التراث الفلسطيني والتحدي الحضاري

بقلم الكاتب محسن الخزندار

رئيس جمعية دار التراث الفلسطيني

إن مهمة إعادة إحياء التراث الفلسطيني واجب وطني و أخلاقي على كل فرد في الشعب الفلسطيني يشعر بالانتماء الحقيقي لهذا الشعب الذي يحمل حضارة ضاربه في عمق التاريخ الإنساني.

جاءت هذه الحضارة من مزيج التفاعلات بين الحضارات القديمة في وادي النيل ووادي الرافدين وحضارة اليمن وحضارة شبه الجزيرة العربية مع حضارة السند وفارس والحضارة الإغريقية فهي ملتقى جميع الحضارات والديانات السماوية في العالم .

في العصر الحديث وجد الشعب الفلسطيني نفسه في العصر الحديث أمام تحدي حضاري ونكران للهوية العربية الفلسطينية .

أدت عهود الاحتلال المتعاقبة والحروب التي دارت على أرض فلسطين إلى ضياع جزء كبير من تراثه وسرقة وتدمير معالم كثيرة منها ،فالإهمال الذي عانى منه تراثنا بسبب ظروف منطقتنا السياسية منذ عصور خلت قد أدت إلى ضياع جزء كبير من تراثنا وأصبح تراثنا لوحة فسيفساء موزعة بين الدول في المنطقة وجاءت الهجمة الإسرائيلية على تراثنا وادعى أن الإسرائيليين هم أصحاب هذا التراث .

التعريف بالتراث والتاريخ الفلسطيني من أهم الأسلحة في مجال الثقافة العامة ،فإن الأغلبية الساحقة من الشعب الفلسطيني محرومة من الثقافة التاريخية الحقيقية حيث أن نظام التعليم والثقافة العامة لم يكن مسموحاً له نشر الوعي الثقافي والتاريخي الحقيقي .

إن فلسطين لا يمكن أن تنهض من كبوتها و احتلالها وهزيمتها أمام العدو الخارجي أو البطش الداخلي دون نهضة علمية فنيه مبنية على التاريخ والتراث بحيث يكون تاريخنا خادم للقيم الحقيقية في المجتمع ،فإن الفلسطينيين العرب هم من أصل سامي وإن كان معهم العبرانيون يشتركون في الأصل السامي فنحن أولى أن يتعلم العالم الحر بأن العداء لنا هو العداء للسامية وليس للعكس.

وأننا نريد أن نوجه نظرة علمية محايدة على تاريخنا وتراثنا دون تعصب لتراث وتاريخ أي شعب كما نريد أن نعرض تراثنا وآرائنا على نحو حقيقي وعادل؟

في البدايات الأولى لعمل منظمة التحرير الفلسطينية بدأ الاهتمام الحقيقي في جمع التراث والتاريخ الفلسطيني من تطريز أثواب وكنابات وأشعار وكتب لم يصل إلى الوطن إلاّ القليل النادر ،فقد دمرت إسرائيل مركز الأبحاث الفلسطيني في بيروت وسرقته وقضى الاهمال والضياع في المنافي على الجزء الأكبر من هذا المجهود .

إن العديد من المباني الأثرية الشاهدة على التاريخ الفلسطيني اندثرت وتلاشت عن الوجودد ونحن كشعب فلسطيني يبحث عن مستقبله لا بد لنا من إحياء تراثنا تأصيلاً لهويتنا وتأكيداً على ذاتية الحضارة العربية الضاربة بجذورها لآلاف السنين ،هذا التراث سوف يذهب ويزول إذا لم نحفظه بالاعتناء والترميم والتسجيل والتصوير ليكون نبراساً وشهادة كشهادة الطابو لأجيالنا القادمة وخاصة أننا لسنا كغيرنا من الأمم نحاصر ونهاجم لطمس ملامحنا وتمزيق هويتنا إما بأسلوب الإهمال الناجم عن تهميش القضية الأثرية والآثار لمعالمنا أو بالطرق الارتجالية غير المدروسة وذلك بترميمها وتجديدها بقصارتها غير المتجانسة مع بنيتها الأصلية أو بتبليط جدرانها بالقيشاني أو استبدال حجارتها الأصلية سواء منها الحجر الرملي أو الكلسي أو الرخامي أحياناً باستبدالها بالحجر الأسمنتي مما يهددها بالانهيار ....إلخ .فالترميم علم له قواعده وأصوله .

وأحياناً تتعرض آثارنا للغزو كما تعرضت في فترات استعمارية سابقة ومتلاحقة لسلب أصالتها وتجريدها من هويتها العربية والإسلامية ليقطعوا بذلك جذور الماضي عن الحاضر ربما تعللاً بالتحديث وكأن القديم وصمة يجب التخلص منه ،فمن لا يحترم تراثه لا ولن يتقن حديثه فالأمم المتحضرة والمتطورة اليوم تسعى جاهدة بشتى الطرق والوسائل للحفاظ على تراثها بأغلى ما لديها وبأسلوب التحديث هذا فقدت العديد من المساجد قبابها وأقواسها ومآذنها ذات النقوش البديعة حتى كاد العنصر العربي الإسلامي بفنونه الزخرفيه والعمرانية الآخذة يفقد رونقه ويطمس المنظر العام ،ولم يبق منها إلاّ القليل المنزوي وسط غابة التحديث.

مضافاً إلى كل هذا اندثار العديد منها بحكم العوامل الطبيعية خاصة هطول الأمطار الغزيرة لأيام متوالية أحياناً وتعرضها للزلازل أحياناً أخرى مما أدى إلى ترميمها أو بنائها مع بداية أعوام الانتداب البريطاني .

مضافاً إلى ذلك ما تعرضت له المدينة من دمار الحروب الصليبية الغاشمة 1099-1292 م عندما هدمت العديد من المساجد ومنها الجامع العمري الكبير لتبني فوقه كنيسة ودمرت ما حوله من مكتبات (مكتبة الظاهر بيبرس) وزوايا و بيرامستانات ،وكذلك أثر غزو نابليون بونابرت سنة 1799 م لفلسطين حيث حرق ودمر قلعة غزة والعديد من مساجدها وأهمها جامع قايتباي ومدرسة وجامع الجاولي .

وفي أواخر أيام الدولة العثمانية قام القائد التركي جمال باشا بفتح شارع وسط المدينة أطلق عليه شارع جمال باشا (شارع عمر المختار حالياً) دمر على أثره العديد من المباني الإسلامية الأثرية منها جزء كبير من مسجد ومقبرة الشيخ شعبان وخان المعرف ثم أجزاء من مسجد الوزير ثم شطر خان الزيت حيث هدمت بوابته .

وقامت الدولة العثمانية بهدم البيوت والقصور الأثرية في مدينة غزة بعد أن هجرها سكان المدينة قبل الحرب العالمية الأولى وقاموا بهدم الخرب والقصور القديمة في فلسطين واستعملوا حجارتها في رصف الطرق وبناء ثكنات لخدمة العسكرية التركية ،وقد نشبت الحرب العالمية الأولى فقامت قوات الحلفاء بدك المدينة بأسلوب بربري عشوائي دمرت على أثره معظم المباني الأثرية منها على سبيل المثال الجامع العمري الكبير في قلب المدينة وأجزاء كبيرة من سوقها المتمثل في القيسارية وأجزاء خان الزيت وجامع السيد هاشم وجامع القلعة (إدارة الأوقاف حالياً) وجامع الشمعة .

وبعد أن دانت البلاد للعهد البريطاني الاستعماري تحت عنوان الانتداب تم هدم العديد مما تبقى من المساجد بحجة شق الطرق وتوسيعها ومنها (جامع الشيخ علي الأندلسي) لشق شارع فهمي بك وحمام المباشر بحيث لم يعد لهما أثر .

بدأت الحياة الاقتصادية في التدهور والتردي طوال فترة الانتداب سنة 1917-1948 والظلم السياسي الممهد لقيام الكيان الصهيوني سنة 1948 ساد البلاد خلالها الاهمال لجميع مرافق ومجالات الحياة خاصة مرافقها العامة ومؤسساتها الدينية والمساجد منها والزوايا والتكايا والأسبلة والخانات والقصور وحتى المقابر وقد تداعت جميعها للانهيار والاندثار وتحولت إلى أماكن خربة حتى انتشرت هذه التسمية داخل المدينة (الخربة أو الخرابة) في العديد من شوارعها وأحيائها وتحول بعضها إلى دكاكين كما استولى العديد من الناس على تلك الأراضي الموقوفة لخدمة تلك المؤسسات فاستغلوها لصالحهم نتيجة الاهتراء الاداري فلا غرابة أن تجد من المنازل المأهولة بالسكان وقد شيدت فوق مسجد أو زاوية .

إن مدينة غزة نكبت منذ بداية الاحتلال الانجليزي بهدمها وقيام المستشرقون ولصوص الآثار بسرقة ونقل القطع الأثرية والمخطوطات إلى المتاحف الانجليزية ولم تقدم الحكومة الانجليزية أي مساعدة للحفاظ على قيم وحضارة الشعب الفلسطيني ،بل كانت لها اليد الطولى في هدم وإزالة وطمس التاريخ الفلسطيني وإطلاق العنان للصهاينة لتزييف التاريخ.

في الفترة الواقعة بين 1948-1967 م والتي أشرفت حكومة مصر على إدارة ما سمي (قطاع غزة) فإنها وعلى الرغمن من أنها دولة الآثار إلاّ أنها لم تعر هذه الآثار الاسلامية المتبقية أي قدر من الاهتمام لا بالكشف عنها ولا بترميمها أو حتى محاولة الحفاظ على أجزاء من أطلالها وذلك بإقامة متحف خاص بالمدينة يحفظها ويصونها .

وبعدها ومع بداية الستينات قامت الادارة المصرية بشق شارع موازٍ من جهة الشمال لشارع عمر المختار (شارع الوحدة) هدمت على أثره جزء من آثار المدينة الهامة والجميلة ومنها (سوباط المفتي) ذلك الشارع المقبي وأزيل معه مسجد الشيخ فرج ومقامه كما قررت الادارة المصرية حل الأوقاف حيث باع على العديد من الورثة أجمل آثار المدينة الاسلامية المتمثلة في البيمارستان المنصوري قديماً ثم (خان الزيت) فيما بعد والكائن بقلب المدينة فهدموه وحولوه إلى عمارة سكنية وبقى الحال على ذلك حتى العام 1967 م حيث سيطر الاحتلال الاسرائيلي العسكري على المدينة وقطاعها فزاد الاهمال واستشرى التعدي على الأراضي والأملاك الوقفية .

الواجب الوطني والأخلاقي للحفاظ على تراث الشعب الفلسطيني :

1- وضع برنامج وطني لمسح أرض فلسطين على مستوى عالمي لمعرفة ما تخبئ في باطنها من كنوز وآثار .

2-تفعيل دور المكتبات الوطنية على أن تعمل على إعادة طبع كل التراث الفلسطيني من بدايات القرن التاسع عشر وفي عهد الانتداب وضع الكُتاب الفلسطينيين من الرواد على المستوى القومي والعالمي .

3- إحياء الشعر والكلمة والقصيدة والأغنية والمسرحية والفيلم والمثل الفلسطيني القديم .

4- وضع منهاج إجباري تعليمي يدرس فيه التراث الفلسطيني من المراحل الأولى في التعليم حتى الجامعات

5- توثيق الآثار التي سرقتها إسرائيل عبر منظمة اليونسكو لأنها تعتبر تراث عالمي حتى يتم إقرار ذلك رسمياً والعمل على إعادة هذا التراث المسلوب للشعب الفلسطيني .

6-المطالبة القانونية بعد التوثيق بعودة الآثار عبر المحاكم العالمية والهيئات المختصة في جميع المناطق العالمية .

7-تأهيل باحثين أكفاء في مجال التاريخ والآثار لأن هناك نقص كبير في المختصين في هذا المجال .

8-الاهتمام بالآثار والتنقيب عليها لا بقصد جذب السياح بل لتكون دليلاً مادياً على السرد التاريخي الفلسطيني الذي يعكس أصالة هذا التاريخ .

9-المحافظة على الأدوات المستخدمة في الحياة اليومية عبر العصور المختلفة مثل الفخاريات والتوابيت والقطع النقدية والمنقوشات الجدارية والمخطوطات والمقابر ووضع رقابة وحراسة عليها لتكون آمنة عن يد السرقة والعبث .

10-تبني مشروع قرار لجنة التراث العالمي بمنطقة اليونسكو بإدانة إسرائيل لعرقلة عمل لجنة تقص الحقائق لدراسة الوضع من المواقع الأثرية والتاريخية بالأراضي الفلسطينية .

إن المستهدف الحقيقي هو الشعب العربي الفلسطيني وحده الذي تعرض لطمس وكبت وعيه من قبل أعداء يتربصون به ليلاً ونهاراً ويتربصون حركته للاستيلاء على تراث الشعب الفلسطيني كما استولوا على الأرض والماء والسماء وعلى جهد الانسان الفلسطيني وعرقه وفكره وتاريخه وتراثه وذلك مرة بتشويه هذا التاريخ ومرة بتخريب وتزوير آثاره وبذلك يكون العدو الإسرائيلي قد صادر جغرافيا وتاريخ الشعب الفلسطيني وحط انجازاته عبر التاريخ على الأرض وقضى على رموزه التاريخية الفاعلة من البشر .

كان تزوير تاريخ فلسطين القديم بدايةً من العصر الفارسي الذي ساد فلسطين واستكمل في العصر الهلنستي، عندما أراد اليهود أن يكتبوا تاريخاً لهم فنسجوا الحكايات الأسطورية عن ماض لهم مزعوم، وعلى امتداد قرون عديدة ظلت الأخيولة التوراتية هي المصدر الذي يكاد يكون وحيداً للكتابة عن تاريخ فلسطين القديم أما في العصر الحديث ومع نشوء علم الآثار وارتقاء سلطته المرجعية للتعرف على التاريخ القديم، فقد بذلت جهود محمومة للعثور على أي أثر مادي في فلسطين يثبت صدق المرويات التوراتية ويمنحها الشرعية التاريخية و لقد ثبت حديثاً أن التوراة ما هي إلاّ سجل لتزييف تاريخ فلسطين القديم ومصادرته

إن الهدف من هذه الدراسة إبراز الرموز العربية التاريخية الفلسطينية لإعادة إكتشاف وإرساء مبدأ التحليل العلمي التاريخي لأن كل جيل عليه أن يكتشف بنفسه ولنفسه كل ما حدث في الماضي وحاضره ومستقبله يكمن في ماضيه ويولد من رحم تاريخه لذا لزاماً أن نسلط الضوء ونكتشف ونحدد موقعنا ودورنا .

إننا شعب دمرت الحروب المتتالية قدراته وحطمت رموزه وما زالت محاولات تشويه ملامح الشعب الفلسطيني السياسية وخنق قدراته ومقدراته الاقتصادية وكل ما يمكن أن يقيم له كيان مستقل بذاته لذا يجب علينا أن نتبع منهاج تاريخي للتسلسل والتطور التاريخي للشعب الفلسطيني بما يملك من إرث حضاري ذا طابع ثقافي متميز وذو طبقات ثقافية سميكة تراكمت فوق بعضها البعض عبر التاريخ تأثرت وأثّرت خلالها وتفاعلت مع حضارات عريقة سومرية كلدانية آشورية فرعونية كما استقبلت هذه الأرض الحضارة الرومانية واليونانية والبيزنطية والفارسية الغازية وانصهرت مع هذه الحضارات على أرض فلسطين.

وسط هذا الصرح الحضاري تقع فلسطين كجسر يربط الحضارات الغنية بتراثها الروحي والمادي والتي استوعبها الشعب الفلسطيني العربي الكنعاني اليابوسي فأخذ منها وأعطاها ،فهذا الشعب هو أول الموحدين على الأرض فقد تلقى رسالة سيدنا إبراهيم في القرن التاسع عشر ق.م. واحتضنها وأصبح سيدنا إبراهيم جزء من هذا الشعب وهذه الأرض هي أرض المسيح ومنها انطلقت تعاليمه السامية

وأرض فلسطين هي أرض القرآن فقد أشار إليها القرآن بذكر رحلة الشتاء والصيف وأقسم بها رب العباد (بالتين والزيتون وطور سينين وهذا البلد الأمين) .

إن أرض فلسطين كانت من أهم ميادين التجارة منذ الأزل فقد مات بها سيدنا هاشم وزارها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم للتجارة وهي بعز الاسلام نعمت بمجرد انتشاره

فهي أولى القبلتين وفيها ثالث الحرمين الشريفين ،القدس أرض الاسراء والمعراج حيث يوجد فيها المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله .

إن حضارة الشعب الفلسطيني هي حضارة متوغلة منذ فجر التاريخ مهما اندثرت بصمات هذه الحضارة خالدة وملامحها متمثلة في ملامح الشعب الفلسطيني العربي وفي نشاطه المادي والروحي وشخصيته المتجددة .

إن سجل عبقرية هذه الأمة صاحبة هذا التاريخ الطويل متمثلة بالتاريخ والتراث والثقافة هي القوة الدافعة لإعطاء الشعب الفلسطيني الشعور بالخلود والديمومة والطموح ،فهذه الأرض شاهدة على انتصار وسحق وصعود وهبوط إمبراطوريات عظيمة عبر التاريخ فقدر هذه الأرض وهذا الشعب أن تكون هذه المنطقة منطقة تلاقي بين الأمم في الحرب والسلم .

إن الموقع الجغرافي الطبيعي والمناخي بين الصحراء وجو البحر المتوسط وبين السهل والجبل هذا التزاحم المتباين أدى إلى بلورة الشخصية العربية الفلسطينية الكنعانية التي تفاعلت بروح وفكر إيجابي وإدراك واعي مسئول فأضفت على نفسية هذا الإنسان الفلسطيني صفة التأمل المشحون بالقلق والمتحفز للعمل بعزيمة وإصرار وقدرة على الخلق والإبداع فأرض فلسطين وسمائها مصدر الإلهام الفكري والروحي فهي بوابة التوحيد لأفريقيا دين إبراهيم الحنيف والمسيحية والإسلام،كل هذا كان الدور الحازم في تشكيل التراث الشعبي والتاريخ الفني للشعب العربي الفلسطيني .

إن تراثنا الفلسطيني متأثر بتباين تضاريسه البحرية والجبلية والساحلية والسهلية والصحراوية ،فالتراث الفلسطيني البدوي والبحري والجبلي والزراعي غني بعاداته وتقاليده وأغانيه وأهازيجه ومواويله وأطعمته وألبسته وألفاظه وأدواته المستعملة في كل حرفة فقد عمَّر الشعب الفلسطيني الأرض وزرعها وركب البحر وسيطر على أمواجه ونقل تجارته وعلومه إلى أوروبا وأفريقيا ويظهر الأثر واضح في التراث الفلسطيني المتأثر بانصهار الشعب الفلسطيني اليبوسي والكنعاني مع الأرض منذ فجر التاريخ ،ولم تثبت الحفريات الحق التاريخي إسرائيل في فلسطين ،فليس لها صلة باليهود فقد وجدت آثار يبوسية وكنعانية ورومانية وفرعونية وبيزنطية ونبطية وأشورية وإغريقية وفارسية وأموية وعباسية ،ففلسطين فخر لكل الحضارات والديانات .

فنحن كفلسطينيين لا ننكر أن اليهود عبروا المكان واستقروا فترة لا تذكر في التاريخ الفلسطيني العريق بل هي لمحة لا أكثر إذا قيست باستقرار الشعوب والحضارات فيها .

إن الحكومة الإسرائيلية تتحمل مسئولية الأضرار التي لحقت بالمواقع الأثرية والمباني التاريخية في الأراضي الفلسطينية فقد قامت قوات الاحتلال بهدم وتدمير المواقع الأثرية والمباني التاريخية التي تعود لفترات تاريخية مختلفة تمتد من أقدم العصور التاريخية حتى العصر العثماني .

إن التخريب المتعمد وتزوير حقائق التاريخ وسرقة التراث الإنساني الذي تركته الأجيال المتعاقبة التي عمرت هذه الأراضي قبل التاريخ بآلاف السنين هي جريمة بحق الانسانية تمارسها إسرائيل بمنهجية وتخطيط.

إن المنظمات الحقوقية والإنسانية المعنية بالتراث الإنساني مطلوب منها ليس إدانة هذه الممارسات بل التحرك السريع لحماية هذا الإرث الإنساني الحضاري ،إن هدف إسرائيل الرئيسي هو إعادة رسم الحدث التاريخي بإعادة السياسة وفق تصورها الخاص فهي لم تسقط من حسابها الجدوى الاقتصادية للسياسة الدينية والتاريخية وما يمكن أن تجني من عائد مادي ولكن الأخطر من ذلك أن إسرائيل تبحث في هذه المنطقة عن أثر موطئ قدم بأن تنقيب حقبات التاريخ ومفاصله عن رموز توراتية تتطابق مع المعتقدات اليهودية تحررها من عقد التاريخ والجغرافيا لأن الدلائل والحقائق على وجود اليهود نادر وشبه معدم فهي تريد إيجاد إسرائيل توراتية لذلك تقوم بنقل القطع الأثرية من الحقبات التاريخية إلى متاحفها بطريقة شرعية وهي تعمل جاهدة على تزوير التاريخ والمستقبل معاً

إن هذا الموضوع الحيوي المتعلق بالهوية والجذور لا يقل أهمية عن موضوعات الأراضي والسيادة ،إن عملية التفاوض بين الفلسطينيين والإسرائيليين لإعادة الكنوز الأثرية الفلسطينية إلى الشعب الفلسطيني هي مشروعة ومسبوقة بتجارب مماثلة حصلت في دول أخرى من العالم بعد انتهاء الحروب لا سيما مصر بحيث استعادت سيناء بعد الانسحاب الإسرائيلي من القسم الأكبر من القطع الأثرية التي سرقها الإسرائيليون .

إن إسرائيل تعرض في متاحفها لافتة تحت عنوان ((إسرائيل عبر العصور)) ظننا منها أن احتلال التاريخ يصبح حقيقة ،فلم تترك إسرائيل شيئاً إلاّ وأدخلت عليه التزوير والتحريف ،فالمعطى الجغرافي الأول الذي قامت عليه إسرائيل أنها ادعت إن فلسطين أرض بلا شعب إلى تزوير التاريخ والعقائد والثقافات ومصادرتها فلم تترك إسرائيل عنصر ثقافي في الشرق إلاّ ونسبته إلى نفسها .

إن خط إسرائيل الواضح هو التحريف والتزوير والتزييف التاريخي فقد قام موشيه ديان ووزير الدفاع الإسرائيلي بسرقة آثار دير البلح وتل الزعرب وتل العجول في الشيخ عجلين وغزة وسرقة آثار تل بطشان على شاطئ غزة .

من المعروف أن القدس مأهولة منذ 12 ألف عام منذ العصر الحجري وكان بها سكان لهم حضارتهم وقد عرفوا نظام الاستقرار والتبادل التجاري منذ القدم واستعملوا قطع الصوان بدل النقود .

بعد حرب عام 1967قامت إسرائيل بهدم حي المغاربة وحي الشرف الملاصق لحائط البراق الذي يرجع لعهد الملك الأفضل نور الدين علي بن صلاح الدين وأجزاء كبيرة من القدس القديمة.

وقامت إسرائيل بشق الأنفاق والطرق تحت ساحة الأقصى بدعوى البحث عن الهيكل المزعوم مما تسبب في تصدع أجزاء من حوائط الحرم القدسي.

كما تم إحراق أجزاء من المسجد الأقصى.

كما أحرقت أربعة مراكز مسيحية أثرية في القدس.

وكذلك قامت بسرقة تاج السيدة العذراء من كنيسة القيامة. وحولت إسرائيل المتحف الفلسطيني إلى مقر لدائرة الآثار الإسرائيلية ونهب ما به من آثار والقضاء على أي أثر كنعاني فلسطيني.

قامت القوات الإسرائيلية بتدمير آثار الاستراحة وهي كنيسة تاريخية ترجع إلى القرن الخامس الميلادي على الطريق الموصل بين القدس وبيت لحم حيث قامت القوات الإسرائيلية بتدمير جزء من الآثار وسرقة الجزء الآخر وقامت قوات الاحتلال الإسرائيلي بإقامة مستعمرة على هذه المنطقة مما هدد المعالم الأثرية في هذا المكان.

كما قامت القوات الإسرائيلية بنسف احد الأبواب الجانبية لكنيسة المهد في بيت لحم وتفتييت الموازييك الخاص بكنيسة المهد.

كما قامت القوات الإسرائيلية بهدم العديد من المباني التاريخية في مدينة نابلس (جامع الخضر والجامع الكبير والكنيسة الأرثوذوكسية في حي الياسمين بالإضافة إلى ستين بيتاَ أثرياً لمراحل تاريخية مختلفة).

وقامت إسرائيل بسرقة الأثواب الفلسطينية سواء كانت فلاحي أو بدوي وادعاء أنها ملابس عبرية.

وسرقة المأكولات الفلسطينية وادعاء أنها مأكولات عبرية.

وسرقة الأمثال والقصص الفلسطينية وادعاء أنها عبرية.

تأثير التراث في صنع السلام:

إن ثقافة التراث غير منفصلة عن السياسة أو الدين أو الحرب فالعقل هو الذي يمسك بالسيف أو البندقية أو غصن الزيتون أو القلم ، فالتراث الفلسطيني تراث سلام ومحبة وتغريد ملائكة والفلسطينيون سكان البلاد العرب الكنعانيون يعتدى عليهم وإن كانوا أهل ثقافة سلام فالاعتداء عليهم يخلق المقاومة وروح المقاومة فالمقاومة حق مشروع وليس اعتداء على حقوق الآخرين فلم يرد أبداً في أدبيات الشعب الفلسطيني أنهم تغنوا بالدم والقتل واضطهاد الآخرين.

أسباب ضعف الثقافة التراثية لدى أبناء الشعب الفلسطيني:

عدم اهتمام المؤسسات الرسمية بإحياء التراث بطريقة صحيحة.

تضارب وتعارض العمل بين الوزارات والهيئات المختلفة لجمع التراث وهذا يخلق حالة من الفوضى والتكرار.

عدم قيام دور القطاع الخاص كالشركات والشخصيات العامة بإحياء التراث والاستفادة منه كمورد وطني لأن التراث يمكن استخدامه كمورد اقتصادي فالآثار تصبح مزارات ومتاحف ومعالم لإحياء السياحة الفلسطينية كما يمكن عمل مشاريع كإقامة قرية كنعانية تجسد التطور الروحي والفكري للشعب الفلسطيني.

إعادة إحياء الحرف اليدوية التراثية كمصدر دخل ومصدر إنتاج وتشغيل للأيدي العاملة مثل صناعة القش والخيزران وسعف النخيل والنحاس والزجاج والصابون والصناعات النحت على الخشب والفخار والصوف والبسط والتطريز والخياطة.

               

مصادر البحث :

-عثمان الطباع :"اتحاف الأعزة في تاريخ غزة" ،مكتبة اليازجي 1999

-الموسوعة الفلسطينية :المجلد الثاني –الطبعة الأولى –دمشق 1984

-الموسوعة الفلسطينية : القسم العام ، المجلد الثاني ،الطبعة الأولى 1986 .

-مصطفى مراد الدباغ ،"موسوعة بلادنا فلسطين " ،دار الهدى للطباعة والنشر 2002

-سليم المبيض :" البنايات الأثرية الإسلامية في غزة وقطاعها"، الهيئة المصرية العامة للكتاب

-سليم المبيض :" غزة وقطاعها دراسة في خلود المكان وحضارة السكان من العصر الحجري حتى الحرب العالمية الأولى ،الهيئة العامة للكتاب ،مصر 1987 .