رفيقا طريق

صوب نظره شرقا . سرحت عيناه فوق الكروم وما يلوح بينها من البيوت . دخان يتفجر سحابة من بيت فوق تل قصف قبل قليل . السيارات تمر أمامه في الاتجاهين شمالا وجنوبا على شارع صلاح الدين . حركتها توحي له بشيء من الأمان . عند زاوية سور المدرسة وقفت امرأة وراحت تنظر شرقا مثله . لعلها تفكر في ما يفكر فيه وتريد ما يريده . تبدو في الأربعينات ، وقامتها ووقفتها تنطقان بالقوة والحيوية . تمتم : اللهم عليك توكلت . اللهم عمهم عني !

ومضى مع الرصيف . سار خطوات فلقيه شاب تعرف عليه في المدرسة التي صارت ملجأ للفارين من الحرب . كان الشاب يتمشى تخلصا من الملل الذي يرهق الروح في المدرسة .

سأله الشاب : إلى البيت ؟

_ إن شاء الله .

_ خذ بالك !

_ ربنا يسلم .

_ إذا لم يكن لذهابك داع ...

ولم يتركه يتم كلامه ، فقال : لابد أن أذهب .

_ على بركة الله .

في السماء طائرات قليلة تندفع شمالا وجنوبا ، وفوق البحر . أشدها إلحاحا واستدامة في سماء المكان الزنانة اللعينة . الشيطانة التي تراقبك متى تحركت وأينما تحركت . رأى على مئات الأمتار رجلا يسير في اتجاهه . قدر أنه يقصد المدرسة . ربما غامر وبات في بيته ، أو عاد إليه مع طلوع الشمس . الساعة التاسعة إلا ثلثا . التفت خلفه فرأى المرأة . يبدو أنها فعلت مثله وعزمت على العودة إلى بيتها . بينهما مائتا متر تقريبا . مال الرجال الذي يسير في اتجاهه غربا . إذن هو لا يقصد المدرسة . إنه من سكان المنطقة . ربما لجأ إلى مكان آخر فهو الآن يعود إليه .

تبادلا التحية إشارة باليد .

أحس بدنو المرأة منه . قال في نفسه : سريعة .

يزداد اقترابها . قالت : إن شاء الله البيت ؟

فرد دون أن يلتفت : إن شاء الله .

تابعت : قلت لها تعالي ، رفضت . عندما يكبر الإنسان لا يسمع النصيحة .

توشك أن توازيه . وسع خطوته ، فتمهلت كأنها تنبهت إلى انها لا يجب أن تسير بجانبه ،وبالتأكيد لن تتقدمه . إنها تستأمن وتستأنس به .

قالت : شريت لها دواء القلب . هذا الأكل لها .

كان في يدها كيس بلاستك أزرق . ما فيه من أكل بعضُ ما يوزع في المدرسة .

سألها : أمك ؟

_ أم زوجي . ألا تعرفني ؟

رماها بنظرة خاطفة . عرفها . من ساكنات المنطقة . جارة بعيدة . بين بيتيهما قرابة أربعمائة متر .

سأل : أين هو الآن ؟

حدست بسرعة عمن يسأل ، فقالت : لن أقول لك .

ليس في حاجة لأن تقول له . زوجها في المقاومة .

صوت دراجة نارية خلفهما . توقفت أمامهما ودعاه الشاب الذي يقودها للركوب فشكره وقال إنه يفضل المشي .

قال الشاب : يتحدثون عن تهدئة .

فقال : تهدئاتهم قصيرة .

فتدخلت المرأة : نريد تهدئة دائمة . حتى اليهود روحهم طلعت .

ابتعدت الدراجة في سرعة مجنونة .

سألته المرأة : زوج مزنة ؟

_ تعرفينها ؟

_ كانت في صفي في الإعدادية .

ومر في باله أنها أكثر شبابا وحيوية من زوجته .

قال: ربنا يحمي لك جواد !

_ بارك الله فيك ، وأنت ...

وانقطع كلامها إلا أنه حدس ما كانت تنوي قوله . لو لم تسكت لقالت : وأنت ربنا يحميك لمزنة .

ولما أزف طريقها لينفصل من طريقه سألته في استحياء : متى ستعود ؟

_ ربما بعد ساعة .

_ لا أريد أن أعود وحدي .

انسحاب القوات الإسرائيلية القليلة التي دخلت الأطراف الشرقية للمنطقة جعل التسلل إلى البيوت مأمونا قليلا .

دخل بيته فدخل في الصمت العميق والوحدة المشجية للقلب . استلقى على السرير . بعد لحظة سيصنع لنفسه كأس شاي .

ليت زوجته قدمت معه . لم يدعها لذلك . كلمها في الجوال في الغرفة ، في الصف ، حيث تقيم مع ثلاثين امرأة بعضهن معيلات مطفلات ، وأخبرها بنيته التسلل للبيت ، فنصحته بألا يفعل .

نزل من السرير . في جسمه تخشب . ينام كل ليلة دون فراش على عشب الحديقة الصغيرة في المدرسة مع رجال وشبان وصبيان . أخذته قدماه إلى المطبخ .خيل له أنه يسمع صوتا . اقترب من نافذة غرفة النوم . بلغه الصوت : يا حاج !

رأى نصف المرأة الأعلى خلف السياج . في الأمر ما لا يسر . مضى إليها حتى واجهها . قالت باكية : لقيتها ميتة.

_ ميتة ربنا ؟

_ لا أدري .

_ جسمها مصاب ؟

_ لست متأكدة .

قدر في نفسه : لو أصابتها قذيفة من قذائف المدفعية المنثالة في عشوائية ضالة من الشرق لما كانت في صورة تجعل المرأة تقول في وصفها ما قالت . سأل : ماذا تريدين مني ؟

_ ترى أن ندفنها الآن ؟

_ ندفنها .

ودخل كوخا يجاور السياج أحضر منه طورية ، وقال : هيا .

وعندما بلغا البيت قادته إلى غرفة منفصلة رأى فيها الميتة ، وأدرك أنها حديثة الوفاة ، فجسمها بلا انتفاخ .

سأل : أين تريدين دفنها ؟

فكرت قليلا ، ثم قالت : تعال !

سارا خطوات . حفر صنعتها المدفعية ، وشجر زيتون كسرت غصونه يعفره التراب . تساءل في نفسه : كيف لا تموت مصابة بالقلب في ظل كل هذه القذائف ؟

توقفت في الجانب الغربي من كرم الزيتون وقالت : هنا !

شرع يحفر . الأرض متصلبة متيبسة من حرارة الصيف المحرقة . بدأ يلهث . قالت : أعاونك .

رد : لا .

وتابع الحفر ، وتوقف حين ظن أنه حفر ما يكفي لمواراة الميتة . وبعد نصف ساعة صارت تحت التراب .

رأى دموعها في وجهها القمحي الناعم القسمات ، فقال يواسيها : أحسن من غيرها . ناس لم يدفن منها إلا رجلها أو رأسها .

سألته ماسحة دمعها بكم عباءتها : متى تعود للمدرسة ؟

_ بعد أن أغلق باب البيت .

_أنا ماشية .

وبعد ثلث ساعة رآها تسير أمامه على نفس الطريق ، ولبثا هكذا حتى بلغا المدرسة .

وسوم: العدد 872