دونالد ترامب والحرب

مع فوز جو بايدن في الانتخابات الرئاسية الأميركية، ورفض دونالد ترامب الاعتراف بهزيمته، ومع إقالة ترامب وزير الدفاع مارك إسبر، وتعيين وزير دفاع بالوكالة، وإجراء تعيينات «جديدة» في البنتاغون، علا صوت احتمال لجوء ترامب إلى شنّ حرب ضدّ إيران. وقد أبدت أوساط بايدن انزعاجها وخوفها من هذه التطوّرات، ولا سيما المتعلّق منها بما جرى ويجري في «البنتاغون»، مركز القوة الرئيس في تقرير اللجوء إلى حرب أو عدم اللجوء إليها. ومن هنا، اعتُبرت إقالة إسبر وما تبعها من تعيينات، بما في ذلك تعيين وزير دفاع بالوكالة، مؤشّراً إلى احتمال لجوء ترامب إلى ارتكاب مغامرة عسكرية غير محسوبة وغير مدروسة، كردّ فعل على ما جرى عليه من «تآمر»، أدى إلى سقوطه في الانتخابات. ولمّا كان «جسم» ترامب «لبّيساً» لكلّ الاحتمالات، بما فيها المفاجِئة وغير المتوقعة، وضع كثيرون احتمال شنّ حرب على رأس الأجندة.

ولكن ثمّة عدّة أسئلة يجب التوقّف عندها قبل التسليم بهذا الاحتمال، والتسليم لنزوات ترامب الخارجة عن كلّ توقع. وأوّلها، ما الذي تغيّر بعد الانتخابات ليذهب ترامب إلى الحرب، خصوصاً ضدّ إيران، وهو ما كان على الأجندة طوال السنوات الأربع الماضية، ومع ذلك لم يَتّخذ قرار إطلاقها؟ بالتأكيد، ليس هنالك من جديد غير سقوطه في الانتخابات، وفوز بايدن ليقود أميركا من خلال الحزب الديمقراطي للسنوات الأربع المقبلة. وهذا وذاك لا يمكن أن يوازنا الأسباب التي لم تسمح لترامب باللجوء إلى الحرب وهو رئيس للولايات المتحدة غير منازَع، عكسَ وضعه الراهن الذي يتّسم بانتخاب رئيس جديد، وليس هنالك مَن يشكّك في رئاسته، أو أحجم عن تهنئته، غير ترامب ومؤيّديه في الحزب الجمهوري وفي الشارع، علماً أن ثمّة اختراقات وازنة في الحزب الجمهوري تطالبه بالقبول بنتائج الانتخابات، والاعتراف بفوز بايدن. هذا الأمر يعني أن اتّخاذ قرار بشنّ حرب، ضمن ما هو قائم من معادلة أميركية ودولية، سيكون ضرباً من الشذوذ الأقصى الذي لا يسمح للقرار، لو اتُّخذ من ترامب، بأن يُنفّذ، أو أن يُدعَم من موقف أميركي موحّد، أو شبه موحّد، كما هو الشرط في مسألة الحرب.

ثمّ إن حرباً أميركية على إيران تحتاج إلى موافقة شبه إجماعية من جانب مراكز القوى في الكيان الصهيوني، لأنها تتطلّب قراراً صهيونياً بالمشاركة فيها، وتَحمّل كلّ ما يترتّب عليها من نتائج، الأمر الذي ينطبق على هذا القرار ما انطبق عليه طوال السنوات الأربع الماضية، وقد حال دون اتّخاذه أميركياً - إسرائيلياً في حينه. فهل هنالك مِن متغيّر في الكيان الصهيوني يقتضي تغيير القرار السابق بعدم اللجوء إلى الحرب في معادلة موازين القوى الدولية والإقليمية، والعامة والخاصة؟

في الواقع، إن التناقض القائم بين أميركا والكيان الصهيوني من جهة، وإيران ومحور المقاومة من جهة أخرى، ومنذ السنوات الأربع الماضية على الأقلّ، لا يُحلّ إلّا بشنّ حرب ضد إيران وذلك المحور. وهذا ما حدث من جانب كلّ من أميركا والكيان الصهيوني في معالجة ما نشأ من تناقضات بينهما، مجتمعَين، أو منفردَين، مع مصر وسوريا والعراق والفلسطينيين، وقد حُلّت جميعها بالحرب طوال النصف الثاني من القرن العشرين والعشرية الأولى من القرن الواحد والعشرين، علماً أن حدّة تلك التناقضات السابقة لم تصل إلى مستوى الحدّة الراهنة مع إيران ومحور المقاومة، لأن التفوّق العسكري الصهيوني في المنطقة لم يَتهدّد من قبل كما هو مُهدّد الآن، الأمر الذي يفترض أن يُلجأ إلى الحرب ضدّه أكثر مما أوجبته التناقضات السابقة بشنّ حرب حاسمة.

أمّا السبب الذي يفسّر لماذا لم يُلجأ إلى الحرب في السنوات الماضية، خصوصاً في زمنَي ترامب ونتنياهو، وهما الأكثر «تطرّفاً» و«تشدّداً»، فهو أن الحروب السابقة كانت قصيرة وسريعة ومضمونة النتائج في كسبها، كما بأقلّ قدر من الخسائر في جبهتَي وجيشَي كلّ من أميركا والكيان الصهيوني. أمّا اليوم، فنتائج الحرب المنتصرة لم تعد قائمة، ولا سيما بعد تجربتَي حرب 2006 ضدّ حزب الله، والحرب ضد قطاع غزة (حماس والجهاد) 2008/2009، 2012، و2014. إن حجم الخسائر التي ستقع بالتأكيد في جيشَي أميركا والكيان الصهيوني، ولا سيما داخل الكيان الصهيوني، أصبحت تُحسَب بثمن قد يفوق الثمن الذي سيدفعه الطرف المقابل في حالة اندلاع الحرب، وهو ما لم يسبق أن حدث من قبل (عدا في حرب تشرين 1973 جزئياً).

وبكلمة، إن الحرب كانت ولم تزل على الأجندة الأميركية - الصهيونية بلا شكّ. ولكنها عرضة للتردّد الشديد في الإقدام عليها، وعرضة للتأجيل، والبحث عن بدائل خلال ذلك التأجيل. ولهذا، لا يستطيع ترامب، أو نتنياهو، اتخاذ قرار حرب في ظروف المعادلة الراهنة في مرحلة برزخ الشهرين المقبلين، إلّا إذا كان الخيار انتحارياً وليس مغامراً. وكلاهما أجبن من الإقدام على الانتحار السياسي.

الترجيح لا حرب، مع إبقاء احتمال ضئيل لجنون انتحاري.

وسوم: العدد 903