قصص قصيرة 881

"أي تشابه أو تطابق بين  أسماء شخصيات القصة وأسماء الأشخاص في الواقع هو من قبيل الصدفة لا من قبيل الواقع"

حكايات مجنون

(الحكاية الأولى)

بعد أن قطع النهر سباحة انسل كأفعى مرقطة ما بين الأعشاب، والقصب، والأغصان الكثيفة المتدلية على النهر تحت جنح ظلام دامس حول الأشجار المحيطة بالنهر إلى أشباح متحركة، ومخيفة.... دخل إلى الضيعة من فتحة ضيقة من غير حاجة إلى مصباح. يتحسس الطريق بحواسه كأعمى تعود على فضاء الضيعة وأشجارها. ثم شرع في قطف البرتقال ووضعه في الكيس.. كانت العيون التي تشبه عيون القطط تراقبه، وتتابع حركاته من وراء الأشجار والقصب كما لو أنها تتفرج على فيلم سينمائي ممتع .لما هم بحمل الكيس ووضعه على كتفه وجد نفسه فجأة، ومن حيث لايدري محاصرا بالعسس المسلحين بالهراوات، والبنادق ،والكلاب المدربة بعد أن سلطوا عليه دفعة واحدة أضواء مصابيحهم، ومصابيح الضيعة شاهرين أسلحتهم في وجهه ...تحول ليل الضيعة بصمته إلى نهار. بدا الفلاقي تحت الأضواء المسلطة شابا قوي البنية طويل القامة  ينسدل شعرأسود طويل على كتفيه، ممتقع الوجه. متشنج العضلات، والحركات، زائغ النظرات غير مستقر على شيء من أثر الصدمة..ألقى بالكيس إلى الأرض بسخط وانهالت عليه الأسئلة كالمطارق بقوة على رأسه.. كيف لم يشعر بهم؟ كيف اصطادوه وعرفوا مسالكه وتوقيته ؟ ...والكلاب لماذا ظلت صامتة ولم تنبح عليه ؟ ..وشلت الأسئلة عقله، وروحه، وجمدت أوصاله، وزادت من توتره وانفعاله... نظر إلى كيس البرتقال وكأنه لا يعنيه في شيء ، وتمنى في قرارة نفسه أن لايعرفوا عنه شيء. خاصة وأنه مبحوث عنه من طرف الشرطة في قضايا متعددة...فتح العسس الطريق للإسباني خوسيه صاحب الضيعة وهويخطو كطاووس بلباسه العسكري يحوم حوله كلبه يتقدمه أحيانا ثم يتعلق به أحيانا أخرى منتشيا بصيده الثمين، وبنصره عن من دوخه، ودوخ الشرطة أكثر من سنتين.. قال خوسيه وعيناه تتفرسان وجه الفلاقي بحقد، ولذة. موجها كلامه إلى العسس:" مزيان ..مزيان ..كبضتو شفار" وبإشارة منه يفهمها العسس انهالوا بالضرب والركل على الفلاقي .ضربوه في كل مكان من جسده. بالعصي بالأيدي وبالأرجل .وتركوا الفرصة بعد ذلك للكلاب لكي تنهش لحمه، وعظمه... لم يصرخ الفلاقي ولم يتوسل لأحد، ولم يطلب من خوسيه العفو. ظل مكورا على نفسه فوق العشب الطري كالقنافذ. يخفي وجهه من الكلاب والضربات حتى أغمي عليه..ظن العسس في البداية أنه مات .فأمر خوسيه بأن يأتوه بسطل كبير من ماء البئر البارد .أخذه بعد أن حملوه إليه وصبه دفعة واحدة على وجه الفلاقي .فانتفض هذا الأخير كديك مذبوح، والدماء تسيل من أنفه، ويديه المزغبتين. وضع خوسيه قدمه بقوة على وجه الفلاقي، وضغط بجسده الضخم الذي يشبه برميلا من الحجم الكبير حتى كاد رأس الفلاقي أن ينفجر.. فخوسيه ذلك المستعمر الإسباني الذي رفض العودة إلى بلاده بعد الاستقلال، وفضل البقاء، وتوسيع بستانه. مستحوذا على البساتين المجاورة له .تارة بإغراء أصحابها بالمال، وتارة أخرى بتهديدهم أو الضغط والتضييق عليهم لبيعها له رغما عنهم. وهكذا وسع بستانه وصار ضيعة برتقال مترامية الأطراف. ممتدة على طول نهراللوكس شمالا وجنوبا. لم يكن يعلم بحقيقة عسسه ،وخيانتهم له فقد كانوا هم كذلك يسرقون البرتقال كل ليلة من أشجار الضيعة، ويدفنونه بحفر معدة. ويغطونها بالتراب وأوراق الأشجار. أو يلقون به في أكياس إلى جانب النهر ثم يحملونه بالنهار، ويبيعونه للتجار. وهناك من العسس من كان ينام في حضن زوجته  الجميلة الشقراءعند سفره إلى اسبانيا..بدا الفلاقي تحت نظراتهم، وعصيهم، وبنادقهم منهكا، ومبللا. أقرب إلى الموت منه إلى الحياة. ورغم ذلك ظلت نظراته إلى خوسيه ، والعسس حادة يتطاير منها الشرر، والتهديد... وكيف لا وهو الذي أرعب المدينة، وأتعب الشرطة، وصار اسمه على كل لسان، ولم يستطع أحد الوصول إليه ..

كما دوخ الكل جاء دور خوسيه، وعسسه.. والويل لمن اقترب من ضيعة خوسيه، وبرتقاله الذي يصدره الى أروبا. نظر إليه خوسيه من جديد وبصق في وجهه بحقد مرددا لازمته  :" شفار.. كلب .. شفار.." لما انتهى  طلب من عسسه أن يكبلوا الفلاقي مع كيس البرتقال ويشدوا وثاقه بقوة بأكثر من حبل، وبسرعة جعلوه هو الكيس كتلة واحدة معدة للتصدير. لما انتهوا انحنى خوسيه على وجه الفلاقي من جديد، حتى صارت أنفاسه ممزوجة بأنفاس الفلاقي،  وشد بعنف أذن هذا الأخير لكي يسمعه جيداقائلا:"سوف نلقي بك مكبلا بالكيس إلى قاع النهر فإذا نجوت فمبارك عليك حياتك وما بداخل الكيس من برتقال وإذا غرقت فمبارك لسمك النهر بوجبة عشاء لذيذة " وهكذا حمل العسس فوق أكتافهم الكيس والفلاقي كما يحمل النعش، وساروا به بين الأشجار والقصب في صمت تحت أضواء المصابيح ونباح الكلاب ..ومن أعلى الضفة المطلة على نهر اللوكس المتدفق نظروا إلى بعضهم بعضا وإلى خوسيه. وبهزة من رأسه ألقوا بالفلاقي مباشرة إلى النهر.. انفجر الماء دفعة واحدة، واندفع إلى الأعلى كمياه نافورة ضخمة محدثا جلبة غطت على نقيق الضفادع، ونباح الكلاب، وهبوب الريح، وغاب الكيس .ومعه الفلاقي في أعماق النهر قال خوسيه لعسسه، وهو يراقب المشهد من أعلى الضفة تحت ضوء مصباحه، ومصابيح العسس:"لوعاش فإنه جني أو شيطان وليس إنسان " استوى ماء النهر من جديد، وعاد كما كان وتعالت أصوات الضفادع والكلاب ...وعادت للنهر سطوته وجبروته وللمكان ظلمته ورهبته...كيف خرج الفلاقي من النهر؟ كيف فك الحبال ؟ من أنقذه ؟...

منذ ذلك الوقت نسجت حوله الأساطير. فهناك من العسس من قال :"عشقته جنية من جنيات النهر اسمها عايشة، تسكن شجرة التوت الموحشة المترامية الأطراف على الجانب المظلم من النهر. لا تخرج إلا بالليل، وهي المسؤولة عن غرق الفتيان في النهر، لأنهم كانوا يزعجونها بالنهار وهي نائمة ، هذه الجنية التي تشبه حورية البحر في جمالها وسحر عيونها، هي التي عشقت الفلاقي، وأنقذته بعد أن سمعت، وشاهدت الواقعة بينه، وبين خوسيه، وعسسه، فأعجبت بشجاعته، وعدم توسله لعسس خوسيه من أجل إطلاق سراحه. ومنذ ذلك الوقت تزوجته". وصار العسس، وحمالوا رمل النهر كل يوم بعد الفجريرون الفلاقي عاريا كما ولدته أمه يسبح معها في النهر..يرشها بالماء والطين ،وترميه هي بأوراق وأغصان الأشجار، وما يتدفق من جمالها وغنجها، وعريها ،وضحكاتهما المجللة تسمع على طول النهر وما بين الأشجار خاصة بالليل، والناس نيام. وتلك حكاية أخرى..

 (يتبع)

وسوم: العدد 881