إله الخطايا

ولدَ في اليوم نفسه الذي غُيِّبَ فيه الله عن الوجود، وُلدَ مشوهـاً كهذا الزمن. عندما يغيب الله عن ضمائرنا ، يختل كل شيء؛ حتى البحر يصير سراباً، وبعد فترة الحمل التي دامت آلاف السنين تبدأ رحلة الطلق وتكون الولادة ويأتي على الرغم من قوانين الخلق، يُولد بحواسه جميعها دفعة واحدة.

حبل الخلاص كان طويلاً جداً، يمتد من البحر إلى البحر، يمتد لأزمان لم يكن فيها البشر قد خلقوا بعد. كان قوياً جداً، أتى وبيَدِه آلات تدمير مخيفة، وجد مُلقىً في الصحراء، يكاد حبله السُّرِّيِّ الملتفُّ على عنقه أن يخنقه، أنقذناه وجعلناهُ بمثابة الولد لنا، كنا نراه جميلاً على الرغم من بشاعته المخيفة، احتضناه بحنو وبدأ يرضعنا ونحن نشرب منه بظمأ وجوع قديم، قِدَمَ عمر أنانية ووحشية البشرية نفسها. أصبح أماً لنا، بدأ يعلمنا الكلام وأبجديات التشوه والحقد حتى غدت أبجدياتِ العصر. علَّمنا الكثير، وحَّد جميع اللغات بأبجدياته الجديدة، وأصبحت لغة العنف والدمار بشرية.

لأجله وباسمه تُبنى الجسور، جسور الوصول إلى عالمه؛ تبنى بجماجم وعظام. يَحثُّنا على البناء لنصل إلى عالم يصوره لنا: عالماً جميلاً.

نسعى إليه بعيون عمياء، متناسينَ تلك الجثث التي نمشي فوقها، نسدُّ آذاننا عن صرخات تمزق أفق غبائنا وأنانيتنا. نمشي إلى الأمام دون أن ننظر إلى أقدامنا، عيناه الناريتان تدفعنا إلى السير قدماً.

تُرتكب المجازر ليكتملَ بناء الجسور التي سوف توصلنا إلى ذلك العالم.

هذا المخلوق المشوه أحسه فعلاً، أراه يحتضننا جميعاً، يغذينا بمزيد من الحقد من الدمار، ألا ترين معي ذلك؟

 كانت تسمعني ووجهها تعلوه قسمات الخوف والرعب.

 كفى، أرجوك! إن هذه الأفكار وليدة ظلام الأقبية التي عشتَ فيها مدة طويلة. لا بد من أنَّ ذاك الظلام وتلك الرطوبة قد أثّرا في عقلك.

أخذتُ بيدها، كانت ترتجف.

لا أعرف، قد تكون تلك الأفكار وليدة أي مكان أو أية ظروف؛ أهو عذاب الأقبية فعلاً أم عذاب الجوع الذي عشته طوال حياتي؟ جوعٌ يمتد منذ أيام ولادتي الأولى، جوعٌ لكل شيء؛ للحب؟ للحياة؟ لا أخفيكِ أن العذاب الذي عشته هناك في الأقبية المظلمة، أسلاك الكهرباء وأجهزة الشد وقطع الزجاج التي أكلت جزءاً من جسدي والنار. النار وحدها عذاب لا يطاق؛ لكن، شتَّان يا نور، ما بين النار والجوع!

 أيعقل أن يكون الجوع أقوى من هذا العذاب؟

وبعنف سحبت يدها من يدي.

 كفاك، أرجوك! أيستهويك رعبي؟

قاطعتها...

 لا، لا تقولي هذا! إني معك أشعرُ بأمان لم أشعر به حتى وأنا جنين في بطن أمي! لكن تلك الأفكار اللعينة دائماً ما تهاجمني حتى وأنا في أسعد لحظاتي، أظن أني مريض.

عانقتني محاولة إخفاء دموع كادت تنهمر من عينيها.

 لا أظن ذلك؛ إنه شعور طبيعي بعد ذلك العذاب الذي أذاقه لك هؤلاء السفلة. ولماذا؟ فقط لأنك أحببت وطنك؟

 أتصدقين هذا؟ والله، لم أفعل شيئاً سوى أني أحببتُ وطني وتغنيتُ بقصائدي فيه! أحببتك أنت أيضاً، لقد سألوني حتى عنك: أين تعرفت على نور؟ وكم مرة التقيت بها؟ ماذا كنت تقول لها؟

ابتسمت...

 وهل أجبتهم عن تلك الأسئلة؟

 نعم، فإن من يحب النور لا يخشى كلاب الظلمة.

 ماذا قلت لهم؟

 قلت لهم: "نور هذه حكاية أخرى، سأقصها عليكم بكل سرور ودون خوف؛ تعرفت عليها بعد انتهاء فترة التحقيق الأولى، تعرفت عليها أمام قصوركم الفخمة، التي تعيش تحتها أرواح بشرية تئنُّ من العذاب تحت وطأة آلة التعذيب، التي كنتم تغذونها باسم الوطنية والخوف على أمن الدولة، رأيتها تهم بالدخول إلى الحديقة المحيطة بالقصر، رأيتها، فرأيت النور كله، لكني وعلى الرغم من جسدي المحطم وإرادتي المسحوقة، شددْتُها من يدها ومنعتها من الدخول؟

 إلى أين تريدين الدخول؟

نظرتُ إليها والخوف يقطع أنفاسها...

 أنا ذاهبة إلى هناك؛ فهم يعلنون عن عمل على الآلة الكاتبة، وأنا بحاجة إلى عمل.

كانت خائفة من اصفرار وجهي ومن حلقات السواد التي كانت تحيط بعينيّ. دفعتُها بما تبقى لدي من قوى وقلت لها:

 هل يقبل النور أن يعيش في الظلمة؟ هل تقبل الحياة أن تعمل وصية لدى الموت؟"

نظرت إليّ مندهشةً لِمَا قلت، وأنا أرتجف من البرد والتعب، فاستدارت مبتعدة عني بسرعة وكأن الأشباح تلاحقها.

 وتجرأتَ أن تقص عليهم الحكاية؟

 عندما تتساوى الحياة والموت أو عندما يصبح الموت أشهى إلى النفس من الحياة، يبتعد الخوف وتتساوى جميع الأمور.

 ألم يغضبوا لما فعلته معي؟

 كلا، بل إنهم، وخاصة ذلك الأحمق الذي كانت تستهويه رؤيتي عارياً، ضحك ضحكات شيطانية، وقال: "لقد حرمتنا من صيد جديد كنا سنقضي معه ليالي أنس، لكن ثق تماماً أني سأقضيها معك ريثما تأتي طريدة أخرى.

 كنت أظنه غير جاد بكلامه، لكن الأيام التي تلت أكدت لي أنه شيطانٌ حتى بانحرافه.

 هل فعلوا معك هذا حقاً؟

 نعم، فقد كانوا يقولون لي: "حتى الأنبياء كانوا يمارسون اللواط مع رجالهم، لكي يثبتوا نفوذهم". وقد سألني ذلك الأخرق الشهواني: "هل تستطيع أيها الغبي، أن تجيبني لماذا كانوا يسمون الأنبياء شرفاء، على الرغم من أن الشرف كان مقروناً آنذاك بالأعضاء التناسلية؟ لأنهم أيها الأحمق، كانوا يمارسون اللواط مع صحابتهم، لكنهم لم يُمسوا من قبل أحد. لذلك كانوا وحدهم هم الشرفاء بين قومهم."

بدت عليها علائم الاستنكار، وقالت:

 تلك فلسفة جديدة والله! وهل أقنعوك بها؟

 ظنوا أنهم يسيطرون عليّ بتلك الأساليب؛ فقد كانوا يسجلون تلك الجلسات على أشرطة الفيديو ليروني إياها مرة بعد مرة. هل تتصورين أن إنساناً يمكن أن تمتلكيه من خلال أسته.

النفي

على محيط النفس تطفو مشاعر الحنين والخوف كومضات تنبثق ثم تتلاشى وسط الضجيج. هناك الوطن خلف البحر وهنا الحنين والغربة. شعور يعتصر قلبي وغصة لا تنتهي. وجه أمي والشمس وأشجار النخيل صور تبعث الدفء في قلبي، ليعود صقيع الخوف والوحدة فتجمد دقاته كلما تصورت خارطة الوطن وبقع سوداء تنتشر فيه هنا وهناك، بقع بحجم أنفاسي، عشت فيها طويلاً حتى باتت تسكنني رعباً وفزعاً، بقع تتصل فيما بينها بأروقة بلا مصابيح، وعند كل منعطف غرفة للتحقيق. هناك يسألونك عن كل شي حتى أحلامك ويتهمون أمك بالعهر.

أقبية تصل العواصم ببعضها بعضاً بدهاليز سرية قد تعفنت من الظلمة، وأنتنت بمؤتمرات تولي العرش الممتد على جسد الوطن.

أيقظني من أحلامي هذه، صوت قرع عصا على بلاط المقهى وهو يقترب مني:

 هل أنت عربي؟ قالها بالعربية، وجلس قربي.

كان شيخاً يناهز الستين، أغرب ما فيه عصاه تلك؛ آثار السنين بادية عليها بشقوق كانت نفسها على وجهه، ولكن بشكل أعرض وأقسى.

تابع حديثه:

 لا بد أنك عربي، فهاتان العينان وهذا السمار البدوي يدلان على أنك عربي وهارب من هناك.

أجبته والفزع يفضحني بصوتي:

 نعم أنا عربي ومن هناك لكني لست هارباً كما تقول.

ضحك ضحكة عالية وقال:

 لا تخف يا بني، فهؤلاء الأشباح الذين يقطنون رأسك لا وجود لهم في هذه المدينة.

غبي هذا الرجل، فهو لا يعرف أنهم في كل مكان، ولا بد أن أحدهم قابع في إحدى جيوبه، وما الذي أدراه ما يدور برأسي؟ لعله واحد منهم؛ فهم يعرفون كل شيء، حتى الأحلام يعرفونها ويحاسبون عليها.

سألته وأنا أتصنع الشجاعة:

 وهل أنت أيضاً عربي؟

أجابني بنظرة حزن محولاً نظره خلف البحر:

 نعم أنا عربي ومن هناك، قاسيت الكثير. يكفيني أني فقدت هناك زوجة وطفلة.

أحزنتني آلامه التي كانت تتجسد بكل نبرة في صوته، بكل تعبير من تعابير وجهه، وهذا ما دفعني لأن أطمئن جانبه وأتابع معه الحديث.

 ولكن كيف عرفت أني هارب من هناك؟

نظر إليّ بحزن ونظر إلى يدي التي كانت تحمل فنجان القهوة وقال:

 آثار وحشيتهم بادية على يديك.

وبحركة عصبية وضعت فنجان القهوة وأخفيت يدي. غصة في الحلق وصور تداخلت في الذاكرة؛ فمهما بلغت شدة الألم ووصلت الأعصاب إلى مستوى تفقد فيه القدرة على التنبيه، ثمة بقعة في الدماغ البشري تستمر بعملها، وتلك كانت مصيبتي؛ أذكر كل شيء: أصواتهم، أشكالهم أراها من خلف عصابتي، أنيابهم تطاولت من كثرة استعمالها وأحيانا كانت تقطر دماً. أين فهد؟ ومتى شاهدته آخر مرة؟ من أصدقاؤك غيره؟ من كان معكم؟ تكلم يا ابن الـــ....... وأفقد جزءاً آخر من يدي.

أعادني إليه بسؤاله:

 ولماذا أخفيت يدك؟ آثارهم هذه وسام لك، كنت أظنهم قد غيّروا أساليبهم وابتكروا أساليب جديدة، ولكنهم على ما يبدو يحنّون لتلك الأساليب، فهي تجعلهم يتلذذون أكثر من استعمالهم لأسلاك الكهرباء وأجهزة الشد، فتلك الطرق تترك خلفها المزيد من الدماء.

نظرت إلى أصابعي وقلت له:

 أنت تقول هذه الآثار بمثابة الوسام لي، وهم يقولون: إنها دليل خيانتي وتآمري على أمن الدولة.

وبعصبية قاطعني:

 كلاب، كلُّ ما يقولونـه كذب. هم أخطر من الطاعون نفسه، هم الخائنون، هم المتآمرون على الإنسانية ذاتها. أنت، بالله قل لي: ماذا فعلت حتى أصابك ما أصابك؟

قلت له، وكأني أبرئ نفسي أمام قاضٍ سيحكم عليَّ بعد قليل:

 والله لم أفعل أي شيء سوى أني أحببتُ وطني وتغنيتُ به في قصائدي.

وضع عكازه على مسند الكرسي، اقترب مني قائلاً:

 أرأيتَ؟ هذه هي الخيانة عندهم. يجب أن تحب مولاهم وتنظم قصائدك لمدح دلائل نبوته، عندها ستكون المقرب لديهم، أما أن تُظهرَ عريهم فـ "لا"؛ لأنَّ عريهم فاحش، إن فعلت هذا أو حتى إن فكرت فيه، فسيمسحونه من ذاكرتك بأية طريقة؛ فأنت مهما عاشرتهم أو رأيت منهم، فإنك لا تعرفهم كما أعرفهم. لذا لا تقنع نفسك بأضاليلهم، لأنّك لو فعلت فقد حكمت على نفسك بالغباء وحققت لهم مبتغاهم. حدثني عنك أكثر؛ يبدو لي أنك قاسيت الكثير مثلي!

 قلت له: أرجوك يا عم، إنك لَتضعُ يدك على جرح حسبتُه قد اندمل.

أخذ بيدي بعد أن تناول عصاه ونهض، ثم قال:

 هلمَّ بنا يا بني، فكثير من الجراح تحتاج لمشرط كي يزيلها، تعال معي إلى مكان أقل ضجيجاً من هذا المقهى. سأدلك على منزلي فأنا أدعوك لتناول الشاي العراقي معي.

ودون أن ينتظر موافقتي سحبني من يدي خارج المقهى وتابعنا المسير بموازاة شاطئ البحر. انتابني مزيج من الخوف والحذر كلما نظرتُ في وجهه، وهو يسير قربي بخطىً وئيدة يزيدُ على وقعِها صوت قرع عصاه على بلاط الرصيف. ولا أعرف ما الذي جعلني أتذكر شيخ الجزيرة في قصة السندباد!

أخيراً، وصلنا إلى منزله. لم يكن بعيداً عن المقهى، منزله بدا غريباً هو الآخر؛ لم أعرف لأي غرض صُمم؛ فهو لم يكن منزلاً بالمعنى الصحيح، كان أشبه بتلك الغرف الصغيرة التي يجعلونها سكناً لحراس المنازل الفخمة، لكنه كان مرتباً من الداخل على الرغم من أثاثه البسيط! جلس على أول كرسي صادفه وأسند رأسه على عصاه وخاطبني بصوت منهك:

 تفضل إنه منزلك على الرغم من تواضعه، فأنـا أعتزُّ به فهو يعرف كل أسراري، إذ طالما حدثت نفسي فيه بصوت عال، وذلك مرض أصابني بسبب الوحدة.

جلستُ قربه سائلاً:

 وما الذي أرغمك على ترك الوطن والعيش وحيداً أواخر أيامك ؟ فأنت بحاجة لأي شخص يؤنس وحدتك ويرعاك.

ودون أن ينظر إليَّ أجابني:

 ليس مثلك من يسألني هذا؛ فأنت تعرف أن هناك أكثر من سبب يرغمك على أن تتخلى عن أهلك، عن جزء منك، عن وطنك! ثمَّ ما أدراك أني بحاجة لمن يرعاني؟ أنا أستطيع أن أرعى قبيلة بأكملها. أُفضّل أن نكمل حديثنا ونحن نشرب الشاي فأنا بحاجة إلى قليل من الدفء.

نهض متوجهاً إلى زاوية الغرفة، بينما تابعت تجوال نظري داخل غرفته. وقفتُ طويلاً أمام صورة لفتاة في مقتبل العمر، عاد إليَّ وهو يدندن أغنية شعبية، لكنه صمت عندما رآني أنظر إلى تلك الصورة وقال:

 هذه ابنتي نور...

مئات من الصور تداعت أمامي تحولت جميعها إلى قطرات من الرصاص المنصهر لتنسكب على قلبي لتزيده حرقة وجوى. ولم أعرف كيف خرجت من عنده وكيف وصلت إلى البحر وألقيتُ بجثتي على رماله.

نــــور

(1)

كان اسمها نور. كل ذنبها أنها خلقت في هذا الزمن؛ فثمة أناس خلقوا على الرغم منهم في زمن تمنع فيه حتى الأحلام.

هذا كان ذنبها، أحلامها كانت أكبر من زمن الظلمة هذا، كانت تحلم بفجر يصارع هذا الزمن، بفجر تقوده جيوش النور القادمة من رحم الثورة، قادمة أعراس الزنود السمر لتغلق أفواهاً لا تشبع من سلب الأرواح وبيعها في سوق الأمم المتحدة، لا تشبع من شحذ الأسنان بالحجر الأسود لمضغ لحوم تحرقها شمس الحرية، يزيد أتون هذه الشمس لتنضج أفكاراً حرة تمضغها على موائد مؤتمرات القمة. الزنود السمر ستسحق أسباب الردة، ستعيد الشمس لمدارها الصحيح، ستعيد لنور ضفيرتها الشقراء. أحرامٌ على نور أن تبحث عن ضفيرتها الشقراء؟ ضفيرة نور جدلت سلاسل تقيد نسوراً تعبت من التحديق للعلاء، فضفيرة نور تقيدها، تمنعها من جر الإعصار القادم من رحم الثورة ، جدائل نور جدلت بيد أشباح ليل زمن الظلمة، أشباح الليل المتقوقعة في أطماع تولي العرش الممتد على جسد نور.

آه نور، ساقوكِ للذبح مراراً؛ ذبحوا بكِ حتى عروبتنا. لم تصرخي؛ أنت وحدك تعلمين أن آذاننا مسدودة بقذارة أنانيتنا، لا تصرخي، لن نستجيب.

نور بيعت في سوق النخاسة ، وقفت شامخة الرأس ، في عينيها كنت ألمحُ جيوش المسحوقين في وطني تحمل كرسياً أجوفَ تحرقه، وترسل لهيبه للشمس، ألمح جديلتها تاج نصر وغصن غار يتوج نصبها في ساحات بلادي ، ألمح في عينيها وطني.

بيعت نور وكان الشاري سادة وطني، بيعت لتحيا لياليَ عارية الصدر، وآلاف الأفواه القذرة تتلمظ تريد قسمة جسد نور آخر الليل، وكل ظل له الخيار في القسم. ونور تحلم بالفجر القادم من رحم الثورة. نور، كفاك أحلاماً! نور، هبّي فضفيرتك تنتظر الحسم!

آلاف النسور قادمة، تجر إعصاراً يدمر قصور أشباح ليل زمن الظلمة، وتخرجك من سرادق عهرهم. نور، خيارهم لن يجدي ما دامت الزنود السمر ستعيد ميزان العدالة.

لن يقتسموك، لن تنجح أسباب الردة، زنازينهم جدرانها هشة، تيجانهم باتت من ورق وأشباح الظلمة، سبوك خوفاً من أن يصبح حلمك ثورة.

(2)

اليوم كان يوماً آخر، لمحتك من إحدى النوافذ وحيدة يفوح من مشيتك وجع، كم تلمسته يضج في أعماقي! كنت على قناعة تامة بأننا بحاجة لبعضنا بعضاً كأصدقاء، كحبيبين، لأشياء لم أعرفها.

كنت أظنُ أني عرفتك جيداً، أحببتكِ صديقة طيبة ومخلصة، وألِفتك طفلة رائعة تقاتل بشراسة الثوار، بمفردات كتبِها المخبَّئة. تجفف ماضيها من الهروب والأنانية، ثورية منفعلة بأحلام الفقراء. أحببتك طفلة هاربة من ليل الذئاب، تثأر لكل الذين رحلوا ولكل الأطفال الفقراء في هذا الوطن، ترد لهم ابتسامتهم، فرحهم، وطفولتهم، ترد القتلة بالكلمات عن حدائق أطفالنا، بوعيها وبطيبتها المقاتلة.

لكن لقاء اليوم كان شيئاً آخر؛ حركاتك المرتبكة، وفزع يتجلى برعشات في جفونك، ونظراتك تائهة لا تعرف أين تستقر وكأنها تبحث عن شيء ما! كنت تسألينني عن أشياء غريبة: ما الذي يريدونه منك؟ ماذا سيفعلون بك لو علموا أنك واحد منهم؟ ما هي علاقتك بالآخرين؟ وعن سبب الاضطرابات الأخيرة و مظاهرات الطلبة، وهل تستطيعون المقاومة لو قوبلتم بالعنف؟

أسئلة كثيرة لا أعرف سببها! لم أعرف الحقيقة سوى بعد تلك المجزرة، وبعد أن رأيتك تلفين حبل الوطن حول عنقي وتشنقينني بسقف بيت أمي.

إن أصعب حالات القهر تلك التي يحسها الإنسان وهو مطعون في قلبه من أقرب الناس إليه، أبلغ جرح هو ذاك الجرح.

لم أكن أعلم أنك تلك الطفلة التي سيغتالون بها الوطن داخلي! صوتك ليلة المذبحة وليلة الاعتقال كان يخترق أفق غبائي، يخترق عصابتي، لأراكِ من خلالها جالسة بينهم تؤكدين كل ما أسند إلي، يتردد صوتك في أعماقي ليفجر براكين غضب ترسل حممها لتحرق أجمل الأشياء داخلي وتأتي على آخر زهور قد زرعتِها أنت بنفسك، يومها فقط تأكدتُ أن ذلك المخلوق المشوه قد وصلت أياديه الأخطبوطية إليك لتحولك إلى مسخ آخر يسخّره لخدمة أغراضه التي توصله إلى ذلك العالم الذي يتوق إليه.

لم أصدق أن نور بيعت وأن الشاري هم سادة وطني!

في زمن الطلق تتشوه كل الحقائق لتأخذ شكلاً آخر، شكل المرحلة، تمتد الظلال وتتسع لتغطي آخر نقطة مضيئة في النفوس، فتحيل النور إلى بحر من الظلام نتخبط فيه لتمتد المجازر بعيداً لتشمل كل شيء حتى الحق والخير والجمال، فتنزف الورود دماً وصديداً وتُذبح الأجنة في الأرحام خوفاً من أن تولد مشوهة كهذا الزمان، زمن الطلق، فكل شيء لا يأخذ شكل التشوه محكوم عليه بالإعدام حتى قبل أن يولد. فليشرب هذا الزمان أملاح التعب ولتنزف حتى الورود. الأمل باق وسينسج ألحان المستقبل؛ فالزهور لن تموت مهما نزفت.

هذا الزمن ليس بأخرس؛ فالصمت يخبئ ألف عاصفة، وعلى الرغم من لعبة الموت ومراسم الدفن، فإن الطفولة ستكبر وتكبر لتحطم تلك السلاسل لتأتي لحظة الولادة مهما طال زمن الطلق. فلندع النوافذ مشرعة لجميع رياح الأنانية وعواصف الجهل والخيانة، فلا بد من لحظات ألم مقدسة قبل الولادة.

مقتل هابيل

يد على الزناد وأخرى تضغط بشدة على جرح محاولة بإعياء إيقاف سيل ينفجر بركاناً أحمر. على الرغم من حشرجة الموت في صدره وأنفاسه المتقطعة كان صوته قوياً وحازما،ً بل كان تلك الليلة صارماً أكثر مما ألفناه.

يجب أن تتفرقوا الآن، أستطيع تغطية الانسحاب وحدي. من الأفضل ألا تلتقوا هذه الأيام، لا بد أن معلومات كثيرة قد وصلت إليهم، اعتنوا بأنفسكم.

البرق يشق الظلام ويكشف عن موتٍ أسودَ رهيبٍ، يتردد صداه الذي لا يُسمع ولا يسمعه سوى الذين يصدرونه. أشلاء مرماة هنا وهناك، دماء داكنة حارة تهب منها رائحة الموت والدمار، رائحة البارود تنبعث من جميع الاتجاهات، إن لعنة الإله الصامتة ألقيت لتردَّ أصل الحياة إلى العدم. من بين تلك الأشلاء، خرجت متلفحة بوشاح أبيض، كانت مهابة الآلهة تتربع على محياها، وكان وجهها يشرق بنور غريب يبدد تلك الظلمة القاتلة، سارت بخطىً وئيدة متعبة قاصدة ذلك الجبل الذي كان يلقي بظلاله الكثيفة ليزيد المكان رهبة وسكوناً. أخيراً، وصلت قمة ذلك الجبل ورفعت يديها مناجية ابنها، ذلك المخلوق المشوه: "أيْ بني، لمَ فعلتَ بي ذلك؟ ما الذنب الذي اقترفته لأستحق كل هذا؟ أخوك، حرمتني منه مرتين: مرة صلب أمام عينيك، كانت دماؤه الزكية الطاهرة تعمد أعماق أرضنا الطيبة، كان أملي عندها أنْ تسقي دماؤه تلك الأرض لتنبت غراساً طيبة تتفيأُ ظلها الأجيال القادمة. أما أنفاسه الإلهية، فكنت أتمنى أن تبدد عفن واقع كنا نعيشه لتحل محله أطيب أنسام، يستنشقها جيل آتٍ يأخذ الثأر لدمه.

في المرة الثانية أحرق على مذابحك المقدسة ، قدم قرباناً لك ، قطعت أشلاؤه أمام عينيك وأحرقت لتكحل عينيك برمادها. هذه المرة قررت الصوم عن الكلام مدى الحياة. لماذا أتكلم؟ ولماذا أبث همومي؟ ومن سيأخذ الثأر له؟ لقد ذبح بيد من تنشق عبير أنفاسه. من سيأخذ الثأر له؟ أنت؟ أنت الذي كحلت عينيك برماد حطامه؟ لذلك قررت الصمت الأبدي.

من يومها كانت تتجول بين قومها، تحتضن سراباً تحسبه ابنها، والصمت محفور على وجهها يعبر عن أشياء وأشياء. كثرت الأصابع الممتدة إليها متهمة إياها بالجنون، اتهموها بأنها تحمل وباء لكل قوم تحل فيهم، وآخرون حملوها قرد مسرحٍ بها يتاجرون، وكانت رياح الأنانيات والخوف من وزر ما تحمل، تتقاذفها من مكان الى آخر.

ما زالت حتى يومنا هذا تبحث عن مأوى لها، صامتة صمت الصحراء، فلمن تستطيع أن تشكي؟

ما زالت هائمة تعاصر الأجيال، تبحث عن جيلها المرتقب ، الجيل الذي ستفك صومها أمامه، بل ستصرخ شاكية عما عانته، ستحمّله الثأر لأنهر من الدماء سكبت قرباناً لآلهة مزيفة، ستناشده تحطيم تلك الآلهة، ستصنع من هذا الجيل ابناً لها؛ فابنها لا يعوض إلا بجيل، عندها فقط ستعترف أمام الجميع من هو قاتل هابيل.

**************************

بعد الألف الرابع من تتويجه عُمِّد بالدماء، دماء قرابين بشرية سكبت على مذبحه المقدس. شرب حتى الثمالة وسكر بأمجاد بناها له أشباه آدميين، كانوا يحيطون به.

الآن فقط تستطيع النوم، لم يعد هناك ما تخشاه، لقد قضينا عليهم جميعاً؛ أعداءَك أعداء الوطن. تلك التي قضّت مضجعك انتهت، ستنام بعدها هانئاً. نشوة النصر أسكرته، وقف مترنحاً ورفع يده ليعم الصمت أرجاء السماء المرصعة أمامه بنجوم ونياشين براقة:

"لكم المجد بناة الوطن، أنتم سادة الأمة، أنتم منقذوها ، أقدر حبكم عالياً، أقدر جهودكم في القضاء على أعداء الله والوطن، أكافئكم بمزيد من الحب، بمزيد من الثقة، افعلوا ما يحلوا لكم فقد وهبتكم حق تقرير الحياة والموت لجميع الأحياء والأموات".

لكنه على الرغم من جميع التقارير الواردة إليه من فروعه السرية المنتشرة في كل مكان والتي أتت مطمئنة له: "لم يعد هناك شيء، قضينا على الجميع، قطعنا خطوط إمداداتهم الخارجية، عرفنا المحرضين الأساسيين"، لم يستطع النوم ذلك اليوم، كان حضورها أقوى. خرجت من مسامات جلده بوشاحها الأبيض ومهابة الآلهة تتربع على محياها، وذلك النور الذي كان يشرق من وجهها ويضفي على المكان جلالة وعظمة. كاد اليوم صوتها أن يمزق جدران الكون ويهز كيانه؛ قابيل ماذا فعلت بأخيك؟

البحث عن وطن

طلقة في الصدر ويهوي الطائر الذي كان في مقدمة السرب ... وفي اللحظة نفسها يسقط شهاب من السماء ويتابع السرب طيرانه باتجاه نور القمر وبسرعة أكبر.

لماذا قتلوه؟ ولماذا اختاروا تلك الليلة بالذات؟ كنا سعداء جداً بقدوم مولوده الجديد، مسٌّ مـن الجنون أصابه بعد ذلك النبأ، بدأ ينتقل بيننا يرقص كالطفل، يقبّل هذا ويشد شعر ذاك. أخيراً، لقد أتى، انتظرته طويلاً. تصوَّروا أني عندما فقدتُ الأمل من إنجابه طلبت من جارنا (أبي أحمد) أن يفعلها لكي يأتي، فأنا لا تهمني الطريقة ، أنا أريد أن أراه فقط ، أن أضمه إلى صدري، أن أغرسه بتربة الحديقة وبمكان شجرة السنديان التي زرعها والدي والتي قطعها هؤلاء الكلاب، بمكانها تماماً كي يأتي مثلها قوياً صلبا.عندها نظر إليّه أبو أحمد ببله وقال له: استغفر ربك أيها الكافر فلن ترى ولداً. ما زلت كافراً! لكن ها هو قد أتى على الرغم من الله ومن جارنا أبي أحمد. إني سأسميه ......

وفي تلك اللحظة بالذات، دخل أكبر الكلاب حجماً، لقد كنا نخشاه جميعاً، فهو لا يأتي إلا للمهمات الكبيرة ، قاطعه بلكمة على صدره وجره أمامه ... دقائق من الصمت سادت بيننا. كان كل واحد منا يخاف أن ينظر إلى الآخر. وفجأة بدأ ضوء الغرفة يخبو قليلاً ويعود للتوهج مرة ثانية ... صرخاته كانت تمزق أفق السكون على الرغم من أننا لم نسمعها. عندها علمنا أن فهد لن يعود إلينا مرة ثانية.

في منتصف الليل سمعت نشيجاً مكتوماً ، بحثت عن مصدره، كان عبد القادر يكتم بكاءه بوسادته التي كانت ملطخة ببقع من الدم ... ما بك يا رجل علام البكاء فهو ليس الأول وليس الأخير أي واحد منا ينتظره هذا المصير في أية لحظة، حتى أنت لن يعفيك هذا السل من أن يفتكوا بك. إنهم أخطر من مرضك نفسه.

 أبكيه لأني الوحيد الذي يعرفه جيداً بينكم. إنه والله مظلوم، فهو لا يعرف يميناً من يسار. كل همه في دنياه عمله وزوجته ووليده الذي كان ينتظره. لماذا هو بالذات؟ فهو لا يشكل أي خطر عليهم... هو الوحيد بيننا من كان عنده الأمل بالخروج إلى زوجته وولي شقائه المنتظر، لم تكن تخيفه هذه القضبان وهذه الكلاب المتوحشة خلفها.

 أخي قدور كلنا يعرف لماذا هو بالذات. فهو لا يملك أي شيء. لا يعرف أي شيء. كان كبش الفداء لنا كي يخيفونا بمصيره لنسحب معنا كثيراً من الأعزاء لدينا إلى هنا ليلاقوا نفس المصير، لذا أريدك أن تجفف هذه الدموع ولا تدع الضعف يدخل إلى قلبك، فمصير فهد سيزيدنا تصميماً على موقفنا بالكتمان لكل ما يريدون معرفته.

بدأوا يستيقظون واحداً تلو الآخر وكأن عصباً يربطهم معاً، ومن زاوية مظلمة تحركت أوتار عود لتتوحد مع ظلمة المكان وأصوات تنشد بهدوء نشيد الحرية.

***

بعد أن وقعت تنازلي عن إنسانيتي وكرامتي خرجت إلى عالم آخر رأيت فيه الأزقة والشوارع مليئة بسيول بشرية تبحث عن لقمة العيش، وفي رأس كل واحد منهم تتضارب أفكار عدة، كأن متناقضات العالم حشرت برؤوسهم لتتعبهم وتوصلهم إلى هذه البلادة في التفكير، فهم أضعف بكثير مما يقاسون. قلة منهم تمردوا على كل شيء، فهذا يقتل ليشرب نخب حبه آخر الليل، وذاك يتاجر بعقول البائسين، وآخر هناك جمع فئة يخطب بهم بصوت عال يدعوهم للسجود خاشعين أمام خالقهم ليسكت صوت الثورة في نفوسهم.

والسيل يجري ليصب في معامل تحول أرواح هؤلاء الذين يُدْعَوْنَ بشراً إلى ذهب أصفر لتمتلئ به خزائن سادة مدينتي، مدينة الشيطان الأصفر. تركت هذه السيول البشرية وتلك المدينة وحزمت أمتعتي متجهاً إلى المحطة أبغي الرحيل... وصلت إلى هناك، صعدت القطار وابتعدت ملوحاً بيدي لنفسي التي بقيت على رصيف المحطة، بدأت المسافات بيننا تكبر شيئاً فشيئاً ويغيب الوطن عن عيني فتنهمر دمعتان أعجل بمسحهما محاولاً عبثاً أن أبعد عن مخيلتي أشباحاً من الماضي.

بالأمس كنت أناقش نفسي التي كانت دائماً تعارضني في فكرة الرحيل ، لم يبقَ لي سبب واحد للبقاء. هنا ضغوط كثيرة تمارس عليّ تجبرني على حزم أمتعتي والرحيل إلى أي مكان بعيد عن هذا الوطن.

 لقد قررت الرحيل.

 ولكن هذا ضعف منك، يجب أن تبقى متحدياً كل هذه الضغوط وتثبت وجودك وانتماءك إلى بيتك ووطنك الذي أعطاك وجودك، أعطاك أسباب بقائك، أعطاك كل شيء.

 هراء، كل ما تقولين يا نفسي؛ أنت وحدك تعلمين بكل شيء، حتى البحر في وطني أصبح سراباً، ضاعت كل الحقائق في متاهات ماضينا فجلسنا نبكي عليه، عمالقة وطني باتوا أقزاماً تعبوا من الركوع أمام خنافس يدعونها دول عظمى وتعبت أنا.

 ولكن يجب أن تبقى لتعيد ماضياً هم اكتفوا بالبكاء عليه، يجب أن تبقى، فليس الحل بالرحيل كما تعتقد.

 هل أنت واعية لما تقولين ! كيف لي أن أبقى متحدياً، حتى أنفاسي حبست في سراديب تعفنت من الظلمة، كل الرؤوس دفنت في تربة هذا الوطن خائفة مذعورة وبقيت المؤخرات شامخة، كيف لتلك المؤخرات أن تواجه كل ما نحن فيه، لقد أصبحت في وطني سلعة رخيصة مستهلكة، حتى الكلمة أصبحت بغياً، فقدت شرفها. أما الله فقد سقط في معيار التقدم وقُـــيّم رجعياً ... وتريدينني أن أبقى؟ وإن بقيت ماذا أنا بفاعل في وطني؟ كل النفوس فيه تمشي مطأطئة الرأس تبحث عن كرامة فقدتها منذ زمن بعيد، تريدينني أن أبقى لأثبت وجودي؟ أنا منذ خلقت في وطني لا وجود لي، عليّ أن أجد إنسانيتي وكرامتي في وطن آخر.

أجابتني متنهدة:

 أنا راضية بما أنا فيه، سيأتي يوم أمشي فيه عالية الرأس مستعيدة كرامتي. ابقَ معي ولنبحث عن تلك الكرامة الضائعة، فسنكون خير عون لبعضنا بعضاً.

 كلا لن أبقى بل الأجدر بك أن تذهبي معي ... فتراجعت مذعورة وقالت:

 أنا لن أغادر هذا الوطن، فأنا كالسمكة إن فارقت محيطها ماتت غرقاً.

 ابقَيْ إذاً وحيدة أنت والرعب الذي خلق فيك عله يواسي وحدتك.

 فانهمرت دمعة من عينها وقالت: أتسخر من شقائي؟

 قلت: بل أنت التي تسخرين من نفسك ببقائك في هذا الوطن.

 إذاً، هذا قرارك الأخير؟

 بل هو قراري الأول، أنا لم أقرر شيئاً منذ خلقت، سيكون هذا قراري الأول الذي تتوالى بعده القرارات، فأنا لا أستطيع أن أقرر مصيري سوى خارج حدود هذا الوطن، الذي لا حدود له في قلبي.

***

في زمن التصحر يمتد الجفاف إلى كل شيء، حتى البحر يصبح كثبان رمال. عطش قاتل يصل إلى الجذور ليحيل جميع الأشياء إلى بقايا حطام ورماد. في هذا الزمن نبحث عن ظل نتفيأ به ، عبثاً نحاول، حتى الظلال هجرتنا مع الطيور بعيداً. عطش لكل شيء، عطش للحرية، للحب ، للحياة عطش يمتد منذ النشأة الأولى .

في هذا الزمن يتبوغ أصل الحياة منتظراً لحظة الطلق لتكون الولادة، ولادة قيم أهلكها العطش والجفاف. زمن تضيع فيه الحقائق ويصبح الاغتراب حقيقة نعيشها مرغمين. إن أصعب حالات القهر تلك التي يشعر فيها المرء أنه غريبٌ حتى عن أقرب الناس إليه، حينها يصبح الوطن سفينة ضائعة تلفظها كل الموانئ، ونضيع فيه بين صفحات جواز السفر ... حدوده مرسومة فينا، تقسمنا وتفصلنا عن أجمل ميزة فينا تنزع منا كبرياءنا، إنسانيتنا، تنزع منا انتماءنا.

إلى متى سنبقى غرباء في وطن قُلعنا منه ومن جذورنا؟ متى سنجد ذلك الوطن الذي نمد جذورنا بتربته ونشمخ به عالياً نتحدى جميع رياح الأنانية والضعف والتفرقة لنعيد أمجاداً اكتفينا بالبكاء عليها؟ متى سيعود ذلك المنفي من نفسه إلى داخل الوطن الذي لا حدود له في قلبه؟

 

وسوم: العدد 643