سوريا بين تونس و ليبيا

د.مصطفى الحاج حامد

د.مصطفى الحاج حامد

بالأمس القريب ،عاشت الأمة العربية أحداثاً متسارعة ،لم تكن هذه الأحداث قابلة للتصديق والتصور قبل فترة قليلة لدى كثير من المراقبين والمتابعين السياسين، ناهيك عن أبناء هذه المنطقة.

لقد هوى ملك ملوك أفريقيا، الذي هدد بأنه سيشعل كل القارة الأوربية والعالم كله قبل أن يتخلى أويتنازل عن الحكم ،أتهم شعبه بالجرذان وأبى إلا أن تكون نهايته هارباً كالجرذ في صحراء ليبيا.

وبجانب ليبيا ، خاضت تونس الخضراء التي كانت مهد إنطلاق شرارة الربيع العربي ،خاضت أول أنتخابات حرة نزيهه، ولأول مرة في حياتها،لقد قاد الفترة الانتقالية منذ سقوط النظام حتى هذه الفترة رجال أغلبهم من أعمدة الحكم السابق ، ورغم هذا أوصلوا البلاد لحافة الأمان وصناديق الاقتراع بدون مخاض عسير.الأنتخابات، جرت بدون أي حوادث كبيرة تؤثر على صحتها ،وتعيق المرحلة الديمقراطية، أو تشكك في اللجان القائمة على سير العملية الانتخابية،كثير من الناخبين التونسيين رأيتهم وهم يصرحون بعد الإدلاء بأصواتهم بأن مجرد نجاح العملية الانتخابية بدون تزوير وبأجواء حرة ونزيهه هو مسكب بحد ذاته، يكفي ليكون منبع لسعادتهم، واحساسهم بأن ثورتهم أنتصرت.الكل كان يقول النتيجة غير مهمة، طالما كانت معبرة بصدق عن رغبة ورأي الناخب والشارع التونسي.كلام مذهل ويحمل مبشرات كثيرة، عن عمق وثقافة ، وفهم العملية الديمقراطية للمواطن العربي ،الذي ظلت الأنظمة العربية ومن يدور في فلكها من حملة أقلام مأجورين مبتورين يتذرعون ويتهمون بأن المواطن العربي ليس جاهزاً للحرية والديمقراطية ويحتاج سنين طويلة للتدردج لكي يتعود على الانتخابات ويتعلم الإختيار الحر.

وبين الحالتين التونسية والليبية، تترنح الحالة السورية وقد طالت محنة الشعب، وكثرت تضحاياته، ولاتزال الدول العربية والعالمية والصديقة والمجاورة  مترددة في مواقفها بل وحتى المعارضة لم تحسم أمرها ولم تتحد على خارطة طريق واضحة معلنة ومحددة.

النظام لم يستخلص الدرس الذي رآه أكثر من مرة في العراق وتونس ومصر وليبيا، ولا يزال يعاند ويكابر، وربما يخدع نفسه وهو سائر تجاه حتفه المحتوم ونهايته الوخيمة.لم يعتبر سابقاً من تشاوشيسكوا ولا حديثاً من معتوه ليبيا.بل يكرر نفس الكلام ويلعب نفس الادوار ويراوغ  مستنسخاً أدوار وألاعيب غيره مما سبقوه من أنظمة بائدة.هو ماضي في إجرامه غير آبه بكل القيم الخلقية والمواثيق الدولية، طالما الصين تهادنه وروسيا تدعمه، وبعض الأخوة من الدول العربية يتواطئ معه.

المعارضة هي بدورها لاتزال بين الحالتين ،فلا هي استطاعت أن تستنهض همم كل الشعب وتخرج الملايين في كل المدن الرئيسية ، لتوقف حركة الحياة وتشل  مفاصل قوى النظام ،وتمنعه من الوصول بقواته الامنية وشبيحته للمظاهرات والناشطين،وتستميل الجيش بشكل قوي وكبير للإنحياز للثورة كما حدث في تونس ومصر.هذه حقيقة واقعة ورغم كل المبررات والاعذار المقبولة والمرفوضة ، المنطقية والغير منطقية ،لكن واقع الحال يقول بهذه المعضلة على أرض الثورة.

ولا هي من جهة ثانية أيضاً أستطاعت الاتفاق والاجتماع على خارطة طريق محددة وواضحة، لا لبس عليها ،على صيغة التدخل الأجنبي كما فعل الأخوة الليبين منذ البداية ، بحسم أمرهم وإعلان طلب تدخل الناتوا العسكري بشكل واضح وعلني على مسمع كل المعارضين والمترددين من الدولة العربية وتركيا وروسيا والصين.هذه الرؤية الواضحة-بغض النظر عن صحتها من عدمه-هي مفقودة عند المعارضة السورية ،التي تتخفى وراء كلمات وعبارات تختلف من الحماية الدولية الى الحظر الجوي الى المنطقة العازلة وغيرها من المسميات التي ترمي بالأخير لهدف واحد وإن أختلفت المسميات.فيجب الخروج من هذه الضبابية،، وإختصار الطريق إن كانت هناك قناعة بحتمية هذا الخيار.المعارضة السورية أغرقت نفسها في كثرة المؤتمرات والمحاصصة  واللجان ،وأهدرت الوقت طويلاً في أعداد اللوائح  والقوائم، وتوزيع المقاعد وأختيار الاسماء التي يكتشف الشارع مع كل يوم تزداد معرفته بسيرها الذاتية هزالة حجة المعايير والمؤهلات التي  لم  تكن هي المقاييس الوحيدة للإختيار.  

أما الدروس والعبر للشعب السوري، من كافة الاطياف والطبقات، والعاملين بالدولة ،وخاصة تلك الفئات المترددة الصامتة المترقبة حتى الآن وقد بلغ السيل الزبى،عليها هي الأُخرى، إستخلاص واختيار نموذج لكي تسير نحوه بخطى سريعة إما أن تخرج مثل التونسيين ولا تعود لبيوتها حتى رحيل  النظام ، لكي تنعم بالحرية والكرامة والأمن والأمان وحرية الترشح والانتخاب والاختيار.

أو أنها ستتحمل وتعاني وتتحمل عواقب هذا السكوت والتردد،فتدفع الثمن للشبيحة وقوى الامن مثل ما عاناه أهل ليبيا من المرتزقة وكتائب القذافي.فإما المشاركة بالثورة والتضحية طوعاً لنيل الحرية والفرحة، أو الخنوع والمآسي والخزي قبل النصر وبعده.  

الدرس الأخير هو للدول العربية والمجاورة الصديقة والعالمية البعيدة والقريبة، عليهم فهم الواقع كما هو والتشخيص الدقيق لهذه المعضلة فالشعب السوري قال قولته الموت ولا المذلة ولن يتراجع دون نيل الحرية ،والنظام قال قولته أيضاً بأنها عصابات مسلحة ويجب القضاء عليها ولو أدى الأمر لحرق المنطقة بأسرها....هذه هي المعادلة القائمة في الحالة السورية...وهنا يقع على المجتمع العربي والاسلامي والدولي عبء تعجيل الحسم ،ومسؤولية تجنيب المزيد من الخسائر، وحماية المنطقة من انتشار هذه السرطان في جسم الامة العربية والاسلامية...

مهنة الطب علمتني أن نفتش عن مكامن المرض مبكراً لمعالجة مكامن الخطر قبل أستفحاله، وهذا ما يدفعني لتلمس الاخطاء والاخطار والعلل التي يريد البعض أن يدفن رأسه كالنعامة بالتراب كي يخدع نفسه ولايراها .والقاعدة الذهبية بالطب عندنا تقول :التشخيص نصف العلاج....فهل نشخص واقعنا بشكل صحيح ومنطقي وواقعي كي يكون علاجنا شافيا حاسماً وكافياً بإذن الله.