العرب قالت : الشعر سيد الفنون

1- العرب والاختيار الثقافي:

هذا الشعور بالاستقلال الذاتي والنفسي لدى العربي، جعله يختار الفن الذي يتناسب مع طبعه وذوقه وإدراكه للحياة، دون أي ضاغط خارجي يدفعه إلى لعبة تقليد الفنون عند غيره، أو الأخذ عنهم على طريقة الأمم الممسوخة، التي لا تصدر عن ذاتها، وتعيش عالة على ذوق غيرها.

ولهذا يعتبر الشعر فناً عربياً خالصاً في الاختيار، رأى فيه العربي مرآة نفسه، يعوضه عن جميع الفنون، ولا تعوضه جميع الفنون عنه، وفعلاً كان الذوق العربي موفقاً في اختياره الفنون الأدبية وبخاصة فن الشعر، لأن هذا الفن مميز عن كل الفنون التي عرفتها الإنسانية: 1- بيسر الأداة وسهولتها (اللغة) لكل الظروف والبيئات، 2- وإشباع الذوق الفني فيه لجميع الطبقات فهو فن ميسر للأغنياء والفقراء والمتحضر والمتخلف، يناسب البدوي المتنقل والحضري المقيم، 3- يملك من سمات الخلود والبقاء ما يجعله مستمراً أمام عوادي البيئة والزمان والحروب، يحفظه الإنسان في ذاكرته كما يحفظ اسمه 4- يجمع جميع مذاقات الفنون الأخرى داخل نسيجه، 5- وهو اقرب الفنون إلى الوعي، والفكر والحكمة، وهو الفن الوحيد الذي يعتبر بحق ضرورة من ضرورات التعبير عن النفس البشرية وسط خضم الحياة.

2- قيمة الشعر عند العرب:

وهكذا تمكن العرب عبر خبرتهم الطويلة وفي عدة قرون قبل الإسلام من إنضاج هذا الفن، حتى أصبح فنا مرموقاً له صدارة جميع الفنون عندهم، فيه تركزت العبقرية العربية التي صقلتها حياة الصحراء، فلم تجد فناً يفي بالتعبير عن غرض الحياة العربية كفن الشعر، فعوضت به نفسها عن جميع الفنون، وملكت فيه من عبقرية البيان ودقة الوصف، ما يغني عن الفنون الأخرى التي ابتدعتها الأمم لنفسها، وجعلت من الشعر ديوان العرب، فكان الشعر تاريخاً لمشاعرها وذوقها وإحساسها بالحياة، وكان الشعر الأداة التي حفظت على العرب لغتهم وعلمهم وثقافتهم ووحدتهم، اكتشفوا فيه ذواتهم وعبروا به عن مواقفهم وقيمهم وكان كما يقول عمر رضي الله عنه " كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم اصح منه ".

وأما عن احتفاء القوم وتقديرهم لفن الشعر، فحدث عن ذلك ولا حرج، فقد وصل بهم الأمر إلى كتابة المعلقات وتعليقها على جدران الكعبة، بعد أن علقت بقلوبهم وحفظها رواتهم. ولا عجب في ذلك فقد استقر هذا الفن في البيئة العربية واصبح الموجه الأساسي للذوق العام، بعد أن استقرت قواعده وأوزانه وقوافيه، وأصبحت له مقاييسه الثابتة وأعرافه الفنية السائدة. يتحاكمون إليها في أسواقهم الموسمية: عكاظ، ذي المجنة، ذي المجاز، حيث يتبارى الشعراء بعرض إنتاجهم وتتلاقح أفكارهم وتصقل مواهبهم، وتنشر بين القبائل أشعارهم، وبهذا تجذرت قيمة هذا الفن وارتفع مقامه في الذوق العربي، حتى حارت العقول والأفهام في تفسير مصادر موهبته وإلهامه فنسبوه إلى العبقرية وإلى الأشياء الخارقة.

3- الشعر والغناء والإنشاد في حياة العربي:

من الحقائق المعروفة في تاريخ العرب، أن غناء الشعر وإنشاده هو رفيق العربي في حياته وسهره وسفره، حيث كان الحادي يرافق قوافل المسافرين بصوته الجميل الأخاذ، للترويح عن المرافقين للقافلة; ولهذا جاء قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه (الغناء زادُ الراكب) لأنه يروح عن نفسه ويطرد منها الملل والتعب، ويبث فيها النشاط والحيوية والقدرة على المواصلة والإستمرار، وقد اعتبر العرب الحداة الذين يرافقون قوافل السفر والتجارة من الطاقم الإداري الذي لا يُستغني عنه، حيث كانت القافلة تحوي في داخلها (التجار والحراس والعمال والحداة والمسافرين) ويمكننا أن نطلق عليه وصفا لطيفا، هو وصف الحادي بأنه (حامل القافلة)  في السفر، لأنه يحملهم في السير تشبيها له بمن يحمل الشيء على ظهره، وفي الحقيقة هو ما حملهم على ظهره،  ولكنه وَلّـدَ فيهم من النشاط ما يدفعهم إلى سهولة حمل أنفسهم على متابعة السفر، والتحامل على متاعب الطريق، فكأنه حملهم، والمعنى فيه تشبيه وتقريب، وقد ورد ذلك في قصة المثل العربي المشهور (وافق شن طبقه); ولهذا لا نستغرب أن تكون الموسيقى حاضرة في جميع أنواع الشعر العربي قديمه وحديثه: (العمودي والتفعيلة والمرسل والرباعية والموشح) وقد وصلنا من الشعر إنتاج ما يقرب من 400 شاعر في العصر الجاهلي، فلا يعقل أن يكون (الحس الموسيقي) قد ظهر مرة واحدة، والدليل على ذلك هذا العدد الضخم من الشعراء، بل هناك مراحل تطور فيها هذا (الحس الموسيقي) فيما سبق، وتم البناء عليها. ويلاحظ أن الشعر العربي مغموس بالموسيقى الفطرية الساحرة، سواء كانت ظاهرة أو خفية. حيث كانت ترسم أحاسيس الشاعر وتجربته، وهذا يؤكد أن الشعر العربي لا يستغني عن الموسيقى والإيقاع والأنغام، ويؤكد أن الحياة محكومة بالنظام والإيقاع والغناء، ولا توجد فيها فوضى الأصوات إلا في حالات الانفلات، وفي ضجيج الصناعة وصخب الأسواق، وإذا حصل انحسار في الإحساس والإيقاع وجفاف  في المشاعر على المستوى العالمي في ثقافة العصور وآدابها، فإن شعراء الجاهلية كانوا يجهلون الموسيقى، ولكن صفاء فطرتهم دفعهم إلى تسجيل توتر مشاعرهم تجاه أحداث حياتهم في قصائدهم، فقدموا لنا 16 بحراً ووزنا شعرياً، وفي ذلك إشارة إلى أن عالم الإيقاع والموسيقى في الشعر لا ينضب، مادامت هناك قلوب تنبض متأثرة بالحياة وبما يدور من حولها، وهاهو الشاعر المخضرم الذي عاش في الجاهلية وفي الإسلام، حسان بن ثابت أمير شعراء الدعوة، رضي الله عنه يؤكد ذلك بقوله:

       (تغن بالشعر إما كنت قائله            إن الغناء لهذا الشعر مضمار)،

 ومن خلال ما سبق، يستطيع الباحث المدقق أن يرى أن العرب لم يبرعوا في صناعة الآلات الموسيقية، في جاهليتهم ولا في صدر الإسلام، وإنما ظهرت عبقرية العربي في فن الموسيقى حيث نبتت موسيقاه من داخل قلبه ومشاعره وتوترها، وبان (الحس الموسيقي) عنده من خلال فنه المفضل (فن الشعر) وما يحمل في داخله من ينابيع الموسيقى في أوزانها المتعددة، وتأكد ذلك حين تمكن عالم عبقري هو (الخليل بن أحمد الفراهيدي) من اكتشاف السجل العظيم والكنز الثمين للموسيقى العربية، وحلل رموزها وفك شيفرتها في الوزن والإيقاع من خلال علم العروض، الذي حفظ نبضات قلب العربي وموسيقى ذاته، لأنه كان يملك (أذنا موسيقية) مرهفة تحس بنغمات المحيط والحياة من حولها، وكان علم العروض هو السجل التاريخي الراصد لاستجابة هذا العربي، وذلك من خلال فن الشعر، وهذا هو مربط الفرس: (أذن موسيقية وحس مرهف) يسكب نفسه في وعاء اسمه (الشعر العربي) وتواجد في حياته على شكل مجموعة من فنون الأداء (الإنشاد والغناء والإلقاء) ، وتعلق العرب بالشعر طبع أصيل فيهم أثبته إنتاجهم الأدبي في هذا الفن الذي تفوق على جمع الفنون عندهم وأكده حديث الرسول صلى الله عليه وسلم ( لا تدع العرب الشعر حتى تدع الإبل الحنين ) ورغم ما يقوله بعض النقاد المعاصرين أن فن الرواية بدأ ينافس فن الشعر إلا أن هذا الأمر في حدود ضيقة إذا ما قسناه بشعبية الشعر عند العرب حيث تمارس كتابته وتذوقه جميع طبقات الشعب من خلال الفصحى والعاميات ونتذكر قول العقاد الذي قال ما معناه إن ما يقوله الروائي في مئات الصفحات يكثفه الشاعر في بيت من الشعر أو رباعية أو أبيات قليلة .

وسوم: العدد 895