الشاعر الإنجليزي روبرت براوننج .. حياته وشعره ( 1812 _ 1889 )

كان الناس أحيانا يشيرون إلى روبرت براوننج في زمان حياته الزوجية بصفته " زوج السيدة براوننج " ؛ ذلك أن زوجته إليزابيث باريت ، التي تبدو لنا الآن شخصية ضئيلة القيمة ، كانت في ذلك الزمان شاعرة شهيرة في حين كان زوجها شاعرا مبتدئا شبه مغمور ، يستقبل القراء قصائده بسوء الفهم أو عدم الاكتراث إلا أنه ما عتَم في 1860 أن حاز شهرة شعرية ، وبات معروفا بصفته منافسا للشاعر تنيسون . وترسخت شهرته في القرن العشرين بطريقة غريبة ، وهي أن شعره يروق فئتين من القراء تتباينان في الذائقة الشعرية تباينا واسعا  ، فترى إحدى الفئتين في هذا الشعر قوة أخلاقية ، ترى في براوننج رجلا عاش حياته شجاعا ، وبين لهم أن الحياة معركة بهيجة ، وأن نواقص  العالم ستعالجها الأجيال التالية في ظل إله محب يدبر شئون هذا العالم . ويشبه قراءَ هذه الفئة قراءُ جمعيات براوننج  التي ازدهرت في إنجلترا وفي أميركا التي اعتبر أعضاؤها شاعرهم فيلسوفا حكيما ومعلما دينيا أزال الريب التي أقلقت الشاعرين أرنولد وتنيسون ، ومضت تقلق أجيالا لاحقة من كتاب وشعراء أدنى قيمة . والفئة الثانية التي راقها شعر براوننج هي التي رأت فيه محاولة لحل مشكلات كيفية كتابة الشعر أكثر مما رأت فيه  محاولة لحل مشكلات الريب الدينية . فشعراء مثل إزرا باوند  وروبرت لويل يرونه فنانا فحلا ، ويقر هؤلاء القراء أن براوننج هو، من بين سائر شعراء القرن التاسع عشر ، الذي شق الطريق الأساسي للشعر في القرن العشرين . وبين راندول جارِل في كتابه عن " الشعر المعاصر " كيف أن الحوار الذاتي المسرحي الذي اعتمد سابقا لتأثيره بصفته مفارقة لمعيار الشعر ؛ بات الآن ، في صورة أو أخرى ، هو المعيار السائد ، وأن " براوننج لم يبتكر الحوار الذاتي المسرحي في النص الشعري ، وإنما رسخه بصفته معيارا شعريا . " . والحوار الذاتي المسرحي ، مثلما يستعمله براوننج ، يمكن القارىء والمتكلم في النص والشاعر من أن يكونوا على مسافة ملائمة من بعضهم بعضا ، ومصطفين بطريقة توجب على القارىء التصرف  من خلال كلمات المتكلم نحو المعنى الذي يعبر عنه الشاعر نفسه . فمثلا في الحوار المبكر الشهير في قصيدة " دوقتي الأخيرة " نستمع إلى الدوق متحدثا عن زوجته الراحلة ، فنشعر تقريبا كأننا ننصت إلى رجل يتحدث في مقصورة هاتف قريبة منا ، ونستنج من حديثه الأحادي الطرف الموقف ماضيا وراهنا ، وأي امرأة كانت الدوقة حقا ، وأي رجل هو زوجها الدوق ، وربما نستنج أخيرا رأي الشاعر ذاته في المتكلم الذي ابتدعه في قصيدته . ونعرف من هذا المثال ، ومن خارج القصيدة ، أن براوننج كان يمقت طغاة البيوت مقتا خاصا ، وقدر لوالد زوجته أن يهيء له نموذجا مثيرا في ابنته ، ويبين هذا في قصيدته المطولة " الخاتم والكتاب " التي كشف فيها طاغية بيت آخر أحنقته قوة زوجته مثلما أحنقت الدوق قوة زوجته إلا أنه من المدهش أن نلحظ في قصيدة " دوقتي الأخيرة "  ،إذا استثنينا البرهان الخارجي ، مدى ما في قصة الدوق من إقناع . يقول : " لها قلب ، ما عساي أقول ؟! ، سريع الجنوح إلى الابتهاج ،سهل التأثر . أحبت كل ما تطلعت إليه ، وشردت نظراتها في كل صوب . " . ومع أن براوننج يتوقع أن يكون حكمنا عادلا بصفتنا محلفين فإنه يمنحنا مدى وسيعا لهذا الحكم ، فنضطر في بعض حواراته الذاتية المتأخرة إلى شق سبيلنا صوب اختيار ما في حكمنا . فعلى سبيل المثال في قصيدة " جنازة نحوي " هل نحن على ثقة من أن الشخصية المحورية فيها شخصية بطل أم شخصية أحمق ؟! براوننج لم ييسر علينا الجواب . وله خبرات مع اللغة ونظم كلماتها مثلما له خبرات مع الحوار المسرحي الذاتي . وكانت قوافيه الغريبة وأسلوبه الثقيل على اللسان اللذان يفرط في استعمالهما مبغضين لدى عدد من النقاد مثل جورج سانتيانا الذي استبعده ناعتا إياه بالهمجي الأخرق إلا أن الذين يدركون غاياته يرون لتنافر اللغة عنده وظيفة فنية ،وليس محض تنافر ، وأنه نظير متهكم ملائم لعالم منقوص معيب . وهذه القدرة على استقطاب إعجاب هؤلاء القراء المتمايزين ، الفائق وغير الفائق ، لهي إحدى الطرائق العديدة التي تجعلنا نشبه كتابات براوننج بكتابات ديكنز وشكسبير .  

                                           *** 

تنقسم حياة روبرت براوننج الشخصية إلى ثلاث مراحل ، هي : الطفل والشاب المتعزب ، والزوج ، والمترمل . وكل مرحلة منها لها دورها المؤثر كثيرا في تطوره الشعري .فهو ولد في كامبروِل إحدى ضواحي لندن ؛ عقب أشهر قليلة من ولادة الروائيين ديكنز وثاكري . وندرما غاب براوننج عن بيت والديه حتى زواجه في الرابعة والثلاثين . والتحق في طفولته بروضة قرب كامبرول ، وسافر قليلا . ودرس في جامعة لندن زمنا قصيرا ، وآثر موالاة تعلمه في البيت ، فتعلم اللغات الأجنبية ، والموسيقا والملاكمة ، وركوب الخيل ، وتميز بالتنوع في القراءة . ومن طريق هذا التعلم غير النظامي جمع مخزونا من المعرفة كون خلفية قصائده . ونستطيع إلى حد ما تعليل " الغموض " في شعره الذي اشتكاه معاصروه بتعلمه المتنوع غير النظامي . وكان ميالا إلى فرضية أن القراء الذين تعلموا نظاميا يشبهونه إجمالا في تعلمه ، وغالبا ما ثبت خطأ هذه الفرضية . وغموض بعض قصائده مثل " سوردِلُو " لا يرجع إلى نوعية تعلمه وحدها ، بل لرغبته في تقديم نفسه للقراء في صورة شاعر واضح جدا . وبنى قصيدته الأولى " بولين " التي نشرها في سنه الحادية والعشرين على مثال قصائد شلي أكثر الشعراء ذاتية . واستبد الحرج به حين قال جون ستيوارت مل إن المؤلف الشاب ، براوننج ، يبدي في شعره " حالة مرضية " من عبادة الذات . وبعد ذلك عزم على الابتعاد عن الكتابة ذات السمة الاعترافية المجاهرة ، فكانت كتابة المسرحيات إحدى وسائل تقليله من العنصر الشخصي في شعره بدل القصصيات أو القصائد الغنائية التي تغوص في عمق الذات . وطفق في 1836 ، بتحميس من الممثل و . سي . ماكريدي في كتابة " سترافورد " أولى مسرحياته ، وهي مأساة تاريخية لم تعرض إلا أربع ليالٍ حين قدمت على أحد مسارح لندن في 1837 . وجاهد الكاتب الشاب عشر سنوات لإنتاج مسرحيات أخرى عساها تجذب اهتمام الجمهور أكثر مما سبقها إلا أنها تابعت إخفاقاتها عند عرضها مسرحيا ، على أنه أفاد مع ذلك من هذه التجربة المحبطة ؛ إذ قادته كتابة الحوار للممثلين إلى اكتشاف شكل كتابي آخر أكثر ملاءمة لعبقريته ، وهو الحوار الذاتي المسرحي الذي مكنه من خلال متكلمين متخيلين من تجنب السيرة الذاتية الجلية ، وفي ذات الحال لم يكلف أولئك المتكلمين الخروج عن مسرحيتهم الأصلية بالتسريع أو بالتبسيط اللذين يتطلبهما الإنتاج المسرحي . ولم يعُق عزمُ براوننج على تجنب نهج شلي الذاتي تأثرَه بالشاعر السابق عليه ؛ بطرق أخرى ، فصار ملحدا وتحرري النزعة بعد أن اكتشف وهو في الرابعة عشرة أشعار شلي . ومع أنه تخلص من الإلحاد بعد مجاهدة مضنية ، ومن تطرف تحرريته فإنه احتفظ من تأثير شلي عليه بشيء أبقى وأشق من أن يُعرَف ، وهو الانصراف إلى المثاليات التي غالبا ما تكون مبهمة ، والمجاهدة القاسية لبلوغ الغايات ، وهي بدورها غالبا ليست محددة . وهذه المزية في الطموح أشد امتزاجا بالمادية ، بل بالدنيوية في شخصية براوننج مما هي في شخصية شلي ، فما كان من وكْد براوننج الصعود على جناح قُبَرة ( إشارة إلى قصيدة شلي " إلى قبرة في السماء " . المترجم ) ، وهو ، براوننج ، أشبه ما يكون بالشاعر فروست حين يصعد على شجرة بتولا نحو السماء إلا أنه قلق من السقوط ثانية قبل أن يصعد عاليا ، بيد  أن دنيوية براوننج لا يلزم أن تحجب عنا رومانسيته الحادة ؛ ذلك أن حبه لإليزابيث باريت كان رومانسيا بالعديد من الدلالات لهذا النعت الصعب التحديد الدلالة . ومن اليسير معرفة العلة في أن قصة حبهما المشهورة أعاد الروائيون والمسرحيون والسينمائيون روايتها تكرارا ، والعلة هي أنها تحوي بذور قصة القديس جورج الأثيرة لدى براوننج حيث ينقذ هذا القديس العذراء من التنين . وقد بدا كل شيء تقريبا ليس ملائما حين التقى براوننج إليزابيث في 1845 . كانت تكبره بستة أعوام ، وشبه عليلة ، ويحرسها والدها المستبد حراسة غيران إلا أن الحب ، مثلما قال براون ، خير علاج ، فأزاح كل العقبات جانبا . وسرعان ما تحسنت صحة إليزابيث شبه العليلة السابقة ، وتمتعت بحياتها مكتملة عقب أُبوقهما إلى إيطاليا . وبدا أن الزوج أيضا تحسن حالا في سني هذه الزيجة المرموقة ، وظهر ، على مثال شعراء إنجليز كثيرين ، مرتاحا في ربوع البحر المتوسط الدافئة . وينعكس في أكثر دواوينه أهمية ، ديوان " رجال ونساء " في 1855 ، تمتعه بإيطاليا : ربوعها الجميلة ، ومشاهد شوارعها الحيوية ، وآثارها القديمة ، وبالذات آثار عصر النهضة ، ولكون زمن وجوده فيها زمن  توسع قدرات البلاد الذي ناسب مزاجه الخاص الذي يجنح للتوسعية . وانتهت سنوات الإقامة السعيدة الخمس عشرة في إيطاليا في 1861 بموت إليزابيث ، ورجع براوننج المترمل مع ولده . ولم ينقص ما أنتجه من شعره في الأعوام الثمانية والعشرين التي عاشها بعدئذ إلا أنه نقص جودةً في عشر السنوات الأولى . ونشر أعظم أعماله الشعرية " الخاتم والكتاب " في 1868 ، وهو قصيدة مطولة في حجم رواية . ومع ذلك تعاني كتاباته المتأخرة من تكرار نمطي في الأسلوب ، ومن الإفراط في الجدل ، ومن الأخطاء التي قادته إليها حماسة المعجبين السيئة  به ؛ إذ حظي بأكبر متابعة منهم في ذلك الحين من حياته . وعند وفاته في 1889 دفن في مقبرة كنيسة ويستمنستر. وصار في نهاية سني حياته في لندن مولعا جدا بالحياة الاجتماعية ، فأكل في منازل الأصدقاء ، وفي الأندية حيث تمتع باحتساء خمر البورت ، وبالحديث مع الخلطاء . وكان يتكلم عالي الصوت جازما في آرائه حول قضايا كثيرة ما خلا شعره الذي كان عادة متحفظا قليل الكلام عنه ، وضايق تحفظه كثيرين من المعجبين به . وأحست نسوة أميركيات زرن لندن متطلعات للالتقاء بالشاعر الذي ألهمهن التوق إلى أشياء سامية ؛ بالخيبة ، وتقريبا بالهلع حين التقين براوننج في وليمة طعام ؛ إذ لم يبدُ " مثل شاعر " . وتوضح قصيدته المتأخرة " المنزل " علة هذا الانطباع عنه . فوراء واجهة الآكل الودود على موائد الآخرين عاش براوننج وفكر على هواه تماما مثلما اكتشف في كتابة حواراته المسرحية الذاتية أهمية كلامه غير المباشر حيث كل محاور يمثل قناعا للشاعر . ولا نعرف شخصية براوننج بذات الوضوح البين الذي نعرف به شخصيات تنيسون أو أرنولد أو كارلايل رغم نوبات صراحة براوننج . وقال الشاعرتوماس هاردي مرة إن شخصية براوننج بدت له " لغز القرن التاسع عشر الأدبي " . وحاولت كاتبة السيرة السيدة بيتي ميلر حل ذلك اللغز بالقول إن براوننج لم يكن ذلك الشخص السعيد الواثق من ذاته مثلما قدم عادة للناس ، وتعزز هذا القول نغمة اليأس في قصائد له مثل " تشايلد رولاند " . ويلقى هذا  التفسير الغريب سندا له على الأقل في التماثل بين براوننج وييتس " الشاعر المنشغل بالأقنعة " ، فبراوننج أعقد كثيرا مما كان معجبوه مستعدين للإقرار به . ومثلما كانت شخصيته أصعب تحديدا من شخصية تنيسون كانت قصائده أصعب من أن تُعزى إلى العصر الذي كتبت فيه من قصائد تنيسون الموضوعية . وانطباعنا الأول أنه ما من صلة بين قصائده وعصرها . فالأساقفة ورسامو عصر النهضة وأطباء الامبراطورية الرومانية وموسيقيو ألمانيا في القرن الثامن عشر ، أثناء اكتشافنا قائمة عرض لوحات كلامه ، نبدو معها في زمن عالم موغل في القدم ناءٍ عن عصر محركات البخار ، والجدل حول انحدار الإنسان من شمبانزي ، بيد أن انطباعنا الأول عن قصائده مضلل ، فكثير من هذه اللوحات الكلامية تستكشف المعضلات التي جابهت معاصريه خاصة معضلات الإيمان والشك ، والخير والشر ، ومشكلات وظيفة الفنان في الحياة المحدثة . إن قصيدة " كاليبان فوق ستيبوس " مثلا نقد عالي الموضوعية للداروينية وللديانات الطبيعية بصفتها نقيضا للديانات الخارقة للطبيعة ( السماوية . المترجم ) . وموقفه الخاص من هذه القضايا الموضوعة مخفي جزئيا لاستعماله متكلمين وأزمنة وأمكنة من العصور الغابرة إلا أننا تلقانا بعض الفرضيات الدينية التي تتردد لديه ؛ الأمر الذي يجعنا نعزوها إليه مطمئنين . وأكثر هذه المترددات أن الله _ سبحانه _ خلق عالما ناقصا ليكون نوعا من قاعدة اختبار للمخلوقات ، إنه مثلما قال الشاعر كيتس : " وادٍ من خلق النفس " ، وحتم ذلك ، وفق براوننج ، أنه لا مفر لنفس الإنسان من ان تكون فانية ، وأن السماء ذاتها كاملة ، ومثلما يؤكد أبْت فولجر : " على الأرض الأقواس المهشمة ، وفي السماء دائرة تامة " . وإذ يتسلح براوننج بهذا الإيمان فإنه يمنحنا الانطباع بأنه شخصيا لم تحيره الرِيَب التي نخرت قلوب أرنولد وكلو وتنيسون ، وأما البرهان الذي قدمه النقد التاريخي  للكتاب المقدس فرفضه ببساطة باعتباره غير ذي صلة تماما مثلما تخلص د . ه . لورانس الرومانسي المتأخر من نظرية النشوء بالجدال بأنه لم يجد برهانا عليها في ضفيرة أعصابه الشمسية solar plexus . ويجذب هذا الصنف من القناعة الدينية قراء كثيرين يتوقعون من الشعر أن يهبهم ترفعا وألوانا من الاطمئنان بينما يرى قراء آخرون أنه عقبة ما من وسيلة لتخطيها ، وأنها ، القناعة ، تشبه في حمقها وسخفها حمق وسخف إيمان الكاتب ماكوليه في التقدم البشري . ومن أهم قضايا النقد الأدبي الحديث أن قدرتنا على الاستمتاع بكتابات كاتب ما إنما يعوقها أن يبدو لنا موقفه الديني منفرا مكروها . وهذا القضية أرحب كثيرا من أن نستكشفها في شعر براوننج إلا أن ثمة على الأقل فسحة لإيلاج عبارة في كلامنا تعدل التهمة التي يسرع نقاد براوننج في صياغتها حول موقفه الديني البهيج . إنه لمن السهل أن يسيء الناس قراءة وفهم المتفائل الأعمى إلا أن تفاؤل براوننج ما كان أعمى . والحقيقة أن كتابا قليلين كانوا أوعى منه لوجود الشر في الحياة ، فمعرضه الكتابي للأشرار والسفاحين والأزواج الساديين ، والمهرة الوضعاء والحقراء ؛ معرض فريد في صنفه . وما من شيء في جوهريته في درس شعره درسا منصف النية من إقرارنا بأن تفاؤله الجلي قد اختبر دائما في تجليته لشرور الطبيعة البشرية . والقراء الذين يؤثرون التخلص من كتاباته بحصرها في عبارة مسبقة بدلا من قراءتها قراءة معتنية . إنهم يروون دوما تباين البيتين التاليين بوصفهما إيجازا جامعا لكتابته : " الله في سمائه ، وكل شيء طيب في الكون " ( صارا في الترجمة بيتا واحدا ، وما كان لهما إلا أن يصيرا . المترجم ) . وإذا رجعنا إلى القصيدة التي فيها هذان البيتان فسنضطر إلى تبديل تلك العبارة . إن  " بِبَا تمر "  

مجموعة حكايات قذرة منحطة تشبه ما نلقاه في الصفحة الأولى من أكثر الصحف إثارة في أسلوبها . فالبطلة التي تعمل 364 يوما في السنة في محل    على وشك أن ترسل إلى روما لامتهان الدعارة بعد أن قتل رجل وامرأة يعملان في الدعارة زوجها منذ وقت قريب . وخدعت مجموعة عصابة من الفوضويين الخبثاء شابا للزواج منها . ولأن براءة ببا تناقض المشاهد الأخرى القذرة المنحطة يمكننا القول إن الله في سمائه إلا أن طيبة كل شيء في الكون تؤيدها الفتاة وحدها ، ولا تبين القصيدة هذه الطيبة . والسمة الأخرى في شعر براوننج التي تميزه من شعر العصر الفيكتوري هي أسلوبه ، فأكثر الشعراء البارزين في العصر الفيكتوري مثل تنيسون أو دانتي جبرائيل روسيتي يكتبون بأسلوب كيتس وملتون وسبنسر ، وبأسلوب الشعراء الكلاسيكيين مثل فيرجيل ، فأسلوبهم هو التقليد الأساسي في الشعر الإنجليزي . الأسلوب الذي يؤثر الصياغة السلسة الصقيلة ، وانسياب الإيقاع العذب أما براوننج فيمتح من تقليد أسلوبي آخر أكثر شعبية وأكثر تنافرا . وهو تقليد يشمل جون دُن ومناجيات شكسبير الذاتية وشعر توماس هود الساخر في مطلع القرن التاسع عشر ، وبعض خصائص أسلوب تشوسر القصصي . وأبرز سمة في أسلوب براوننج هي تقاربه من أسلوب دُن ، فكلا الشاعرين ، بالمناسبة ، يضحيان بمتعة التناغم في الأسلوب وبالتسامي المتتابع للإيقاع باستعمالهما أسلوبا متنافرا تنافرا خشنا ، ومضافات تعبيرية مباغتة تلقي بنا إلى الشعور بعالم وقائع الحياة اليومية وعاديَاتها .  

وقصيدة براوننج المتأخرة " صاحب البيت " مثال ممتاز لتماثله مع دُن في هذه السمة . ويجادل القراء الذين يمقتون هذا الصنف من الشعر لدى براوننج أو دن أنه ، الشعر، يعاني من النثرية prosiness . ووصف أوسكار وايلد مرة الروائي جورج ميريديث بأنه يشبه " الناثر براوننج " ، وأضاف : " وهكذا براوننج " . ومزحة وايلد قد تعيننا في نسبة براوننج إلى معاصريه ؛ ذلك أنه إذا كان ، براوننج ، ليس متناغما مع معاصريه من كتاب النثر فعنصر الغرابة الذي يقوم بدور بارز في الأسلوب ومادة الموضوع عند كارلايل وديكنز ، وفي نظريات جون رسكن الجمالية ؛ نجده بارزا أيضا بذات السمة في شعر برواننج من مثل قوله : " في ! فا! فم ! 

بقبقة وزعيق ، 

هو الخميس أقدس أيام الأسبوع وأغناها . 

جلبة وتعثر ، شيء أملس ، وشيء خشن . 

شيء عفن ، وشيء طيب الريح ، 

شيء أنيق ، وشيء فظ " . 

إن تلك الأبيات الاستهلالية من قصيدة " عيد الصليب المقدس " تعرض لنا صنفا  من المزاح الصاخب في تقديم موقف بالغ الجدية يشبه المزاح الذي استعمله كارلايل في كتابه " الثورة الفرنسية " . ولا تقتصر الصلة بين براوننج وكتاب النثر في العصر الفيكتوري على الأسلوب وحده ؛ إذ إنه ، براوننج ، شارك الجيل المتأخر من الروائيين الفيكتوريين مثل جورج إليوت وجورج ميريديث وهنري جيمس اهتماما محوريا موحدا . وعلى غرار إليوت خاصة ، عُني بكشف الأساليب الملتوية التي تعمل بها عقولنا ، وتعقيد حوافزنا الشخصية . كتب : " ركزت على أحداث تطور روح الإنسان " ، و " ماعدا هذا دراسته قليلة الأهمية " ، وتصور نظراتِه النفسية قصائدُ مثل " الأسقف يطلب حفر قبره " ، أو " فرا ليبو لبي " . ومع أن الحوارات في هاتين القصيدتين ذاتية علنية وليست باطنية على طريقة جيمس جويس إلا أن النظر فيها إلى أفعال عقول الناس له ذات الدقة . ومثلما نفعل في قراءتنا لجيمس جويس يجب أن نكون حذرين في متابعة النقلات السريعة في العمليات الذهنية لدى المتكلم . وتقع الوثبات بين مجموعة من الخواطر والمعاني ومجموعة أخرى إلا أن دور براوننج في التبشير بأدب القرن العشرين لا ينبغي أن يعمينا عن رؤية فيكتوريته الجوهرية ، فالطاقة أميز جانب في كتابته ، وهي ربما تعد أميز جانب في الأدب الفيكتوري جملةً . وطبعا كثيرا ما أسيء توجيه هذه الطاقة ، وشخص جيرارد مانلي هوبكنز هذا الإخفاق تشخيصا دقيقا حين اشتكى من طريقة براوننج في الكلام مثل قوله : " إنسان يثب من مائدة وفمه مملوء خبزا وجبنا ، ويقول إنه لم يتعمد وقف أي هراء " ، ومع ذلك فإن هذا المرح في أحسن أحواله  ميزة تبث حيوية خلاقة في كل كتابات براوننج .  

                                     *** 

*من قصيدة " حبيب بورفيريا " :  

هتن المطر مبكرا عشية الليلة ، 

وما لبثت الريح أن عصفت نكداء ، 

وأسقطت ذوائب شجرة الدردار حاقدة ، 

وفعلت أسوأ ما قدرت على  فعله لتكدير ماء البحيرة . 

فأصغيت إلى عصفها بقلب يكاد ينفجر . 

وبغتة انسابت بروفيريا دالفة ، 

فأقصت البرد والعاصفة ، 

وانحنت وأوقدت النار ، 

فأدفأت كل الكوخ ، وقامت  

وخلعت عباءتها ووشاحها المبتلين ، 

وطرحت قفازيها جانبا ، وحلت قبعتها ، 

وأرسلت ضفائرها المبتلة ، 

وجلست قربي .  

*عن " مقتطفات نورتون المختارة من الأدب الإنجليزي " .  

وسوم: العدد 936