أمنُ الثورة ، الأمن والقرآن الكريم (4) (تأصيل شرعيّ)

يوسف عليه الصلاة والسلام: دروسٌ أمنيةٌ بليغة!..

إنّ قصة يوسف عليه السلام مثال واضح على حتمية الصراع بين الخير والشرّ، بين الحق والباطل، بين الهدى والضلال.. ولا يُحسَم هذا الصراع لصالح أبناء الحق والخير والهدى إلا بأمرين اثنين معاً:

1- الإيمان الصادق القوي بالله عزّ وجلّ، وبالدعوة التي يسيرون في ركابها.

2- اتخاذ كل الأسباب اللازمة الضرورية لمواجهة العدوّ والطغيان والشرّ.

إن السير في خطة حمايةٍ متكاملةٍ هو أحد الأسباب المهمة التي ينبغي الأخذ بها في كل مراحل الصراع، فمهما كان عدد المجاهدين في سبيل الله، ومهما كان عدد أفراد العدو، فإنّ (العمل الأمني) لا يمكن الاستغناء عنه أو تجاهله طالما أن الصراع موجود، وعلى أي وجهٍ من الوجوه كان!.. وهذا المفهوم الأمنيّ يتجلى واضحاً في قصة سيدنا يوسف عليه السلام!..

لقد رأى يوسف عليه السلام في المنام رؤياه المشهورة التي أدخلت القلق إلى نفس يعقوب –والده– عليه السلام:

(إِذْ قَالَ يُوسُفُ لَأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ) (يوسف:4) .. ولأنّ يعقوب عليه السلام عرف تأويل هذه الرؤيا، فتوقع على الفور نتائجها فيما لو علم أبناؤه بها وبتأويلها، فهو أعلم بطبيعة أبنائه وسرائرهم، التي يتملكها الحسد والغيرة وقسوة القلب التي تجعل من هؤلاء الأبناء أعداءً ألدّاء ظالمين.. فماذا كان موقف الوالد يعقوب عليه السلام؟!..

لقد (حذّر) ابنه يوسف عليه السلام من أن يبوح بخبر الرؤيا لإخوته، أي وصّاه بحفظ السرّ، سرّ الرؤيا.. (والسرّية) بمعنى عدم كشف أسرار الدعوة من أهم أساليب العمل الأمنيّ، ومن أهم وسائل تحقيق (الأمن والحماية) لأبناء الدعوة!..

(قَالَ يَا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ) (يوسف:5).. إنه الكيد!.. سلاح الحاسدين الذين تعميهم نفوسهم الصغيرة عن اتباع الحق، والذين يتركون المجال واسعاً للشيطان -عدوّ الجميع- للتلاعب بهم، ولتأجيج نار العداوة والبغضاء بينهم.. ثم تأجيج نار الصراع!.. وبصيرة الوالد يعقوب عليه السلام تكشف الكيد، ويحاول تجنّبه وتجنيب ابنه يوسف عليه السلام شرّ الأشرار، وإنّ ما توقّعه -بنفاذ بصيرته، وبعلمه وحكمته وحنكته- لم يكن ضرباً في الفراغ.. فهاهم الأبناء الذين أعماهم الشرّ يأتمرون ويتآمرون:

(اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ) (يوسف:9)!..

ويأتي الأبناء يطلبون من أبيهم إرسال يوسف عليه السلام معهم، ويدخل الصراع مرحلةً جديدة، ويحاول الأب أن يحميَ ابنه من الكيد والشرّ، لكن كيف؟!.. فهو والدهم كلهم، وهو لا يريد أن يبوحَ بحبه ليوسف عليه السلام، لأن ذلك سيؤجج نار الحسد في صدور أبنائه الآخرين، وسيقدم دليلاً جديداً ومبرراً آخر لهم، ليستمروا في خطّهم الأرعن بالكيد!..

لم يجد يعقوب عليه السلام إلا (التورية والتغطية) سبيلاً للتملص من طلب أبنائه:

(قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ) (يوسف:13).. فقد خاف على ابنه الحبيب منهم، فكنّى عن ذلك بالذئب، كي يصرفهم عن طلبهم الخطير، وهو عالم بنيّاتهم ومَكرهم، ومتوقّع شرّهم بحق يوسف الحبيب!.. وكل ذلك كان بهدف (الحماية) و(تحقيق الأمن) لولده يوسف عليه السلام!..

لكن لأمرٍ يريده الله، غُلِبَ الأب الحكيم على أمره، فكان لهم ما أرادوا.. فللباطل أيضاً أساليبه (الأمنية)!..

وهاهم الأبناء بعد ارتكاب فعلتهم الشنيعة بإلقاء يوسف عليه السلام في غَيابة الجبّ، يتصنّعون الحزن والبكاء:

(وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ) (يوسف:16) .. ويختلقون قصة ضياعه المزعومة من بين أيديهم، ويبذلون جهدهم على أن تكون القصة محبوكةً بدهاء، ومُقنعةً منطقية:

(قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ) (يوسف:17).. ثم ماذا؟.. (وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِب) (يوسف: من الآية 18).. وهكذا استخدموا كلَّ وسيلةٍ ممكنةٍ بأسلوب (التغطية) و(التعمية)، لتبرير فعلتهم، وتحقيق مأربهم!.. فالباطل إذاً يملك من الأساليب الأمنية ما يستوجب مقابلتها بأساليب أشدّ دهاءً وذكاءً للتغلب عليه!..

ويـُمكّن الله عزّ وجلّ ليوسف عليه السلام في الأرض، بعد سلسلةٍ من المحن المتلاحقة:

(وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:56).. وينصره ربّ العزّة، فيحكم يوسف عليه الصلاة والسلام بما أنزل الله.. ولكن قصته مع إخوته لم تنتهِ!..

(وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ) (يوسف:58).. هكذا إذاً .. فقد مكّنه الله، وجعله يعرف إخوته من غير أن يعرفو.. فهل كشف سرّه لهم وعرّفهم على نفسه؟!..

لا!.. لم يفعل.. فالصراع مازال قائماً.. ولا بدّ من الاستمرار في (الخطة الأمنية) التي تـُمكّنه من معرفة عدوّه، من غير أن يعرفَه عدوُّهُ، وبذلك يستطيع أن يتعامل معه، ويدير دفّة الصراع بحكمةٍ وحنكةٍ، ليؤول الأمر إليه في النهاية!..

فهل نتعلّم نحن أبناء الحركة الإسلامية من قصص أنبياء الله عليهم الصلاة والسلام؟!..

هاهو ذا يوسف عليه السلام قد استلم زمام المبادرة، لأنه عرف عدوّه، ولم يمكّنه من التعرّف عليه، ومن يملك زمام المبادرة.. يملك الفرصة الأعظم لتحقيق النصر!..

لقد بدأ عليه السلام بتنفيذ خطته، وذلك باستدراج إخوته لإحضار أخيه (بنيامين) معهم إليه، ثم واصل خطته بدهاءٍ لإبقاء أخيه عنده:

(وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) (يوسف:62).. ثم ماذا؟!.. (وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) (يوسف:69).. نعم لقد أسرّ عليه السلام إلى أخيه بهذا السرّ!.. فهو أخوه، وينبغي عليه أن لا يجزع فيتصرّف أي تصرفٍ يُفسد الخطة.. ولعلّنا نلاحظ أنّ السبب الذي دعاه إلى إخفاء سرّه عن إخوته، هو نفس السبب الذي دعاه إلى البوح بهذا السرّ إلى أخيه (بنيامين): إنها الرغبة في الاستمرار بامتلاك زمام المبادرة بخطةٍ (أمنيةٍ) مُحكَمَةٍ.. وتقتضي الخطة أن يُتهم الأخ (بنيامين) بتهمة السرقة، لكي يبقى مع أخيه، ويـُخطّط يوسف عليه السلام لتحقيق ذلك:

(فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ) (يوسف:70).. ثم يبدأ التنفيذ المحكم للخطة، فيبدأ التفتيش بأوعية الإخوة على الرغم من تيقّنه أن (السقاية) في وعاء أخيه الصغير، دَفعاً للتهمة وسَتراً لما دبّره من الحيلة لتحقيق هدفه: (فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ) (يوسف:76).. ولم يُستَفَزّ يوسف عليه السلام عندما سمع كلاماً من الإخوة يسيء إلى سمعته وشرفه، لأنّ أمام عينيه هدفاً لا بدّ من بلوغه، ولم يحن الوقت للكشف عن نفسه وسرّه، وهو إن فعل، فسيجهض خطته بيديه، ويحبط كل ما عمل وخطّط له:

(قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) (يوسف: من الآية 77).

لم يهزّه هذا الافتراء الظالم، ولم يخرجه عن طوره، ولم يفقده صوابه، فماذا فعل؟!..

(.. فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَاناً وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ) (يوسف: من الآية 77).. لكن عندما حان الوقت لكشف السرّ وتحقيق الهدف، لم يتردّد يوسف عليه السلام -بعد استنفاد كل أركان خطته- في الكشف عن نفسه وكشف سرّه، وقد كان هذا الكشف جزءاً من الخطة، وحلقةً مكمّلةً لها، لبلوغ الهدف:

(قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ) (يوسف:89).. عندئذٍ اكتشفوا السرّ:

(قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ) (يوسف:90).. وتحقّق الهدف بإذن الله وعونه وقدرته أولاً، وبالخطة (الأمنية) المحكمة التي وضعها يوسف عليه السلام، ثم نفذها بإحكامٍ ودهاء!..

وكان من ثمرات ذلك الدهاء الأمنيّ.. أن جمع الله الشمل، واجتمعت الأسرة من جديد، وتاب الإخوة -الأعداء- إلى الله عزّ وجلّ:

(فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ) (يوسف:99)

فيا ربّ .. اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتّبعون أحسنه.

اللهمّ آمين.. اللهم آمين.

وسوم: العدد 1007