خطة تركيع الأمة
محاولات كبح جماح الإسلام والتضييق عليه وحشره في الزاوية قديمة جدا لكن الخصوم انتقلوا إلى مستوى أعلى من الكيد تعود جذوره إلى حكم محمد علي في مصر لكن المنعطف الأخطر كان بلا ريب اتفاقيات سيكس – بيكو التي ضربت المسلمين في الصميم بإلغاء الخلافة وإقامة دول قومية قُطْرية علمانية تحمل في طياتها عوامل الضعف والتنازع حتى تنتقل الأمة التي كانت موحدة قوية مهابة الجانب إلى كيان بل كيانات واهية الصلة بدينها وتاريخها، تحتكم إلى رابطة الطين والعرْق ونحو ذلك بدل رابطة العقيدة والأخوة الإيمانية، وها هي حرب الإبادة على غزة تعطي أصدق – وأبشع – صورة عما آلت إليه الأمة، وتأكدنا أن معظم الجيوش العربية ليست موجودة لحماية الإسلام والأوطان بل لحماية العروش واستعباد الشعوب، ولو كانت مؤسسة على العقيدة لحسمت الحرب منذ زمن طويل بل لما تأسس الكيان الصهيوني في الشام أصلا، وما كان مسلم يتصور أن تتم إبادة أهل غزة بالقصف والتجويع أمام دول عربية لديها جيوش وبترول وثروات متنوعة، بل رأى الناس بعض الأنظمة تشارك مباشرة في حصار القطاع بالتضييق والتجويع... فلا بد من فهم خطة تركيع الأمة حتى تأمل في إفساد هذه الخطة واسترجاع المبادرة.
بعد الصحوة الإسلامية انتبهت مراكز الأبحاث والدراسات الاستراتيجية الغربية إلى خطورة المشروع الإسلامي على الفكر الغربي والنظم الغربية وعلى الكيان الصهيوني بالدرجة الأولى فعملت بالتنسيق مع الساسة على مواجهته على المستوييْن الديني والسياسي، فعلى المستوى الأول عملت بكل جدية على إنشاء ما تسميه "الإسلام المعتدل" كما وضع قسماته مركز رند الشهير، وهو إسلام بلا لون ولا طعم ولا رائحة، يُعنى بالتدين الفردي والشعائر التعبدية فحسب، وفي هذا الإطار تمّت محاصرة كل المفاهيم والمعاني ذات الصلة بوحدة الأمة وعزة المسلمين والتمكين لدين الله، على رأسها الجهاد الذي أطلقوا عليه اسم الإرهاب، ثم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي حلت محله في الدساتير والقوانين الحرية الشخصية، أي هو "إسلام أمريكاني" كما سماه سيد قطب في الخمسينيات من القرن العشرين، وفي هذا السياق تمّ تغيير المناهج الدراسية والخطاب الديني في البلاد العربية، ومحو كل آية وحديث وأثر يخالف "الإسلام المعتدل"، وأهيل التراب على رموز الإسلام الكبرى كالفاتحين وكبار المجاهدين، وما الحملة على عقبة بن نافع عنا ببعيدة، ليحلّ محلهم اللاعبون والمطربون و"المؤثرون" فتعمّ التفاهة وتغزو العقول والقلوب فلا تناجز الغرب بعد ذلك مهما حارب المسلمين وأذلهم ونهب ثرواتهم واعتدى على مقدساتهم، وفي السياق نفسه أسست الإمارات العبرية الديانة الإبراهيمية وكلفت "قامات" دينية للتبشير بها مثل عبد الله بن بية وعدنان إبراهيم.
أما على المستوى السياسي – وبعد أن نصب الغرب في معظم البلاد العربية والإسلامية أنظمة وحكاما يؤمنون بالعلمانية ويعادون النظام الإسلامي ويتفانون في خدمة الغرب وفكره - كانت أحداث الربيع العربي إيعازا آخر للغرب بمضاعفة الجهود لتنفيذ خطة تركيع المسلمين لأنه رأى أمارات الخطر في شكل انحياز الشعوب العربية للمشروع الإسلامي من المحيط إلى الخليج كلما أتيح لها الاختيار الحر، فكان انقلاب مصر وشيطنة النهضة في تونس وخلق القلاقل في ليبيا حتى لا تستقر، مع العلم أن الغرب كان حريصا على استمرار حكم الأسد في سورية باعتباره ضامنا لأمن الكيان الصهيوني كما أثبت الواقع منذ 1974، أي أن "الإسلام المعتدل" لا ينبت ولا ينمو ويستمر إلا في ظل الاستبداد السياسي والحكم الشمولي، فشاعت نماذج الديمقراطية الصورية التي تضمن بقاء الأقلية في السلطة واستبعاد الإسلاميين – وخاصة جماعة الإخوان – وأي معارضة حقيقية، فينتهي الأمر إلى أنظمة بين خائفة وخائنة تزايد في كثير من الأحيان على الغرب في قمع شعوبها، وأوضح مثال على ذلك حال مصر والأردن مع غزة حيث يُحكم النظامان الحصار على القطاع ويقفان بالمرصاد لأي تحرك يهدف إلى "إزعاج" الكيان الصهيوني بأي شكل، من التضامن مع غزة إلى التنديد بجرائم العدو.
لقد انتهت خطة تركيع الامة إلى إشاعة ثقافة دينية وسياسية تسوّق اليأس من أي عودة للأمة إلى دورة الحضارة مشفوعة بترسيخ مفهوم يحرص العدو عليه كثيرا هو تسويق أنه لا يُهزم أبدا، ومعلوم أن هناك ثلاث ممنوعات لا يتخلى عنها الغرب في علاقته بالمسلمين هي قيام وحدة إسلامية، وامتلاك المسلمين لقوة اقتصادية وعسكرية وتكنولوجية رادعة، وقيام نظام إسلامي حقيقي يحتكم إلى الشريعة.
هذا واقعنا كما خطط له أعداؤنا وانخرط في تجسيده كثير من بني جلدتنا لكنه ليس قدرا مقدورا بل هو مكر كبير جاء طوفان الأقصى ليفتح أعين المسلمين على حقيقته فيعملوا على إفساده والانعتاق منه، والطوفان إذًا عملية تحريرية للإنسان العربي والمسلم كي يقوم من وضع الركوع للغرب وينجز مستقبلا فيه التمكين لدين الله ولأمة محمد صلى الله عليه وسلم.
وسوم: العدد 1129