المسلم المتحضر

الأصل ان الإنسان المسلم يمثل الإنسان المتحضر في أرقى حالاته .. اعتقادا ومعاملة وسلوكا وموقفا من الآخرين... وقد آسف أو تأسف أو نأسف أن الواقع لا يشهد معنا على ما ندعي. لندرك أن هناك خللا في واقعنا، وأن علينا أن نبحث عنه، لنعرفه ونتداركه..حتى نكون جميعا على أثر صاحب "الخلق العظيم"

وبالمقابل وهذا حق يجب أن نعترف به: هناك كثير من البشر /غير المسلمين/ متحضرون وأخلاقيون وكرام، إليهم تتطلع الأعين، ولهم تمد الأيدي بالبر والقسط..

كتب سيد قطب رحمه الله تعالى يوما كتابه "نحو مجتمع مسلم متحضر" . قال ثم تأملت، فوجدت أن وصف "متحضر" من اللغو، لأن الأصل في كل مجتمع مسلم أن يكون متحضرا.. فكان عنوان الكتاب "نحو مجتمع مسلم" فقط، وحذف الوصف الإضافي لأنه حسب تصوره للمجتمع المسلم، لا معنى له.

والتحضر هو نوع من الرقي الآخلاقي في النظرة إلى الناس احتراما وتقديرا، وفي التعامل معهم: قسطا وبر ا. والبر فوق القسط.

ودخل عدي بن حاتم الطائي على صاحب الخلق العظيم بيته، وهو على نصرانيته وصليبه يتدلى من عنقه؛ فآثره صاحب الحلق العظيم بوسادته وجلس سيدنا على الأرض!!

وكان صاحب الخلق العظيم "يصغي الإناء للهرة العطشى" أي يميله لتهنأ بالشرب منه.

وتمر الجنازة بصاحب الخلق العظيم فيقوم لها، يقولون : إنها ليهودي؛ فيجيب: أليست نفسا؟؟!!

ويرى صاحب الخلق العظيم "فاختة" "حمامة مطوقة" تعرش فوق رؤوس أصحابه، بعد أن اصطادوا فراخها- والصيد مباح - فيقول صلى الله عليه وسلم: من فجع هذه بصغارها ، ردوا عليها صغارها...

ويلحظ صاحب الخلق العظيم: جملا مهزولا محطوما، فبسمع شكواه، ويسأل عن صاحبه ويوصيه بجمله خيرا...

ويتابع صاحب الخلق الغظيم في عادات بعض الناس، أن بعضهم يتخير لمكان "قضاء حاجته أو التخلص من قاذوراته" طريق الناس، أو مكان الظل الذي إليه يفيئون ، وإليه يستريحون، وكأن أحدهم لا يعجبه أن يفعلها إلا في ظل الشجرة الباسقة الكبيرة حيث يرتاح الركب، ويأوي المتعبون من الحر.. فيقول "اتقوا اللعانين" أي احذروا الأمرين اللذين يجلبان لصاحبهما اللعن: التخلي "قضاء الحاجة" في "طريق الناس،" فكلما مر سالك فتأذى لعن، "وظلهم" فكلما آوى متعب إلى ظل فوجد الأذى لعن...

ويبرأ صاحب الخلق العظيم غضبا ممن قتل امرأة في حرب موضحا ومعللا "ما كانت هذه لتحارب" وهو أصل حضاري في الامتناع عن قتال غير المقاتلين، يؤكد على معنى (الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا)

وكان صاحب الخلق العظيم يعيش في مجتمع محدود الإمكانات، وكان يتأذى أن ينتشر في مجلسه أو في مسجده ما لا يستطاب من الريح، فشرع الغسل وسنه وحض عليه، وشرع السواك وحض عليه، ونهى عن أكل ما تكون له روائح منفرة...

يقف في الطريق للمرأة تأخذ بيده وتتحدث وتطيل، ويسمع شكوى أخرى إذ تجادله في زوجها ، يمسح رأس اليتيم، يلطف بأعرابي يبول في مسجده وينادي على أصحابه "لا ترزموه" ويشده دائن من ثوبه حتى يؤثر في عنقه الشريف، فيجد لصاحب الحق مقالا ويقول لصاحبه الأشد عمر : هلا أمرت بحسن الأداء، ويبلغه رثاء أخت لأخيها الذي كان قد استحق القتل، فيقول لو سمعت شعرها لتركته لها...

عاش في مجتمع أقرب للبدواة، وزين للناس الرفق فقال: إن الله رفيق يحب الرفق. ما كان الرفق في شيء إلا زانه ولم ينزع من شيء إلا شانه. وعلمهم أن ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب.

أي شيء حسن وجميل وقويم لم يكن لسيدنا صاحب الخلق العظيم...؟؟!!

وكل ذلك يجب أن يكون لنا ..لنا كلنا ، أعني أنا نحن وأنتم وأنتن وهم وهنّ

ووددت لو أن رجلا تتبع هذا في سيرة من كان خلقه القرآن.. والذي ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما ما لم يكن إثما.. والذي مكث ربع قرن يدعو الناس بالحكمة والموعظة الحسنة، ودعا على الذين آذوه فخانوه وغدروا بأصحابة يوم بئر معونة شهرا، فقط شهرا، ثم نزل عليه: (لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ)

هل نرانا مخاطبين بهذه الآية؟؟

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1014