صِدق.. و.. كَذب

عن أدب الدين والدنيا للماوردي

كلمتان تدلان على حالين متباعدتين إحداهما عن الأخرى بُعد السماء عن الأرض، فقد قال النبي صلى اله عليه وسلم لحفيده الحسن بن علي رضي الله عنهما:

"دع ما يريبك إلى مالا يريبك، فإن الكذب ريبة، والصدق طمأنينة"

قال تعالى:

(يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين).

 ومدح إبراهيم وإدريس عليهما السلام بكثرة صدقهما فقال:

(واذكر في الكتاب إبراهيم أنه كلن صديقاً نبياً).

(واذكر في الكتاب إدريس أنه كان صديقاً نبياً، ورفعناه مكاناً عليا).

وقال تعالى في ذم الكذب:

(ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين) آل عمران (16).

فقال: (والخامسة أنّ لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين) النور (7).

ومن الذي يكذب؟

(إنما يفتري الكذب لا يؤمنون بآيات الله) النحل (105).

وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى:

(ولا تلبسوا الحق بالباطل).

لا تخلطوا الصدق بالكذب.

وقال أحد الحكماء: الكذّاب لص، لأنه يسرق عقلك.

وقال أحدهم: صدق اللسان أول السعادة، والخرس خير من الكذب.

ومدح أحدهم الصدق فقال: لا سيف كالحق، ولا عون كالصدق.

وذم أحد الشعراء الكذب فقال:

ومـا شـيءٌ إذا فكّرتَ فيه    بأذهبَ  للمروءة والجمال

من الكذب الذي  لا خير فيه    وأبعدَ بالبهاء من الرجال

وقال بليغ متمكّن: الصادق مصون جليل، والكاذب مَهين ذليل.

وقال صلى الله عليه وسلم موضحاً الصدق ومآله، والكذب ومهلكه:

أ – إن الصدق يهدي إلى البر

ب – وإن البر يهدي إلى الجنة

ج – وإن الرجل ليصدق حتى يكتب عند الله صديقاً.

أ – وإن الكذب يهدي إلى الفجور

ب – وإن الفجور يهدي إلى النار

ج – وإن الرجل ليكذب حتى يُكتب عند الله كذابا".

والصدق جماع كل خير وأصل كل فضيلة، فمنه ينتج الحب والمودة والثقة والصواب، وراحة البال والأمن.

والكذب جماع كل شر وأصل كل ذم لسوء عواقبه، وخبث نتائجه، فعنه تصدر النميمة التي هي أصل البغضاء، والبغضاء تؤول إلى العداوة، وليس مع العداوة أمن ولا راحة، ولذلك قيل: من قلَّ صدقه قلَّ صديقه.

وللصدق أسباب ودواع منها:

1 – العقل: الذي يرى الكذب قبحاً ينبغي تجنبه، فهو لا يجلب نفعاً، ولا يدفع ضراً، والعقل يدعو إلى فعل ما كان مستحسناً، ويمنع من إتيان ما كان مستقبحاً، وليست مبالغات الشعراء المؤدية إلى الكذب الصراح استحساناً للكذب إلا أنها معبرة عن لطيفة، كقول المتنبي:

كفى بجسمي نحولاً أنني رجل    لولا مخاطبتي إياك لم ترني

ولي مع الكذب والصدق في الشعر مواقف نذكرها لاحقاً إن شاء الله تعالى.

2 – الدين: الذي أمر بالصدق، وحظر الكذب، وإن جرَّ الكذب نفعاً أو دفع ضراً، فحبل الكذب قصير والصدق أولى أن يتبع، ولئن كان الكذب ينجي أحياناً، للصْدقُ أنجى وأبقى. والحياة في الدين والشرع ينبغي أن تقوم على الصدق، والصدق وحده.

3 – المروءة: شِمال من أعظم الشمائل(1) تمنع صاحبها من الكذب وتبعثه على الصدق، وتنهاه عن الدنيّة والأعمال القبيحة، وتهيب به أن يفعل ما يكسبه الذكر الحسن.

قال عبد يغوث:

ألـم تعلما أن الملامة نفـعها    قليل، وما لومي أخي من شماليا

وقال عمرو بن الشريد أخو الخنساء:

أبى الشتمَ أني قد أصابوا كريمتي   وأنْ ليس إهداءُ الخنى من شماليا

4 – حب الاشتهار بالصدق حتى لا يُرَدَّ عليه القول، ولا يلحقه ندم، وقد قال أحد الحكماء:

ليكن مرجعك إلى الحق، ومنزعك إلى الصدق، فالحق أقوى معين، والصدق أفضل قرين.

وقال بليغ: لا تقل ما تندم عليه، فإنه مثلبة.

وقال أحد الشعراء فأحسن:

عودّ لسانك قـول الصدق تحظَ به     إن اللـسان لمـا عـوّدتَ معتـادُ

مـوكـل بتقـاضي ما سننت لـه    في الخير والشر، فانظر كيف ترتاد

وقال أحدهم:

فالصدق في أقوالنا أقوى لنا    والكذبُ في أفعالنا أفعى لنا

وللكذب أسباب ودواعٍ منها:

1 – اجتلاب النفع واستدفاع الضر: فيرى الكذب أسلم وأغنم، فيرخّص لنفسه فيه اغتراراً بالخدع، وتعلّقاً بالطمع.

ويعتاد الكاذب أن يكذب على الرغم من بُعد أمله لخوف يملأ نفسه الضعيفة، ولكن هذا قبيح، والقبيح لا يكون حسناً والشر لا يصير خيراً، وليس يُجنى من الشوك العنب، ولا من الحنظل الرُّطب. وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال:

"تحرّوا الصدق، وإن رأيتم أن فيه التهلكة، فإن فيه النجاة، وتجنبوا الكذب، وإن رأيتم أنّ فيه النجاة، فإن فيه التهلكة".

وما أبلغ قول الفاروق رضي الله عنه إذ قال:

لأن يضعني(2) الصدق، وقلّما وضع، أحبُّ إليّ من أن يرفعني الكذب، وقلّما يفعل.

وقال حكيم: الصدق منجيك وإن خفته، والكذب مرديك وإن أمنته.

وقال الجاحظ: الصدق والوفاء توأمان، والصبر والحلم توأمان، فيهن تمام كل دين، وصلاح طل دنيا، وأضادهن سبب كل فُرقة، وأصل كل فساد.

2 – أن يؤثر أن يكون حديثه مستعذباً، وكلامه مستظرفاً، فلا يجد صدقاً يعذب، ولا حديثاً يستظرف، فيستحلي الكذب الذي ليست غرائبه معوزة، ولا ظرائفه معجزة، وهذا أسوأ حالاً من الأول، لأنه يصدر عن مهانة النفس ودناءة الهمّة، وقد قال الجاحظ:

"لم يكذب أحد قط إلا لصغر قدر نفسه عنده".

وقال ابن المقفع:

"لا تتهاون بإرسال الكذبة من الهزل، فإنها تسرع إلى إبطال الحق".

ولا يدخل ما قاله النقاد في الشعر: أعذب الشعر أكذبه. لكنّ الأصل في ذلك البيت المشهور:

وإن أعذب بيتٍ أنت قائله    بيتٌ يُقال إذا أنشدتَه صدقاً

3 – أن يقصد بالكذب التشفّي من عدوّه، فيسمه بقبائح يخترعها عليه، ويصفه بفضائح ينسبها إليه، ويرى أن معرّة الكذب غنم، وأن إرسالها في العدو سهم وسمّ، وهذا أسوأ حالاً من النوعين الأولين لأنه جمع بين الكذب والمعرّ، والشرّ المضر، وعلى هذا ورد الشرع بردّ شهادة العدو على عدوّه.

قال أحدهم: إن شمائلي لتمنعني أن أقول في عدوّي ما ليس فيه.

قال الشاعر في هذا:

وأحـبُّ كـلّ مهذب ولـو انه    خصمي وأرحم كل غير مهذّب

يأبى فؤادي أن يميل إلى الأذى    حـبُّ الأذيّة من طباع العقرب

4 – أن يكون الكذب سجيّة من سجاياه، حين تترادف عليه دواعي الكذب، فيألفها ويدمنها، وينقاد إليها، ولو رام مجانبة الكذب، عَسر عليه، فصارت العادة طبعاً فيه.

وقد قيل لكذوب: ألا تصدق؟

قال: إذاً أنا ذو وجهين.

وقالت الحكماء: من استحلى الكذب عَسُرَ فطامه.

وقالوا: لا يلزم الكذاب شيء إلا غلب عليه.

إمارات الكذّاب:

وقد تعرف الكذّاب بصفته هذه قبل أن تخبره لما يظهر عليه من أمور تدمغه بالكذب ابتداءً منها:

أ – أن نور الإيمان بعيد عن وجهه، وسيماء المذلة متمكنة فيه.

ب – أنك إذا لقنته أمراً وطلبت إليه أن يعيده عليك، لم يجد حرجاً في أن يزيد، ويختلق.

ج – وأنك إذا رددت عليه قوله، حصر وارتبك وغابت عنه نصرة المحتجين وبرهان الصادقين.

د – أنه سريع التشكك إذا شككته بما حدّثك، وقد قال علي رضي الله عنه:

"الكذّاب كالسّراب".

هـ – وقالت الحكماء في ريبة الكذابين وضعف موقفهم: العينان أنمُّ من اللسان.

وقال بعض الأدباء: الوجوه مرايا تريك أسرار البرايا.

وقال الشاعر يوضح ذلك:

تريك أعينهم ما في صدورهم    إن العيون يؤدي سرّها النظر

وإذا اتسم أحدهم بالكذب وعرف فيه، نسبن إليه شوارد الكذب المجهولة، وأضيفت إلى أكاذيبه زيادات مفتعلة حتى يصير الكاذب مكذوباً عليه، وهذا من مساخير القدر، فيجمع بين إثم الكذب ومضرة الكذب عليه. وقال الشاعر:

حَسْبُ الكذوب من البليّة     بعضُ ما يُحكى عليه

فـإذا سمـعتَ  بـكذبه     من غيره نُسبت إليه

ثم إنه إن تحرّى الصدق اتهم، وإن جانب الكذب كذّب حتى لا يصدّقه أحد وإن صدق، ولا يستنكر سامعوه كذبه لما اعتادوه عليه.

كذب مرخّص فيه:

وقد وردت السنة بإرخاص الكذب في:

أ – الحرب: فالقيادة تنشر بعض المعلومات الكاذبة تضلل بها العدو، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم "الحرب خدعة".

ب – إصلاح ذات البين على وجه التورية والتأويل دون التصريح به. فإن السنة لا ترد بإباحة الكذب لما فيه من التنفير إنما عن طريق التلميح والتعريض، وقد قال صلى الله عليه وسلم:

"وإنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب".

وعلى هذا فقد سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعرّفه بنفسه وأبي بكر قبيل غزوة بدر، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم:

"نحن من ماء".

فظن السائل أنه عنى قبيلة فقال: من ماء؟ أية ماء؟

وأراد النبي صلى الله عليه وسلم: الماء الذي يُخلق منه الإنسان، فصدق وأخفى الحقيقة.

وكان أبو بكر يمشي خلف النبي صلى الله عليه وسلم في هجرتهما من مكة إلى المدينة، فتلقاه العرب وهم يعرفونه ولا يعرفون رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا:

- يا أبا بكر من هذا؟

فقال: هادٍ يهديني السبيل.

فظنوا أنه يعني هداية الطريق، وهو يريد هداية سبيل الخير والإسلام، فصدق في قوله، وورّى عن مراده.

وقال الفاروق عمر رضي الله عنه:

"إن في المعاريض ما يكفي أن يعفّ الرجل عن الكذب"

وقال بعض أهل التأويل في قوله تعالى: (ولا تؤاخذني بما نسيت) أنه لم ينس، ولكنه من معاريض الكلام.

وقال ابن سيرين: الكلام أوسع من أن يُصرّح فيه بالكذب.

بعض الصدق المضر:

لا نعجب من هذا العنوان، فبعض الصدق يقوم مقام الكذب في القبح والسوء، ويزيد عليه في الأذى والمضرّة، وهو:

1 – الغيبة: فإنها خيانة، وهناك ستر، يحدثان عن حسد وغدر، وضعف في الدين، قال تعالى:

(ولا يغتب بعضكم بعضاً، أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتاً فكرهتموه).

وروي أن امرأتين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم صامتا، وجعلتا تغتابان الناس، فأخبر الرسول (صلى الله عليه وسلم) بذلك فقال:

"صامتا على ما أُحلّ لهما، وأفطرتا على ما حُرّم عليهما".

وقال صلى الله عليه وسلم:

"من ذبَّ عن لحم أخيه بظهر الغيب، كان حقاً على الله عز وجل أن يحرّم لحمه على النار".

وقال عدي بن حاتم:

الغيبة رعي اللئام.

وكان الحسن البصري رحمه الله يقول:

"الغيبة فاكهة النساء، ولو أنه، رحمه الله، رآنا الآن لقال: إن الرجال والنساء في الغيبة سواء.

والحياة دَين ووفاء، فمن اغتبته له حرمة ولعلّ أحداً يغتابك.

قال الشاعر:

لا تلتمس من مساوي الناس ما ستروا    فيهتكَ الله ستراً من مساويكا

واذكـر محاسن مـا فـيهم إذا ذُكروا    ولا تَعِبْ أحداً منهم بما فيكا

وقد قيل: لا تُبد من العيوب، ما ستره علام الغيوب.

وما أشد قولهم: اللئيم إذا غاب عاب، وإذا حضر اغتاب.

2 – النميمة: وهي أن تجمع إلى مذمة الغيبة رداءة وشراً، وتضم إلى لؤمها دناءة وغدراً، ثم تؤول إلى  تقاطع المتواصلين وتباعد المتقاربين، وتباغض المتحابين.

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:

"ألا أخبركم بشراركم؟

قالوا: بلى يا رسول الله.

قال: المشّاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون العيوب".

وروى أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:

"ملعون ذو الوجهين، ملعون ذو اللسانين، ملعون كلّ شغّار، ملعون كل قتّات، ملعون كل منان"(3).

وقالوا في الحكم: النميمة سيف قاتل.

وقال أحد الأدباء: لم يمشِ ماش شرُّ من واش.

3 – السعاية: وهي شر الثلاثة لأنها تجمع إلى مذمة الغيبة، ولؤم النميمة، التغرير بالنفوس والأموال، والقدح في المنازل والأحوال. قال صلى الله عليه وسلم:

"الجنة لا يدخلها ديوث ولا قلاّع"(4).

قال أحد الحكماء: الساعي تراه بين منزلتين قبيحتين. إما أن يكون صدق فقد خان الأمانة، وإما أن يكون كذب، فقد خالف المروءة.

وقال أحد الحكماء كذلك: الصدق يزين الناس كلهم إلا الساعي فإنه آثم مذموم وإن صدق.

وقال أحدهم: النميمة دناءة، والسعاية رداءة، وهما رأس الغدر وأساس الشر، فتجنّب سُبُلهما، واجتنب أهلهما.

وسعى رجل في رجل عند الإسكندر فقال:

أتحب أن نقبل منك ما تقول فيه على أن نقبل منه ما يقوله فيك؟

قال: لا.

 قال الإسكندر:

فكفّ عنه الشر، يكفّ الشر عنك.

وروي أن الله تعالى أوحى إلى موسى عليه السلام أنّ في بلدك ساعياً ولستُ أخبرك، وهو في أرضك.

فقال: يا رب، دلّني عليه حتى أخرجه.

فقال: يا موسى، أكره النميمة وأنمّ؟!

الهوامش

(1) الشِّمال: الخلق وجمعها شمائل.

(2) وضع من قدره: خفضه.

(3) السغّار: المحرّش بين الناس، يلقي بينهم العداوة ، والقتّات: النمّام. والمنّان: يصنع الخير ويمنّ به.

(4) الديوث: لا غيرة له على النساء، وهو القوّاد.

القلاع: الساعي يقع في الناس عند الحكام، وقيل القوّاد، والنبّاش، والغمّاز.