجوّلت قليلا في شوارعها وحوانيتها، وتغدّيت على شاطئ البحر و عدت.

قالت والدته: ألا ترى أنّ هذا ليس وقت السفر والرحلات ؟ أمامك الكثير من الدراسة والقليل من الوقت... ستذهب من هنا فتنام مباشرة... أليس كذلك ؟

قال حسام مبتسما: ليس كذلك يا أمّاه.

ابتسم والده، والتفت إلى زوجته: أنا مع حسام... زيارة للعاصمة في يوم واحد لن تؤثر في شيء... بالعكس ستزيده رغبة في الدراسة، أليس كذلك ؟ وقال "أليس كذلك" بطريقة الأمّ، فضحك الجميع، وردّ ابنها: بلى هو كذلك.

- لكن لا تقل لي أنّ هذا هو كلّ ما دفعك للذهاب إلى العاصمة، كان بإمكانك الذهاب إلى عنّابة أو سكيكدة أو جيجل وتمضية وقتا طيّبا هناك، مختصرا الوقت، فلمَ العاصمة بالذات ؟

ابتسم حسام قائلا: كنت أنتظر هذا السؤال... أعشق العاصمة أكثر من أيّ مكان آخر بسبب مكتباتها التي تأتي بكل جديد... هنا في قسنطينة لدينا مكتبة واحدة فقط كبيرة، أمّا الأخريات فتكاد تكون في ربع حجمها وبالعناوين ذاتها، ورغم وجود هذه المكتبات إلاّ أنّ في العاصمة الأمر يختلف.

اطمأنّ والده لهذا، وحين سأله عمّا إذا كان قد اقتنى شيئا من هذه المكتبات غادر إلى غرفته وأحضر مجموعة كتب جديدة أراه إياها في مكتبة المنزل بعد أن أنْهوا عشاءهم وبقيت الوالدة في المطبخ مع ابنتها وراح الأب إلى المكتبة، وأعجبته الكتب كثيرا وأثنى على ولده ثناء عظيما.

- عدني أنّك ستهتمّ أكثر بمذاكرتك... أريد لك النجاح بتميّز، لا مجرّد النجاح مثل الآخرين.

قال الاِبن سعيدا بوالده: أعدك يا أبي، أعدك...

وغادر إلى غرفته بعد أن أخذ كتابا واحدا من تلك الكتب التي اقتناها، كي يبدأ في قراءته بعد أن يفرغ من المذاكرة، ولكنّه ما إن ولج غرفته حتى أسرع إلى درج مكتبه فأخذ رسالة رانيا التي أعطته إيّاها اليوم، وقبل أن يقرأها أخذ الكاسيت التي سمعها في السيّارة، وأعاد قراءة عناوين الأغنيات فيها، خاصّة التي أعجبته وراح يردّد بعض كلماتها، وبحث عنها في شبكة الأنترنيت وحين وجدها حمّلها في ملف خاص به ليضيفها إلى مجموعة جيّدة من الأغاني العالميّة التي كان يحبّها، واستمع إليها بينما بدأ يقرأ رسالة حبيبته، وأنسته كلمات رانيا التي تغلغلت في فؤاده وشرايينه الأغنية تماما، وأعاد القراءة مرّة أخرى وثالثة، حتى كاد يحفظها.

 " إلى حســـام:

خفق قلبي للحبّ أوّل مرّة مع نور أنار ظلمة حالكة في كهف حياتي، مع كتاب أقرأ فيه سطور الفرح والسعادة والأمل.

إنّك يا عزيزي لا تتخيّل الفراغ الذي أصبحت أشعر به بعد عودتك إلى مدينتك، كنت أسخر من الفتيات اللائي يبكين على أحبّائهنّ، وأُنكرُ عليهنّ تلهّفهنّ لرؤيتهم وإصرارهنّ على لقائهم دائما، وحين سقطت في شباكك تغيّرت نظرتي للحبّ، فأصبحت أعذر التي تبكي أمامي على حبيبها، والتي تطيل البقاء عند النافذة لترى فارس أحلامها والتي تتحدث ساعات طويلة في الهاتف مع صديقها لتصل فاتورته ملايين عديدة.

 أتصدّق أنّي اشتقت إليك كثيرا ؟ أقول لك شيئا: صورك تنام معي، صور جميلة جدّا أبقيها نفسي لا أريد أن أعطيها لك كي لا تشغلك هي عنّي.

 عزيزي حســـام:

أريد منك هديّة كبيرة، تستطيع أن تقدّمها لي في هذا الصيف، هديّة عظيمة يفرحك وجودها ويملؤني فرحا تحقيقها، أريدك أن تهدي لي نجاحك في البكالوريا.

نجاحك في هذا الامتحان أكبر فرحة يمكن أن أشعر بها، فحاول بكلّ استطاعتك أن تنجح.

تمنيّاتي لك بكلّ السعادة، لا تنسى أن تهاتفني أو تراسلني ".

أخذ محموله باحثا عن اسم رانيا في ذاكرته، وحين ظهر الرقم ضغط على زرّ الاتّصال، ومن العاصمة جاءه صوتها الذي يذكّره بخرير المياه:

- ألو، حسام ؟

لم يجبها هذا الوسيم وإنّما سمعت من بعيد أغنية تقول:

" حبيتك حتى نسيت النوم، يا خوفي تنساني، حابسني برّات النوم، وتاركني سهرانة، أنا حبيتك، حبّيتك".

وتناهى إلى مسمعه صوتها وهي تضحك، كان من أغلى ما يسعده في هذه الدنيا.

- أنسيت النوم حقيقة بعد أن أحببتني ؟

قال مبتسما: لم أنس النوم وحده، ولكن رميت بالدراسة وراء ظهري، أنت أخذت عقلي، سيجنّنني حبّك... سأموت.

قالت مبتسمة: ضريبة الحبّ يا حبيبي... تستاهل.

- أستاهل ؟ أجل سيّدتي... أستاهل.

قالت مهتمّة: أين أنت الآن ؟ في المنزل ؟

- أجل في المنزل، كنت سأذاكر وحين قرأت كلماتك لم أستطع التفكير في غيرك.

ردّت: دراستك تستحقّ اهتمامك أكثر، سنفرح كثيرا حين تنجح... أنا عن نفسي كانت أمّي تقول أنّنا سنسافر في يوليو إلى فرنسا ورفضت ذلك.

- لماذا ؟

- لا لشيء، قالت مبتسمة وأضافت:

فقط لأنّ أحد الشباب ستعلن نتائجه في البكالوريا، في يوليو ويجب أن أحضر، لست أنت، ولكنّه شخص كان معي منذ ساعات وأمضيت معه وقتا رائعا.

- وهذا الشابّ قال لي أن أقول لرانيا الجميلة أنّه سيفعل كلّ شيء من أجل أن ينجح ويفرحها.

- إذن، قل له أن يضع المحمول ويذهب للدراسة، فرانيا لا يرضيها أن تتعطّل أعمال أيّ واحد، خاصّة إذا كان حبيبها.

- لم أتوقّع أن تطلبي البكالوريا هديّة لك، رغم تأكّدي من أنّك ربّما ستطلبين شيئا أغلى من الذهب وأغلى من المال... حين قرأت هذا قلت في نفسي: إذن ماذا تطلب كمهر لزواجنا ؟ ربما الدكتوراه.

قالت: البكالوريا أولا يا حسام، البكالوريا أولا، وأما الزواج فليس الآن يا حبيبي.

وبقبلة في آخر المكالمة وضعت رانيا المحمول واتّجهت إلى أبيها الذي كان في الصالون مع والدتها.

ذكرت والدة رانيا أمر معهد الفنون لزوجها وأفرحه هذا الأمر كثيرا وأبدى استعداده لتسجيلها ابتداء من صباح اليوم الموالي، وأسعدها الأمر للغاية، خاصة أنها كانت فكرة حسام، ومنذ أوّل ساعة في درس الرسم عشقت الدراسة والتزمت بأن تكون مهتمّة بهذا الفنّ كثيرا وبشكل ملفت للانتباه و داع للإعجاب.

وكانت لديها أربع حصص في الأسبوع، من الأحد إلى الأربعاء، وكل مواعيد هذه الدروس كانت تتم صباحا، فتعود إلى المنزل فتتناول غداءها وتمضي بقية المساء إمّا مع التلفزيون أو الكمبيوتر وسرعان ما أحضر لها والدها حامل الألواح وأفرد لها غرفة خاصّة سماها "مرسم رانيا" والكثير من الألوان والأوراق الكبيرة والصغيرة، ووعدها بأن يجلب لها المزيد ممّا يفيدها في هذا المجال.

* * * *

 بدأت امتحانات البكالوريا صباح السبت التاسع من يونيو، نهض حسام عند الفجر بعدما أيقظته أمّه ليصلّي ويذاكر قليلا، وبعد أن درس لساعة ونصف تقريبا عاد إلى النوم، ولم يفق إلاّ على صوت والده يخبره بحلول السابعة.

نهض فاتّجه لغسل وجهه ملقيا التحيّة على أمّه التي كانت في المطبخ وتستعدّ للذهاب أيضا للثانوية التي تديرها، بعد انتهائه من ذلك جلس إلى الطاولة في المطبخ وجلس معه أبواه.

- كيف هي المعنويات اليوم ؟ سأل الوالد حسام، وقبل أن يردّ الأخير قالت أمّه:

- مرتفعة جدّا كالعادة... أليس كذلك ؟

قال متفائلا: بلى... وصمت قليلا ثمّ أضاف

- بعد عودتي إلى النوم هذا الصباح حلمت حلما جميلا.

قالت أمّه: خيرا إن شاء الله. فيما انتبه والده إلى ما سيقوله ولدُه: حلمت أنّي مع أختي سلمى في طائرة تحلّق وسط السحاب، ثمّ حنت منّي التفاتة إلى الخارج من خلال باب صغير فوجدنا طائرة قريبة جدّا تطير أيضا...

ابتسم والده قائلا: الطائرة رمز العلوّ والارتفاع، أليست هي النجاح في البكالوريا وبمعدّل مرتفع ؟

قال حسام: أرجو ذلك، أرجو ذلك.

ركبوا السيّارة في الثامنة إلاّ خمسا وعشرين دقيقة، أوصل صالح زوجته زينة إلى مكان عملها في ثانوية "ابن تيمية" في طريق فيلالي بمحاذاة جامعة الأمير ثمّ عرج إلى ثانوية "سميّة" في قلب قسنطينة حيث يمضي حسام أيّام الامتحان الثلاث، بعدها اتّجه نحو معهد علم النفس ليشرف على الامتحان الشامل لطلبة السنة الثالثة الذين يدرّسهم "علم النفس الإكلينيكي " وقبل دقائق من دخول حسام إلى قاعة الامتحان رنّ هاتفه الخليوي، وكانت رانيا... كانت فكرة ما قد ساورته للحظة حين تذكّر أنّها لم تتصل به منذ أيّام ثلاث ولم تكلّمه إلاّ إذا كلّمها هو، وقد شعرت بذلك وهي تحدّثه فذكرت له أنّها لم ترد له أن يفكّر بشيء عدا دراسته، وهي إنّما اتّصلت به الآن لتتمنّى له التوفيق والنجاح، فلربّما كان صوتها فأل خير عليه.

 عند التاسعة تسلم ورقة الامتحان في أولى المواد وهي اللغة العربية، ورغم أنّه فكّر في أيّة شخصية ستكون محور الحديث هذه السنة في هذه المادّة، ودرس أغلب الأسماء، إلاّ أنّه تفاجأ قليلا أو كثيرا حيث قرأ بأنّه "عبّاس العقّاد" وموضوع "الجدّة في الشعر"، وقد خرج من هناك في حدود الحادية والنصف وعاد إلى البيت في "الباص" الذي يمرّ على منزلهم، وقال للجميع بأنّه يحسب نفسه قد عمل جيّدا، وهكذا مضت بقيّة الاختبارات، في الانجليزية كان موضوع "أطفال العراق" وفي الرياضيات "متتالية هندسية واحتمالات ودالة كسرية" وقد نسي قوانين تمرين الاحتمالات وبصعوبة عادت إليه الذاكرة واسترجعها. وفي التاريخ والجغرافيا أجاب عن موضوع "الأمم المتحدّة" وموضوع "الأمن الغذائي في الوطن العربي" وكلا الموضوعين كانا في الثقافة العامّة لا يحتاج إلى حفظ كبير لجواب جيّد عنهما.

في اليوم الأخير كان سؤال الفلسفة عبارة عن سؤاليْ مقال، ونص فلسفي واحد، ولقد حلّل النصّ وأسهب فيه، وفي مساء ذلك اليوم كان موضوع اللغة الفرنسية "رياضة المشي وفائدتها" وقد أُعجِب به وخال نفسه قد أجاد الجواب عن مختلف أسئلته وكان هذا آخر الامتحانات.

عاد إلى البيت، كان والده قد اتّصل به في حدود الخامسة وسأله عن الامتحان ليطمئنّ، وقد أخبره بفرح عمّا كان، وتمنّيا أن تكون النتيجة في مستوى التطلعات، ولم يجد أمّه التي وصلت بعد دخوله المنزل بقليل، وذكر لها ما ذكر لأبيه، وجلس بكامل ثيابه في الصالون يشاهد بعض المحطات الفضائية بينما راحت زينة تحضّر له الحليب وأرفقته ببعض القاتوه الذي يحبّه حسام.

جال في خاطره عنوان أغنية من الأغاني القديمة التي يعشقها، قال في نفسه أنّها لو أذيعت الآن في إحدى هذه المحطات فسينجح في البكالوريا، ورغم أنه لا علاقة لهذا بذاك إلاّ أنّه بعد ثوان فقط شاهدها في محطّة غير معتادة أبدا على بثّها وهذا ما زاد من ابتهاجه.

اتّصلت به رانيا، سألته عن الاختبار الأخير وعن كلّ إجاباته فيه، كانت قد حرصت على الحصول على نسخة من الأسئلة وراحت تقرؤها على مسامع حسام وهو يجيب كما أجاب أثناء الاختبار وتأكّد لهما أنّه عمل بشكل جيّد.

- ماذا عنك أنت، هل من جديد ؟

قالت: الحمد لله أنّك سألت عن حالي، لكن لا بأس فأنا أعرف الظروف التي كنت فيها، لا تترك لك المجال للتفكير في شيء آخر.

ردّ عليها: وهل كنتُ أنساك لأتذكّرك من جديد ؟ أنت دائما معي في قلبي، آه يا قلبي المسكين...

ضحكت رانيا لطريقة نطقه بالعبارة الأخيرة، وقالت:

- على كلّ حال عندي خبر ممكن أنّه يفرحك.

قال مهتمّا: ماذا ؟

- الفكرة التي اقترحتها عليّ عند مجيئك إلى العاصمة قد بدأت تنفيذها.

قال فرحا: - معهد الفنون ؟ صحيح ؟

وكانت نبرة حديثه تدلّ على أنّه قد اغتبط لهذا اغتباطا عظيما.

- صحيح، وأنا أعيش أحلى وقت مع هذه الفكرة.

قال متلهّفا: حدثيني، حدثيني عن التفاصيل...

ردّت مبتسمة: - يا سيّدي، حدّثت ماما في الأمر، وعند عودة بابا فتحنا الموضوع مرّة ثانية، ووعدني بأنّه سيذهب إلى المعهد في الصباح ويقوم بكلّ ما يلزم للدراسة هناك.

- وفي أيّ وقت تدرسين ؟

- من الأحد إلى الأربعاء، من التاسعة إلى الحادية عشر أو الثانية عشر حسب الوقت.

- شيء جميل.

- والأجمل أنّ البابا أفرد لي غرفة خاصة سمّاها "مرسم رانيا" واقتنى حامل اللوحات والألوان وكلّ ما يلزم للرسم ووعدني بالمزيد.

قال من الطرف الآخر: المهمّ، هل من رسم جميل أبدعته يداك الرقيقتان ؟

أجابت: على أيّةحال أنا أحاول، لحدّ الآن لم أرسم سوى واحدة فقط في المنزل... ما زال الوقت لأرى عملي ينضج...

واستمرّ حديثهما وقتا من الزمن، كان الحبّ فيه يعبق برائحة لا تشمّها أنوف الأحبّة، وحين وضعت رانيا المحمول كانت فرحة بشكل غير مسبوق، فقد بدأت حياتها تأخذ طعما آخر... وداعا للكسل والملل... سأفعل كلّ شيء يجعلني سعيدة حقّا.

* * * *

بعد ذلك الدرس الذي أخذته صباحا، خرجت رانيا من المعهد عائدة إلى المنزل، وفي طريقها إلى ذلك عرّجت على مكتبة "القادسية"، كانت مكتبة أثيرة عند عائلتها وعند حسام أيضا، فقد كانت تحوي الكثير ممّا لا يوجد في غيرها، وكان والدها ربّما يطلب من صاحبها تأمين بعض الكتب التي سمع عنها ولم يجدها، وكان هذا الشاب يقوم بخدمة زبائنه بطريقة جيّدة بحيث يجعل من أيّ واحد منهم يقسم على نفسه أنّه سيعود إليه حتما.

- كتب حول الرسم والرسّامين من فضلك.

قالت رانيا ذلك مقتربة من أحد الرفوف، سارع إليها الشاب وقال مشيرا إلى إحدى الجهات من المكتبة:

- تجدين هناك مجموعة منها بالفرنسية.

قال ذلك ولم يقف وإنّما رافقها إلى حيث أشار واختار لها أربعة منها من الحجم الكبير.

- هذه هي الأكثر انتشارا في هذا المجال، ولا زالت هناك أخرى...

أخذتها منه وبدأت تقرأ عناوينها، فيما هو أراها مجموعة أخرى، وفي النهاية اختارت خمسة منها، وحين أرادت الدفع سألته:

- هل مثل هذه الكتب بالفرنسية فقط ؟

قال متذمّرا: أغلب هذه الكتب تأتي من باريس، ولا تطبع في الدول العربية، ونادرا ما تكون هناك كتب من لبنان أو مصر تتحدّث عن هذه المواضيع...

وأضاف: رغم انتشار هذه الكتب، تبقى محدودة جدّا مقارنة بالكتب الروائية مثلا.

وبدأ يشرح لها خصائص كلّ كتاب، ويحدّثها عن بعض مضامينه بما أوحى لها أنّه مطلّع عليها.

دفعت له ثمن الكتب وكان باهضا وسألته أن يحضر لها المزيد من هذه النوعية في أقرب أجل، مؤكّدة أنّها ستعود إليه بعد أيّام قليلة.

كان هذا يوم الأربعاء، أي أنّه ما زال أمامها ثلاثة أيّام قبل أن يصل الأحد، لتعود إلى الدراسة التي شغفت بها كأنّها كانت ضمآنة منذ سنوات ووجدت أخيرا نهرا تغرف منه دون توقّف، وحين عادت إلى المنزل كان والدها قد عاد لتوّه، سأل ضاحكا:

- ما كلّ هذا يا رانيا ؟

قالت ضاحكة: الفناّنة رانيا من فضلك.

تقدّم إليها واحتضنها قليلا:

- لم أرك نشيطة وسعيدة بمثل هذا الشكل من قبل، هل الرسم غيّرك كلّ هذا التغيير ؟

- الفنّ عالم لا حدود له، عالم رائع، كيف لا أدخله إذا وجدت أنّه سيسعدني ؟

- يعني لا وجود للملل الآن في حياتك ؟

قالت مخمّنة: الآن لا، لكن لا أجزم إذا كان سيعود من جديد أم لا. ردّ عليها لامسا شعرها المسترسل وقد جلسا معا في الصالون:

- لكن لا تنهكي نفسك كثيرا، حتى لا تجدي نفسك متعبة في أوّل أيّام الدراسة خاصّة أنّ هذا الخريف سيكون بداية عام مهمّ، عام البكالوريا، وأكيد أنّك لم تغفلي عن ذلك.

زارتها صورة حسام، لم تكلمه اليوم ولا هو كلّمها، مضى على آخر اتصال بينهما حوالي الخمسة عشر ساعة، أليس وقتا طويلا ؟ تساءلت. فيما قال والدها متمعّنا فيها: ماذا قلت يا رانيا ؟ أم أنّك لم تسمعيني ؟

انتهت قائلة وهي تضحك: لا، سمعت ولكن أعتقد أنّي أصبحت في هذه الأيّام هادئة وصافية الذهن، عكس الأيّام السابقة التي لا أفعل فيها شيئا، كنت أحسّ بالتعب، يؤلمني رأسي، أشعر بالاختناق وأنا وحدي لا أفعل شيئا، تذهبان أنت وماما إلى العمل وأبقى لا أعرف ما أفعل. أحسست أنّ المكتبة والكمبيوتر وحدهما ليسا كلّ شيء، بإمكاني أن أفعل المزيد دون أن أتعب، بل كلّما أخذت الريشة وخططت خطا واحدا، أحسّ أنّ حياة أخرى أعيشها، حياة مختلفة، ليست بذلك الروتين القاتل الذي مللت العيش فيه.

قال: لكن لم تقولي لي ما هذا الذي جئت به ؟

وبدأت تريه تلك الكتب وأعجبه اهتمامها المفرط بها، أخذ كتابا منها وراح يتفحّصه، ثمّ زاغ بصره عن ذاك الكتاب وأنشأ يفكّر في شيء ما، حتى سألته رانيا وهي تمسك بذراعه لتخرجه من دوامة تفكيره.

- ما الذي تفكّر فيه يا بابا ؟

تنهّد قائلا: عادت ذاكرتي إلى الوراء خمسا وعشرين سنة...

- ماذا تذكّرت ؟ قالت رانيا مستفسرة، فهو لم يحدّثها عن ذكرياته من قبل، بل إنه ما كان يجد الوقت ليبقى معها، وكذلك كانت والدتها، أمّا هو فقد تغيّر هذه الأيّام قليلا أو كثيرا، في حين بقيت أمّها لا تهتمّ بها أبدا.

نهض شابكا يديه خلف ظهره وأخذ يذرع المكان وابنته ترافقه بعينيها:

تذكّرت كيف بدأت حياتي مع النجاح، لم أولد غنيّا أو متوسّط الحال، كنّا في العائلة أقرب إلى الفقر... وكنت أعشق الكتب، قضيت ثمانية عشر عاما في مدينتي إلى أن تحصّلت على البكالوريا، في ذلك الوقت كنت لا أملك سوى عشرين كتابا أو ما يقارب ذلك، لم يكن لدينا مكتبات تأتي بالجديد، أغلب الكتب كانت قديمة جدّا، لا معارض ...لا دار الثقافة... حين سجّلت في الجامعة لم أختر نوع الدراسة ولكن مكان الدراسة... اخترت العاصمة... عالم جديد، أنشطة ثقافية شبه دائمة، مكتبات كثيرة... كنت أكتب قصصا وأشعارا وروايات، حين انتهت روايتي الأولى ذهبت بها إلى دار نشر لأعرف شروط الطبع، أحد المسؤولين هناك قام بحساب بسيط وقال أنها تكلّفني ستّة ملايين سنتيم لألف نسخة... وحين سألته عن التوزيع قال أن ذلك يقع على عاتقي أنا... المؤسسة تقوم بطبع العمل وتسليمه لصاحبه فقط، أمّا ما سوى ذلك فلصاحب الشأن القدرة على التصرّف كما يشاء.

سألته رانيا: وماذا فعلت ؟

ردّ متأوها: كانت الستّ ملايين شيئا صعبا للغاية، كان جدّك لا يعمل حينها، أمضى عشرين سنة... بل أكثر من عشرين سنة في أحد المصانع، وفي النهاية أغلقوا المصنع وأعطوا تعويضا للعمّال، أغلب من سمعت عنهم من أصدقائه استثمروا ذلك المال في أشياء مختلفة... منهم من افتتح محلا للمواد الغذائية ولو مع شريك، والبعض اقتنى سيّارة للأجرة، وهكذا. أمّا والدي فقد أرجع جزئا منها للدائنين، وفي ذلك الوقت باع المنزل وأراد شراء آخر فلم يجد، فاضطرّ لكراء منزل لا يتوفّر حتى على الغاز... صرف من ذلك المال على مدى عام تقريبا، أخيرا وجد منزلا جميلا ولو أنّه قديم، ولكنّ المال الذي باع به المنزل الأول لم يكف، فلم يجد من طريقة سوى زيادة ما تبقّى من التعويض ليستطيع السكن في مكان مثل كلّ خلق الله.