بوتين وخططه في حكم روسيا للآبد

شرعية الحكم لا تستقيم إلا عبر الديمقراطية الحقيقية

اليوم أصبحت شرعية الحكم لا تستقيم دون الديمقراطية، وحكومات قليلة تلك التي تريد أن تبدو غير ديمقراطية، إلا أن أوراق اعتماد المُدّعين لم تكن على نفس درجة تزايد شعبية الديمقراطية. وفي يومنا هذا حتى الطغاة يسعون للحصول على الوضع الذي يضمنه لقب الديمقراطية، ومصممون على ألا يدعوا الحقائق المجردة تقف في طريقهم، فأجادوا تمام الإجادة فن الشعارات الديمقراطية؛ التي ليس لها وجود أو أية علاقة بممارسات الحُكم لا من قريب ولا من بعيد.

فهذا فلادمير بوتين أحد هؤلاء المدّعين زوراً وبهتاناً بتطبيق الديمقراطية في بلاده روسيا، التي خرجت من عباءة الديكتاتورية الشيوعية التي لا زمتها لأكثر من سبعين سنة، في ظل حكم أعتى الديكتاتوريات الظلامية في العالم "الاتحاد السوفيتي" والتي هوت كبيت العنكبوت في لحظة فارقة لم يتوقعها أحد.

بوتين والمسرحيات الانتخابية

هذا الرئيس القاسي القلب المتلون كالحرباء لم يتوانى في تنظيم مسرحية انتخابية كلما انتهت مدة ولايته؛ ليتبادل سدة الحكم مع تابعه ديمتري ميدفيدف يتناوبان الانتخابات الرئاسية في مسرحية هزلية ممجوجة أضحكت العالم عليه وعلى الديمقراطية المزيفة التي يحكم بها روسيا، وفي آذار عام 2008 عُيّن بوتن رئيس وزراء على الفور، وهو ما أتاح الفرصة لبوتن للحفاظ على موقع رئيسي مؤثر على مدى السنوات الأربعة التالية، بغرض إضفاء الشرعية على حُكمه، فروسيا التي خرجت من شمولية شيوعية لنظام ديمقراطي مسخ؛ ثم نظام ديمقراطي موجه من الرئيس؛ وهو نظام سلطوي بوجه ديمقراطي، حتى إلى أن وصل بهذا الرئيس الهوس في السلطة والتمسك بها مدى الحياة، كما فعل ويفعل ذنبه في سورية بشار الأسد؛ ولو على حساب قتل شعبه وتسليم البلاد لكل طامع وطائفي وحاقد، ليساعده في قتل شعبه وتدمير البلاد وسرقة الأوطان، وكان في مقدمة هؤلاء اللصوص مجرم الحرب بوتين.

ففي الذكرى السنوية لضم شبه جزيرة القرم بادر بوتين إلى القيام بتعديل دستوري يسمح له الاستمرار في منصبه، وقد تحدث لأول مرة عن التعديل معتبرا أن القيود على فترات الولاية تقل أهميتها في أوقات الأزمات.

مجلس الدوما الروسي يمنح موافقته على التعديلات الدستورية

من جهته أعطى مجلس الدوما الروسي "البرلمان"، يوم الأربعاء 11 آذار/مارس 2020 موافقته النهائية على تعديلات دستورية تسمح له بالترشح للرئاسة مجددا في عام 2024، مما يمهد الطريق لاستمراره في الحكم حتى عام 2036.

وحضر بوتين جلسة مجلس الدوما يوم الثلاثاء 10 آذار ليقول: "إن القيود على فترات الولاية تقل أهميتها في أوقات الأزمات".

وبموجب الدستور الحالي يتعين على بوتين، التخلي عن السلطة في عام 2024 عندما تنتهي فترة رئاسته الرابعة، لكن التعديل الدستوري الذي أيده سيبدأ احتساب فترات ولايته من الصفر.

وصوت مجلس الدوما الذي يضم 450 مقعدا يوم الأربعاء لصالح هذا التعديل إلى جانب تعديلات أخرى في ثالث وآخر قراءة بتأييد 383 صوتا. ولم يصوت أي نائب ضد التعديلات، لكن 43 نائبا امتنعوا عن التصويت. وتغيب 24 نائبا عن الجلسة.

وإذا أيدت المحكمة الدستورية التعديل، بحسب توقعات منتقدي بوتين، وأيده الناخبون في اقتراع عام في أبريل/ نيسان سيكون أمام بوتين خيار خوض انتخابات الرئاسة في عام 2024.

وإذا أتاحت له حالته الصحية وحظوظه الانتخابية القيام بذلك فقد يبقى بوتين في الحكم حتى عام 2036، وحينها يكون قد بلغ من العمر 83 عاما وأمضى 36 عاما في حكم روسيا.

بوتين سيحاول الآن أن يصبح رئيسا مدى الحياة. ولم يصرح بوتين بخططه للمستقبل بعد 2024، لكنه يقول في كذبة سمجة إنه "لا يؤيد ممارسة تعود للعهد السوفياتي وهي بقاء الزعماء في السلطة مدى الحياة".

التعديل الدستوري والمكاسب التي يمكن أن يحققها بوتين

التعديل الدستوري له مكون سياسي ويمكن فهمه كتأمين ضد سيناريوهات سلبية لبوتين، وعلى هذا النحو يمكن لبوتين الحصول على مقعد مدى الحياة في المجلس الفيدرالي وتأمين الحصانة له. ووفق الدستور لا يُسمح للرئيس تولي المنصب أكثر من ولايتين متتاليتين، إلا أن استثناء قد يتم تبنيه لصالح بوتين.

كما أن التعديل الدستوري يسمح بتحويل الصلاحيات لصالح الرئيس الذي يحصل على سلطة أكبر ورئيس الوزراء والحكومة أقل من ذلك، وبإمكان الرئيس مثلا بعد دخول التعديل حيز التنفيذ "تسيير العمل العام للحكومة"، والحكومة لا يحق لها بعد أن تقرر وحدها في أي اتجاه يجب أن تسير البلاد، فهي تنظم فقط العمل حسب مبادرات الرئيس.

وتحويل هذه الصلاحيات يشمل أيضا تقوية جهاز حكومي لم يظهر إلى حد الآن في العلن وهو المجلس الحكومي، وراجت طويلا تكهنات بأن بوتين سيقود هذا المجلس بعد 2024 وسيستحوذ على صلاحيات شاملة.

وحتى القضاة سيكونون مرتبطين بالرئيس أكثر من ذي قبل، إذ يمكن لرئيس الدولة تسريح قضاة المحكمة الدستورية والمحكمة العليا، وبهذا التعديل الدستوري تطمح موسكو إلى التقليل من تأثير الخارج، فالقانون الدولي في روسيا لن تكون له أولوية ولا يتم تطبيقه إذا اعتبرت المحكمة الدستورية الروسية أنه لا يتلاءم مع القانون الوطني، لكن إمكانية رفع شكوى أمام المحكمة العليا الأوروبية لحقوق الإنسان تبقى قائمة أمام الروس، كما لا يحق حسب التعديل الدستوري التخلي عن أي أرض روسية، وهذا من شأنه تبيان القوة في النزاع حول القرم مع أوكرانيا وفي الخلاف مع اليابان حول جزر الكوريل.

روسيا تخلف الاتحاد السوفييتي بحسب الدستور الجديد

والكثير من التعديلات تتماشى مع الذوق المحافظ والوطني لبوتين الذي يتربع على كرسي السلطة منذ 20 عاما. وعلى هذا النحو يتم وصف روسيا في الدستور الجديد "كخلف قانوني للاتحاد السوفياتي" وكدولة "موحدة بفضل تاريخ يعود لألف سنة". وروسيا في غالبيتها مسيحية أرثوذكسية، إلا أن نسبة السكان المسلمين تشكل 10 في المائة.

وكشف بوتين في يناير/ كانون الثاني الفائت 2020 عن تغيير كبير في السياسات الروسية وإصلاح دستوري، وصفه الكرملين بأنه إعادة توزيع للسلطة لصالح البرلمان. لكن منتقدي بوتين يقولون إنه مجرد غطاء لتمهيد الطريق أمام النخبة الحاكمة في البلاد لإبقاء بوتين في السلطة بعد عام 2024.

دور المعارضة الخجول من تعديل الدستور

قال نشطاء معارضون إنهم يعتزمون تنظيم احتجاجات في وقت قريب ضد بقاء بوتين في السلطة، لكن خططهم تواجه تعقيدات بسبب أمر من الحكومة يمنع حشود تضم أكثر من خمسة آلاف شخص حتى العاشر من أبريل/ نيسان القادم خوفا من مخاطر تفشي فيروس كورونا، وستراجع أطراف أخرى في السلطة التشريعية الروسية الآن التعديلات التي أيدها مجلس الدوما، بينها المجلس الأعلى في البرلمان (مجلس الاتحاد) في وقت لاحق، ومن غير المتوقع أن يعارضها أحد.

أخيراً ألا يستحق الشعب الروسي الذي رزح لأكثر من 70 سنة تحت مظلة الديكتاتورية الشيوعية وآلامها وعذاباتها؛ أن يعيش كباقي البشر في العالم المتحضر، موفور الكرامة، ويملك حرية قراره في اختيار الحاكم وأسلوب الحكم، بعيداً عن الإملاءات والضغوط، وبعيداً عن مشاهدة السوط يشهر في وجهه ويلوح له به، ليذكره بما لاقاه أسلافهم على يد ستالين ولينين وقافلة الحكام الذين جاءوا بعدهما، وسلكا نفس طريقتهما في القهر والإذلال والاعتقال والسجون والنفي إلى سيبريا، حيث الموت في عالم منسي لا يعرف العالم عنه شيء؟

وسوم: العدد 868