رحلة الفرزدق مع هذا الذي تعرف البطحاء وطأته

أورد صاحب مجمع الزوائد ومنبع الفوائد (9/ 200) القصيدة التالية:

هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ ... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ

هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللَّهِ كُلِّهِمُ ... هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ

يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَان رَاحَتِهِ ... رُكْنُ الْحَطِيمِ لَدَيْهِ حِينَ يَسْتَلِمُ

إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا ... إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ

يُغْضِي حَيَاءً وَيُغضَى مِنْ مَهَابَتِهِ ... فَلَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ

فِي كَفِّهِ خَيْزُرَانٌ رِيحُهُ عَبِقُ ... بِكَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِهِ شَمَمُ

مُشْتَقَّةٌ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ نَبْعَتُهُ ... طَابَتْ عَنَاصِرُهُ وَالْخِيَمُ وَالشِّيَمُ

لَا يَسْتَطِيعُ جَوَادٌ بُعْدَ غَايَتِهِمْ ... وَلَا يُدَانِيهِمُ قَوْمٌ وَإِنْ كَرِمُوا

أَيُّ الْعَشَائِرِ لَيْسَتْ فِي رِقَابِهِمُ ... لِأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَو لهُ نِعَمُ.

رَوَاهُ الطَّبَرَانِيُّ، وَفِيهِ مَنْ لَمْ أَعْرِفْهُ.

أي ضعّف إسنادها، وهي عنده في الحسين بن علي، وليست في علي بن الحسين.

واختلفت الأقوال كثيراً حول هذه القصيدة مَنْ قائلها، وفي من قيلت عنه. والمشهور أنها للفرزدق في علي بن الحسين زين العابدين رضي الله عنهما.

ولهذه القصيدة رحلة طويلة في طولها، وفي نسبتها، وفي اختلاف أبياتها، وتعدد ممدوحيها، وشعرائها، وقضية ورودها في ديوان الفرزدق غير المحقق تحقيقاً علمياً، لا يدل على صحتها، أو على الأقل على صحتها كلها، وسأذكر تاريخ رحلة القصيدة بالتسلسل التاريخي، حيث أورد مَن تقدَّم على مَنْ تأخر، إلى آخر من ذكرها، وهو الغازي المكي الذي توفي سنة 1365 هـ.

وإن الحديث عنها سيكون على قسمين: القسم الأول فيمن نسبوها للفرزدق، وأثبتوها في كتبهم بين مقلٍّ من أبياتها أو مكثر، مع اختلافٍ في ترتيب الأبيات، وفي اختلاف ألفاظها فيما بينهم، واختلاف الممدوحين الذين وصفتهم أبيات الفرزدق.

والقسم الثاني في إثبات من شكك في القصيدة أنها للفرزدق، أو شكك في أبيات منها أنها ليست للفرزدق، بل اختلف حتى أسماء الشعراء المنسوبة لهم، وأسماء الممدوحين.

القسم الأول: من أثبت نسبتها للفرزدق

أول من أوردها كاتب مجهول في كتاب سماه: أخبار الدولة العباسية (ص: 141)، وقيل في ترجمته إنه عاش في القرن الثالث الهجري.

وأوردها الفاكهي في كتابه أخبار مكة في قديم الدهر وحديثه(2/ 159) وهو من وفيات أواخر القرن الثالث الهجري، وذكر خمسة أبيات منها، وهي:

هَذَا الَّذِي تَعْرِفُ الْبَطْحَاءُ وَطْأَتَهُ ... وَالْبَيْتُ يَعْرِفُهُ وَالْحِلُّ وَالْحَرَمُ

يَكَادُ يُمْسِكُهُ عِرْفَانَ رَاحَتِهِ ... رُكْنُ الْحَطِيمِ إِذَا مَا جَاءَ يَسْتَلِمُ

إِذَا رَأَتْهُ قُرَيْشٌ قَالَ قَائِلُهَا ... إِلَى مَكَارِمِ هَذَا يَنْتَهِي الْكَرَمُ

هَذَا ابْنُ خَيْرِ عِبَادِ اللهِ كُلِّهِمُ ... هَذَا التَّقِيُّ النَّقِيُّ الطَّاهِرُ الْعَلَمُ

أَيُّ الْقَبَائِلِ لَيْسَتْ فِي رِقَابِهِمُ ... لِأَوَّلِيَّةِ هَذَا أَوْ لَهُ النِّعَمُ

علق عليها بقوله بعد أن ذكر أنها في علي بن الحسين: وَيُقَالُ: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْفَرَزْدَقُ هَذَا: مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ.

وذكرها إبراهيم البيهقي في المحاسن والمساوئ (ص: 103) المتوفى 320 هـ. وزاد في قصتها عما هو معروف في كتب الأدب حيث جعلها في عبد الملك بن مروان، وليس في ولده هشام، وليس فيها قصة الطواف والازدحام عليه، وإنما رآه عبد الملك فسأل الفرزدق عنه، فأجابه بأبيات عدتها 14 بيتاً، ثم تابع القصة بأمور تختلف عما ورد في كل الكتب.

وأورد أبو الفرج الأصفهاني في كتابه الأغاني (15/ 316) سبعة أبيات، وفيها بيت :

من يعرفِ اللهَ يعرِفْ أوّلية ذا ..... فالدين من بيت هذا ناله الأُمُمُ

وذكرها مع قصتها المعافى بن زكريا في الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي (ص: 680).

أما القصة، فهي كما رواها أبو نعيم الأصبهاني في منتخب من كتاب الشعراء (ص: 30)، ونقلها عنه ابن الجوزي في صفة الصفوة (1/ 356): والتنوخي في المستجاد من فعلات الأجواد (ص: 24) على النحو الآتي:

عن ابن عائشة، عن أبيه قال: حج هشام بن عبد الملك قبل أن يلي الخلافة، فاجتهد أن يستلم الحجر فلم يمكنه، قال: وجاء علي بن الحسين فوقف له الناس، وتنحوا حتى استلم، فقال الناس لهشام: من هذا؟ قال: لا أعرفه.

فقال الفرزدق: لكني أعرفه، هذا علي بن الحسين.

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم

يكاد يمسكه عرفانَ راحته ... ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

إن عد أهل التقى كانوا أئمتهم ... أو قيل من خير أهل الأرض؟ قيل: هم

هذا ابن فاطمةٍ إن كنت جاهله ... بجَدِّه أنبياء الله قد خُتموا

وليس قولك: من هذا؟ بضائره ... العرب تعرف من أنكرت والعجم

يغضي حياءً ويغضى من مهابته ... ولا يكلم إلا حين يبتسم

وذكرها المرتضى الشيعي في أماليه (ص: 76)، وقال الزمخشري في ربيع الأبرار: تنسب إلى الفرزدق، مكرمة يُرجَى له بها الجنة، هي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، مدحه الفرزدق [أي مدح علي زين العابدين]، وأورد القصيدة.

وفي تاريخ دمشق لابن عساكر (41/ 400):

حدثني أبو علي حسين بن محمد بن طالب حدثني غير واحد من أهل الأدب أن علي بن الحسين حج فاستجهز الناس حياله وتشوفوا له وجعلوا يقولون من هذا من هذا، فأنشأ الفرزدق يقول، وذكرها، ونلاحظ إن إسناده فيه مجاهيل بقوله: حدثني غير واحد من أهل الأدب.

ولكنه ذكرها في موضع آخر (41/ 401) بإسناد ليس فيه مجهول الاسم مع قصة هشام بن عبد الملك.

كما ذكرها ابن المبارك في منتهى الطلب من أشعار العرب (ص: 235)، وابن الجوزي ذكرها كاملة في المنتظم في تاريخ الملوك والأمم (6/ 331).

وذكر ابن خلكان في وفيات الأعيان (6/ 95) قائلاً:

وتنسب إليه [أي إلى الفرزدق] مكرمة يرجى له بها الجنة، وهي أنه لما حج هشام بن عبد الملك في أيام أبيه، وذكر القصة وسبعة أبيات منها.

وذكر محمد أيدمر المستعصمي في الدر الفريد وبيت القصيد (1/ 93): أنها للفرزدق، كما نسبها للفرزدق أيضاً ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (4/ 8)، وذكرها النويري في نهاية الأرب في فنون الأدب (21/ 327)، والمزي في تهذيب الكمال في أسماء الرجال (20/ 400)، ولكنه حكم على روايتها بالضعف.

وَذكرها الذهبي في تاريخ الإسلام (6/ 438)، وفي سير أعلام النبلاء (7/ 449)، وقال: قَدِ اشْتَهَرَتْ قَصِيْدَةُ الفَرَزْدَقِ - وَهِيَ سَمَاعُنَا -: أَنَّ هِشَامَ بنَ عَبْدِ المَلِكِ حَجَّ قُبَيْلَ وِلاَيَتِهِ الخِلاَفَةَ، وذكر القصيدة، ثم ذكرها في موضع آخر من كتابه.

وهي عند السبكي مع القصة في طبقات الشافعية الكبرى (1/ 291)، وابن كثير في البداية والنهاية (9/ 126)، والدَّميري في حياة الحيوان الكبرى (1/ 20)، وابن حجة الحموي في كل كتبه، ومنها ثمرات الأوراق في المحاضرات (2/ 26).

كما ذكرها الهيتمي في الصواعق المحرقة على أهل الرفض والضلال والزندقة (2/ 583)، وابن العماد في شذرات الذهب في أخبار من ذهب (2/ 59)، والبغدادي في خِزانة الأدب (11/ 161)، والعصامي في سِمط النجوم العوالي في أنباء الأوائل والتوالي (3/ 332)، والغازي المكي في إفادة الأنام بذ كر أخبار بلد الله الحرام (2/ 646).

وهكذا نكاد نحس أن كثيراً من العلماء اتفقوا على أن القصيدة للفرزدق، وهي في علي بن الحسين رضي الله عنهما على الغالب، مع أن رواية الهيثمي، وغيره هي في الحسين بن علي، وليس في علي بن الحسين رضي الله عنهم جميعاً.

ونرى أن كثيرين من هؤلاء الذين أوردوها في كتبهم هي رواية تناقلها بعضهم عن بعض، دون محاولة التحقيق فيما كان يُثار حولها، مع أن الكلام حول نسبتها أو نسبة أبيات منه قديم قدم أول مُورِد لها، فالمؤلف المجهول الذي أوردها (مع جهالته) والذي كان حياً في القرن الثالث الهجري ذكر أنها للفرزدق.

ومن أوائل من ذكر أنها لغير الفرزدق أبو تمام الشاعر المشهور، وهو معروف بتحقيقه للشعر العربي، وكل كتبه ألفها في جمع أشعار العرب، وقد توفي أبو تمام في نهاية الثلث الأول من القرن الثالث الهجري، أي غالباً قبل المؤلف المجهول الذي كتبوا عنه أنه كان حياً في القرن الثالث الهجري، وهذه الملاحظة أذكرها متعجباً من أن المؤرخين الذين عُرفوا بشيء من التحقيق التاريخي مثلاً، كالإمام ابن تيمية، والإمام الذهبي، والإمام ابن كثير رحمهم الله، يذكرونها كأنها من المُسلّمات، وبعض المؤرخين بعد ذكرها يقول: تنسب إلى الفرزدق، مكرمة يُرجَى له بها الجنة، فكأنه متأكد، ولم يشك بنسبتها للفرزدق في الإمام زين العابدين، وهكذا اتفق هؤلاء على صحة نسبتها للفرزدق، وإن اختلفوا في ترتيب أبياتها، وعدد أبياتها، ومع ذلك فإن هذه الروايات باستثناء ما بدأتُ به من رواية مجمع الزوائد، وهو المصدر الحديثي الوحيد في الأمر، وليس من كتب التاريخ، ومع ذلك ذكر أن الرواية التي أوردها رواية ضعيفة، وأيّد ضعفها الإمام الحافظ المزي، حيث ذكر أنها رواية ضعيفة غير صحيحة.

ورواية هؤلاء الأعلام للقصيدة جعلها موثقة تاريخياً، وبدأ الناس يتناقلونها في كتبهم، حتى اعتبروا أن الفرزدق سينال من الله المغفرة لهذه القصيدة التي - كما توحي إشارات هؤلاء العلماء – أنها ستكون سبباً في المغفرة للشاعر الفرزدق! وأنها ستنفعه يوم القيامة؟، وأصبح من الصعب أن نشكك أو نتكلم حول القصيدة بأي كلمة توحي بضعفها أو بالتشكيك فيها، والقصيدة مع كل ذلك فيها جمال شعري يتناسب بقوة شعر الفرزدق، وقوة عارضته الشعرية، مع أن هؤلاء الذين أثبتوا صحتها للفرزدق، لم يتفقوا على عدد أبياتها، فمنهم من جعلها ستة أبيات، أو سبعة، أو أربعة عشر بيتاً، أو أكثر من ذلك حتى أوصلوها إلى سبعة وعشرين بيتاً، وأثبتها طابعو الديوان بهذا الطول دون محاولة للتحقيق لها ولا لغيرها من القصائد التي قد تحتاج إلى شيء من التحقيق، وبذلك انطمست الأصول الحقيقية – عند هؤلاء – لهذه القصيدة وطولها وترتيبها وألفاظها.

 

بعد أن استعرضت من أكدوا صحة نسبة القصيدة للفرزدق، ولكن اختلفوا بعدد أبياتها وترتيبها، أنتقل إلى من يرون أنها لغير الفرزدق، أو ليس كل أبياتها للفرزدق، فأولهم أبو تمام في ديوان الحماسة (2/ 284)، وتابعه الخطيب التبريزي في شرح ديوان الحماسة (2/ 284) يقول أبو تمام:

قال الحزين الكناني:

هَذَا الَّذِي تعرف الْبَطْحَاء وطأته ... وَالْبَيْت يعرفهُ والحل وَالْحرم

إِذا رَأَتْهُ قُرَيْش قَالَ قَائِلهَا ... إِلَى مَكَارِم هَذَا يَنْتَهِي الْكَرم

يكَاد يمسِكهُ عرفانَ رَاحَته ... ركنُ الْحطيم إِذا مَا جَاءَ يسْتَلم

أَي الْقَبَائِل لَيست فِي رقابهم ... لأولية هَذَا أَو لَهُ نعم

بكفه خيزران رِيحهَا عبق ... من كف أروع فِي عِرنينه شمم

يغضي حَيَاء ويغضى من مهابته ... فَمَا يكلم إِلَّا حِين يبتسم

ومع ذلك، ذكر الزوزني عندما شرح الحماسة نسبتها للفرزدق، مخالفاً صاحب الحماسة نفسه.

وسبق الذكر أن الفاكهي شكك بالممدوح فقال: إِنَّ الرَّجُلَ الَّذِي قَالَ فِيهِ الْفَرَزْدَقُ هَذَا هو مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ.

ويرى أبو الفرج الأصبهاني: أن الناس يروون هذين البيتين للفرزدق في أبياته التي مدح بها علي بن الحسين التي أولها:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم

وهو غلط ممن رواه، وليس هذان البيتان مما يُمدح بهما مثل علي بن الحسين؛ لأنهما من نعوت الجبابرة والملوك، وليس عليٌّ كذلك، ولا هذا من صفته، وله من الفضل المتعالم ما ليس لأحد، فمن الناس من يروي هذين البيتين لداود بن سلم في قثم بن العباس، ومنهم من يرويهما لخالد بن يزيد مولى قثم فيه، فمن رواهما لداود أو لخالد ففيها في روايته:

كم من صارخ بك من راج وراجية ... يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم

أي العمائر لست في رقابهم ... لأولية هذا أو له نعم

في كفه خيزران...

وفي موضع آخر ذكر الأصبهاني قصة هشام، وأورد القصيدة (21/ 378) أنها في علي بن الحسين.

وذكر النهشلي القيرواني خمسة أبيات للفرزدق في الممتع في صنعة الشعر (ص: 118)، فقال: وقال الفرزدق: وقيل هي لداود بن سلم في قثم بن العباس. وقيل للفرزدق في علي بن الحسين عليهما السلام.

وفي المؤتلف والمختلف في أسماء الشعراء للآمدي (ص: 222)

أن كثير بن كثير السهمي أنشد له دعبل بن علي في كتابه في محمد بن علي بن الحسين بن علي رضوان الله عليهم:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقيّ النقيّ الطاهر العلم

إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

وكاد يمسكه عرفانَ راحته ... ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم

أي أن الأبيات لكثير، وليست للفرزدق، وأنها في محمد بن علي بن الحسين، وليست في أبيه علي.

وقال ابن عبد البر في الاستيعاب (3/ 1305)

وقال الزبير [ابن بكار المؤرخ المشهور] في الشعر الذي أوله

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته % والبيت يعرفه والحل والحرم

أنه قاله بعض شعراء المدينة في قثم بن العباس، وزاد الزبير فيها، منها قوله:

كم صارخ بك مكروب وصارخة % يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم %

وقد ذكرنا في بهجة المجالس الشعر الذي أوله:

هذا الذى تعرف البطحاء وطأته

ولمن هو، والاختلاف فيه، ولا يصح أنه قثم بن العباس، وذلك شعر آخر على عروضه وقافيته، وما قاله الزبير فغير صحيح، والله أعلم.

الذي ذكر [ابن عبد البر] في بهجة المجالس وأنس المجالس (ص: 112) هذه الأبيات ولم يتمهّا، وقال الفاكهيّ :ويقال إن الرجل الذي قال فيه الفرزدق هذا هو محمد بن عليّ بن حسين ،قال: وحدثني أبو سعيد ،قال : حدثني الزبير ،قال : قيل هذا الشعر في قثم بن العباس ،قاله بعض شعراء أهل المدينة ، وزاد في الشعر بيتين أو ثلاثة.

وأما قوله في الخبر الأول : ولفاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلّم ، فإن عليّ بن عبد اللّه أمه زينب بنت علىّ بن أبي طالب، وأمّها فاطمة بنت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم ، وقول من قال : إن هذا الشّعر قيل في عليّ بن عبيد اللّه بن جعفر، أو في محمد بن علي بن حسين أصح عندي من قول من قال : إنه في عليّ بن حسين ، لأن علي بن حسين توفي سنة ثلاث أو أربع وتسعين، وهشام بن عبد الملك إنما ولي الخلافة سنة خمس ومائة ، وعاش خليفةً عشرين سنة ، وجائز أن يكون الشعر للحر بن عبد اللّه في محمد بن علي بن حسين ، وممكن أن يكون للفرزدق في محمد بن علي بن حسين بن أبي جعفر - وإن كان له في أبيه علي بن حسين - فلم يكن هشام يومئذ خليفةً كما قال أبو علي في روايته ، وأما قول الزبير [ابن بكار]: إنه قيل في قثم ابن عباس ، فليس بشيء، وإنما ذاك شعر قيل في قثم على قافية هذا الشعر، وعروضه ليس هو هذا.

إذن نرى أن ابن عبد البر شكك في الشعر، وفي الممدوح كليهما معاً.

ونقله عنه المكي الفاسي في العقد الثمين في تاريخ البلد الأمين (5/ 478)، بينما ذكرها التبريزي شرح ديوان الحماسة (2/ 284)، كما سبق ذكره.

وذكر ابن المغازلي في مناقب علي (446 هـ) ستة أبيات منها، وابن المغازلي اتهمه ابن تيمية بأنه يروي الموضوعات.

وفي الحماسة البصرية (1/ 130): وَقَالَ الفرزدق همام بن غَالب فِي على بن الْحُسَيْن بن عَليّ عَلَيْهِم السَّلَام

هَذَا الَّذِي تعرف الْبَطْحَاء وطأته ... وَالْبَيْت يعرفهُ والحل وَالْحرم

ثم أتبعه مباشرة بقوله: وَقَالَ الحزين بن وهب الْكِنَانِي (أموي) الشعر في عبد الله بن عبد الْملك، وَقيل إنَّهَا فِي قثم بن الْعَبَّاس، وأورد القصيدة مختلطة بأبيات موجودة فيما نسب للفرزدق، وبأبيات غيرها.

وفي محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني (1/ 367): وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما يطوف بالبيت فرآه يزيد [ابن عبد الملك]. فقال: من هذا؟

فقال له الحارث بن الليث:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم

ويروي ابن عساكر في تاريخ مدينة دمشق (17/ 149):

قال الزبير [ابن بكار]: وأنشدني عبد الله بن محمد بن موسى بن عمر لداود بن سلم يمدح قثم بن العباس، وأنشدني ذلك يونس بن عبد الله قال سمعته من داود بن أسلم:

كم صارخٍ بك من راج وصارخة % يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته % والبيت يعرفه والحل والحرم

يكاد يعلقه عرفانَ راحته % ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها % إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

هذا الذي لم يُضِع للملك حرمته % إن الكريم الذي يحظى به الحرم

وقال ابن منظور في لسان العرب (13/ 114): وَهُوَ الْحَزِينُ الكِنانيُّ، وَاسْمُهُ عَمْرُو بْنُ عَبْدِ وُهَيب، وَهُوَ الْقَائِلُ فِي عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبْدِ الْمَلِكِ ووفَد إِلَيْهِ إِلَى مِصْرَ وَهُوَ وَالِيهَا يمدحُه فِي أَبيات مِنْ جُمْلَتِهَا:

لمَّا وقَفْت عَلَيْهِمْ فِي الجُموع ضُحًى...وَقَدْ تَعَرَّضَتِ الحُجَّابُ والخَدَمُ

حَيَّيْتُه بسَلامٍ وَهُوَ مُرْتَفِقٌ، ... وضَجَّةُ القَوْمِ عِنْدَ الْبَابِ تَزْدَحِمُ

فِي كَفِّه خَيزُرانٌ رِيحُه عَبِق، ... فِي كَفِّ أَرْوَعَ فِي عِرْنِينِه شَمَمُ

يُغْضِي حَياءً ويُغْضَى مِنْ مَهابَتِهِ، ... فَمَا يُكَلَّمُ إلَّا حِينَ يَبْتَسِمُ

وقال ابن سيد الناس في عيون الأثر (2/ 377): وقال الزبير في الشعر الذي أوله:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته * والبيت يعرفه والحل والحرم

أنه قاله بعض شعراء المدينة في قثم بن العباس، وفي إكمال تهذيب الكمال لابن مغلطاي (9/ 298): وممن ذكر ذلك لنا محمد بن يحيى عن الغلابي عن مهدي بن سابق أن داود بن سلم قال: هذه الأربعة الأبيات في قثم بن العباس، وذكر أن الفرزدق أدخل هذه الأبيات، سوى البيت الأول في مدح علي بن الحسين.

وذكر الرياشي عن الأصمعي أن رجلاً من العرب يقال له: داود وقف لقثم فناداه:

يكاد يمسكه عرفانَ راحته ... ركنُ الحطيم إذا بها جاء يستلم

كم صارخ بك من راج وراجية ... في الناس يا قثم الخيرات يا قثم

والصحيح أنهما للحزين [الكناني]، واسمه عمرو بن عبيد بن وهب بن مالك الكناني بن عبد الله بن عبد الملك بن مروان، وكان على مصر، وقد غلط ابن عائشة في إدخاله هذين البيتين في أبيات الفرزدق، وأبيات الحزين مؤتلفة منتظمة المعاني، متشابهة تنبئ عن نفسها.

وفي الوافي بالوفيات (13/ 292): وَله [أي لداود بن سلم الأدلم المري] مدائح مستحسنة مستفيضة، لَهُ فِي قثم بن الْعَبَّاس فِيمَا ذكره الزبير بن بكار:

(كَمَا صارخٍ بك من راجٍ وصارخةٍ ... تدعوك يَا قثم الْخيرَات يَا قثم)

(هَذَا الَّذِي تعرف الْبَطْحَاء وطأته ... وَالْبَيْت يعرفهُ والحلُّ وَالْحرم)

(يكَاد يعلقه عرفانَ رَاحَته ... ركنُ الْحطيم إِذا مَا جَاءَ يسْتَلم)

(إِذا رَأَتْهُ قريشٌ قَالَ قَائِلهَا ... إِلَى مَكَارِم هَذَا يَنْتَهِي الْكَرم)

هَذَا الَّذِي لم يُضِعْ للْملك حرمته...إنّ الْكَرِيم الَّذِي يحظى بِهِ الْحرم

وأورد ذكرها في موضع آخر باسم بعض شعراء المدينة يمدح قثم بن العباس .

وذكرها العيني في المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية (1/ 41) وقال: قصيدة الفرزدق في مدح علي زين العابدين بن الحسين التي أولها...

وذكرها وقال إنها ستة وعشرون بيتًا.

وأوردها كاملة في مكان آخر في المقاصد النحوية في شرح شواهد شروح الألفية (2/ 969) وعقب عليها بقوله:

ورأيت في كتاب أولاد السراري تأليف المبرد، ونسب بعض هذه الأبيات إلى أبي دهبل حيث قال: ومما نمي إلينا عنه، أي عن زين العابدين، وبعد أن ذكر ثلاثة أبيات منها قال: فأما ما يزاد في هذا الشعر بعد هذه الأبيات فليس منها، إنما هو لداود بن سلم، يقوله في قثم بن العباس بن عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب -رضي اللَّه تعالى عنهم- وهو قوله:

يُغْضِي حَيَاءً وَيُغْضَى مِنْ مَهَابتهِ ... فَلَا يُكَلَّمُ إِلَّا حِيَن يَبتَسِمُ

في كفِّهِ خَيزرانٌ رِيحُهُ عَبِقٌ ... مِنْ كَفِّ أَرْوَعَ في عِرنِينِهِ شَمَمُ

كمْ هَاتِف بكَ مِنْ أَوْجٍ ورابيةٍ ... يَدْعُوكَ يَا قُثَمُ الخَيرَاتِ يَا قُثَمُ

وقال السخاوي في التحفة اللطيفة في تاريخ المدينة الشريفة (2/ 384)

وقال الزبير في الشعر الذي أوله:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والليث يعرفه والحل والحرم

قاله بعض شعراء المدينة في قثم وزاد أبياتًا، منها:

كم صارخ بك مكروب وصارخة ... يدعوك يا قثم الخيرات يا قثم

وذكرها الحصري القيرواني في زهر الآداب وثمر الألباب (1/ 105) وذكر تداخلها مع قصيدة دواد بن سلم، وقصيدة الحزين الكناني.

وعندما ذكرها المرزوقي في شرح ديوان الحماسة (ص: 1134)

ذكر أنها للفرزدق.

وأعجب ما رأيت في هذا ما قاله الراغب الأصفهاني في محاضرات الأدباء ومحاورات الشعراء والبلغاء (1/ 367):

وكان علي بن الحسين رضي الله عنهما يطوف بالبيت فرآه يزيد [بن عبد الملك]. فقال: من هذا؟ فقال له الحارث بن الليث:

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحلّ والحرم

وهي للحزين الكناني في مجاني الأدب في حدائق العرب ليعقوب شيخو (4/ 192)، وفي مكان آخر للفرزدق في مجاني الأدب في حدائق العرب (6/ 254) أيضاً.

والقصيدة موجودة في طبعات الدواوين الأخرى التي اطلعت عليها، وكلها ليست طبعات محققة، وقد ذكر الدكتور شاكر الفحام في كتابه الفرزدق قصة هذه القصيدة، وأن الثابت منها ستة أبيات، بعد أن أورد قصة هشام بن عبد الملك، وكان شاباً حدثاً لم يبلغ العشرين من العمر، بينما كان علي بن الحسين فوق الخمسين، فلم يهتم هشام بالإمام زين العابدين، فانتدب الفرزدق للتعريف به، وأنشد أبياته الستة فيه، ويقول الدكتور الفحام، ويبدو أن الرواة خلطوا بعد ذلك عمدًا، أو عن غير عمد بين أبيات الفرزدق وأبيات أخرى لشعراء آخرين، ثم ربطوا بين واقعة الفرزدق وحجة هشام عام 106 هـ، واخترعوا قصة حول موقف الفرزدق من هشام، واهتم الدكتور الفحام في القصة والأبيات، ولاحق مَنِ افتعلوا الخلط والتزوير، حتى قال: وقد عُني الشيعة بالقصيدة عناية خاصة، وطالت على الزمن أبياتها، وتناقلتها كتب السنة والشيعة على السواء وأشادت بها ...

وينفي الدكتور الفحام تهمة التشيع التي أصابت الفرزدق من جراء هذه القصيدة، وأنه لم يكن من هذا في شيء، فهو من قوم كلهم كانوا مع عثمان بن عفان حتى سموا بالعثمانية، وكان من أهل البصرة الذين كانوا عثمانية، ولم يكونوا من الشيعة، وكانوا يدافعون عن حق بني أمية في الخلافة... بل أكاد أقول [أي الدكتور الفحام]: إن الفرزدق بالغ في رفع أقدار الأمويين مبالغة لا أجدها لشاعر أموي آخر، وفرط في الثناء عليهم، وكان، وهو يمدحهم، يكاد يضفي عليهم صفات الأنبياء والرسل الذين اختارهم الله لتبليغ رسالته، ثم يذكر كيف مدح سليمان بن عبد الملك، وكيف علت عنده منزلته، حتى قال عنه:

ولولا سليمان الخليفة حلَّقت... بهم من يد الحجاج عنقاء مغرب

وهجا الحجاج الذي كان يكرهه سليمان بن عبد الملك، ومدح المهالبة (أولاد المهلب بن أبي صفرة) لأنهم ولاة سليمان بعد الحجاج، ثم مدح يزيد بن عبد الملك ...، وهذا يُكذِّب ما روي عن تشيع الفرزدق وكيف أنه عوقب من قبل هشام بن عبد الملك، فاخترعوا له قصة طويلة تناقلها المؤرخون يتبع بعضهم بعضاً، دون تحقيق أو تمحيص.

إذن نستطيع القول إن الفرزدق مدح زين العابدين مديح تعريف به لأمير شاب دون العشرين، وليس الخليفة، لا مديح تقديس، أو انتماء لمذهب أو نحلة أو طائفة.

فالقصة إذن عندما ذهب هشام بن عبد الملك وكان أميراً ابن خليفة، وأخا خليفة، ذهب إلى الحج، ومن الطبيعي أن شاباً صغيراً لم يبلغ العشرين من العمر، ألا يعرفه الناس، وهو لا يعرف الناس، ولو كان ابن خليفة كبير كعبد الملك بن مروان، وهذا الفتى هو هشام بن عبد الملك بن مروان، فلا يهتم الناس بوجوده بينهم، فهو ليس معروفاً، وهذا أيضاً يدل على أن بني أمية لم يكونوا ملوكاً وأمراء يسيرون بين الناس بطقوس الأكاسرة أو القياصرة، يتقدمهم الخدم والحشم، والحرس بين أيديهم يدفعون الناس عنهم، بل كان التواضع هو ديدنهم، فالحادثة لصالح بني أمية الذين ما زالوا يُتهمون عند المؤرخين، وكثيرٍ من أغبياء التاريخ والناس، أنهم كانوا ملوكًا، وطغاة، فنرى كيف يسير ابن الخليفة، وأخو الخليفة بين الناس، ويطوف في الحج، ولا ينتبه لطوافه أحد، فهو واحد من الناس، وليس من سكان المدينة أو مكة، بل هو مقيم في دمشق، بينما علي زين العابدين رحمه الله كان معروفاً بين سكان المدينتين المقدستين، فهو يزورهما كثيراً، ويتنقل بينهما، وهو مشهور بالعلم والإحسان، والإطعام، والعبادة، وهذا يدل على أن الناس كانوا يحبون الكرام والعلماء والعبّاد، وأما الحكام عندهم، فكانوا موظفين لخدمتهم، كما خاطب أحدهم سيدنا معاوية بن أبي سفيان رضي الله عنه وعن أبيه بالسلام عليه بالأجير، فأقره معاوية بأنه أجير عند الأمة، مطلوب منه أن يؤمِّن لها الأمن والأمان والطعام والرفاه، فهو خادم الأمة لا سيدها.

والأبيات التي نرجح أنها للفرزدق في سيدنا علي زين العابدين رحمه الله هي:

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته ... والبيت يعرفه والحل والحرم

يكاد يمسكه عرفانَ راحته ... ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم

إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهلَه ... بجَدِّه أنبياء الله قد ختموا

يغضي حياءً ويُغضَى من مهابته ... فلا يكلم إلا حين يبتسم

وتداخل بعض أبيات هذه القصيدة مع غيرها من القصائد هو من عمل الرواة والنساخ الذين لم يكونوا من العلماء، أو من رواة الأدب والشعر، فيخلطون بين القصائد الموحدة الوزن والقافية، أو حتى في بعض الأحيان، لا يفرقون بين أوزان القصيدة، فتشدهم وحدة القافية، ويخلطون الشعر بعضه ببعض، وفي بعض الأحيان يأخذ الشاعر نفسُه بيتاً من شعر غيره، أو أكثر؛ لأنه وجده جاهز المعنى، والتركيب لما يريد، ومن أمثلة ذلك ما نقله أستاذنا العلامة أحمد راتب النفاخ رحمه الله في تحقيق ديوان ابن الدمينة عن ابن سلام رحمه الله في [طبقات فحول الشعراء (2/ 554]: «قال ذو الرمة يوماً: لقد قلت أبياتاً إن لها لعروضاً, وإن لها لمراداً، ومعنى بعيداً, قال الفرزدق: وما قلتَ؟ قال: قلتُ:

أحين أعاذت بي تميم نساءها   ....................... الأبيات

[وهي في ديوان الفرزدق (1/ 289) بتعليق إيليا حاوي، والأبيات أيضاً في ديوان ذي الرمة (ص 70) قدم للديوان أحمد حسن بسبح).

فقال له الفرزدق: لا تعودَّن فيها, فأنا أحقُّ بها منك! قال: والله لا أعود فيها، ولا أنشدها أبداً إلا لك! فهي في قصيدة الفرزدق».

ولذلك سأنتقل مباشرة إلى التعليق على الأبيات الستة التي أرى أنها للفرزدق، وقيلت في علي بن الحسين، أو في أبيه رضي الله عنهما.

هذا ابن خير عباد الله كلهم ... هذا التقي النقي الطاهر العلم

نلحظ أن القصيدة تبدأ باسم الإشارة (هذا) في بيتها الأول، وتكررت (هذا) في الشطر الثاني من البيت، وتكررت في الشطر الأول من البيت الثاني،

فالتعريف بتقديم اسم الإشارة له وظائف كثيرة، ونرى هنا أثر التعريف باسم الإشارة ما يقولون عنه: تمام العناية، وكمال التمييز، تمييز المتحدَّثِ عنه أكمل تمييز يُحْضِرُهُ في ذهْنِ المتلَقِّي، مبالغةً فِي تعيينه، وقد يحسُنُ هذا في الإِطراء، أو في الهجاء، ومعلومٌ أنّ من طبيعة دلالة اسم الإِشارة تحديدَ المشار إليه تحديداً ظاهراً متميّزاً عن غيره.

وإنْ تكرر اسم الإشارة في هذه الأبيات كما ترى، يُبقي الأبياتَ محتفظة بقوتها وتأثيرها، والتكرار أسلوب حذر لا يسلم من عثراته إلا صادق الموهبة، واسم الإشارة، كما يقول علي بن عبد العزيز الجرجاني، ضعيف في صنعة الشعر، أي أنه ليس من الكلمات الشعرية لطبيعة دلالته المحددة، والتي لا تنقاد بسهولة للتلوين والتظليل، أقول: إن هذه الأبيات مع هذا، وذاك لها قوتها وتأثيرها، واسم الإشارة في كل موقع من مواقعه يميز المشار إليه أكمل تمييز؛ لتضاف إليه هذه الأوصاف العظام، ويزيد الإشارة هنا قوة أن هناك من يتجاهله، فكأن الشاعر يعارض هذا التجاهل بهذا الفيض من الإشارات التي تؤكد ذيوع مناقبه، ومعالم مآثره. فالفرزدق يكرّر ذكر المسند إليه (هذا) إشارة إلى أن المخاطب لا تكفيه القرينة، ولا يفهم إلّا بالتصريح الواضح الصريح.

ولذلك يشير إلى أصل هذا السيد العظيم أنه ابن خير عباد الله، كل عباد الله، فهو ابن سيد الخلق، سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، ومحمد صلى الله عليه وسلم هو خير البشر قاطبة، فهذا السيد العظيم ابن أعظم سيد في هذا الوجود، وهو يملك صفات مكتسبة، غير الصفات التي ورثها من أصوله، فهو امتاز بالتقوى والنقاء، فهو تحيط به الطهارة من كل جانب، حتى جعلته علَماً، والعلَم: سيد القوم، والعلم في الأصل هو الجبل العظيم المرتفع، فهذا السيد العظيم علم من أعلام هذه الأمة، وعظيم من عظمائها، وجبل كم جبالها الشماء الراسخة، تحيط به العظمة والطهارة والنقاء والصفاء من كل الجوانب.

هذا الذي تعرف البطحاء وطأته... والبيت يعرفه والحل والحرم

فهذا السيد العظيم، الذي دائمًا يشير إليه الشاعر بأنه هذا الرجل الذي تعرفونه، ويعرفه كل البشر حوله، ليس من يعرفه الناس فقط، بل حتى الأرض التي يمشي عليها تعرفه، فهذه بطحاء مكة، والبطحاء: أرض مكة المنبطحة، تعرفه، وتعرف خطوه وأقدامه عندما يطؤها، ويسير عليها، فالبطحاء تعرف وطأته من بين وطآت الناس كلهم إذا مشوا عليها، أو فيها، وليس فقط تعرفه الأرض، بل يعرفه البيت الحرام، والكعبة المعظمة العظيمة تعرفه إذا أتى إليها، وعظمها، فالبيت الحرام هنا يعرف هذا السيد العظيم، وليس يعرفه البيت الحرام والكعبة المشرفة فقط، بل يعرفه أيضاً أرض الحِلِّ، بالكسر: وهي ما جاوز الحرم من الأرض، خَارج الْمَوَاقِيت من الْبِلَاد، فكل الأرض ما بعد الحرم، هي الحِل، فكأنه يشير إلى أن هذا الرجل العظيم تعرفه جميع جوانب الأرض: حلِّها وحرمها، فَالْحرم مَا بَين الْمَوَاقِيت الْمَعْرُوفَة؛ ولا يحل انتهاكها بالمعاصي، وأراد بهما أهل الحل والحرم، وكل الدنيا فهي إما حل، وإما حرم، فكلهم يعرفون هذا العلم الكبير العظيم.

ثم يقول الفرزدق:

يكاد يمسكه عرفانَ راحته ... ركنُ الحطيم إذا ما جاء يستلم

راحته: يده، والحطيم: الجدار الّذي عليه ميزاب الكعبة، ويستلم: أَي يلمس الحجر الأسود، وَالْمعْنَى يكَاد يمسِكهُ ركنُ الْحطيم لأجل معرفة رَاحَته، إِذا جَاءَ يلمس الْحجر الْأسود، ولأن ركن الحطيم من مجرد مد يد هذا السيد العظيم ليلمس الجدار الذي عليه ميزاب الكعبة، فيعرف راحته، فإذا به تهزه الأريحية العظيمة التي تدفع بالعمل الصالح والعظيم، فيكاد يمسكه هذا الركن العظيم (الحطيم) لا يريد أن يفلته لبركة يده؛ فيصفه هنا بالشهرة ونهاية الكرم، وطيب المولد والمنشأ في بيت النبوة، حتى كاد الحجر الأسود يمسكه حبًا له، لمّا عرفه؛ لأنه ابن الرسول صلى الله عليه وسلم، الذي شرفت به هذه المواضع، فهي عارفة به، وإذا جاء إلى المستلَم (الحطيم] فيكاد يتمسك به هذا الركن لأنه يميز راحته ويده عن راحة غيرهـ، وأصل يستلم: يتناول الحجر باليد، أو بالقُبلة، أو مسحه بالكف، فكأنه من السلام، فإذا بالحجر يكاد يتمسك به، وتأمل قوله: يكاد يمسكه عرفانَ راحته ركن الحطيم، فإنه من القول النادر، وقد بلغ فيه الفرزدق غاية ما يبلغه شاعر بكلمة، فركن الخطيم له شعور ومشاعر فكأنه بشر حي، يتأثر بالجمال والطهارة والبركة، فيكاد يقبض على هذه اليد الكريمة شوقاً إليها، وتقديرًا لعوارفها، فكيف تُنكر أو تُجهل؟

ثم قال:

إذا رأته قريش قال قائلها ... إلى مكارم هذا ينتهي الكرم

إن قريشاً هي قبيلة النبي العظيم، وسيدة قبائل العرب، ولذلك إذا ظهر في مكة، أو في أماكن وجود القرشيين، إذا ما ظهر فيها هذا العَلَم العظيم الذي وصل ما وصل إليه عند الأمة والناس، فإن قريشاً لها رأي عظيم كبير في هذا القرشي العظيم، فإن المكارم التي يعرفها بنو آدم كلهم، ويتفقون على مفاهيمها، ويعلمون إلى أين يكون منتهاها، ومنتهاها هو عند الأنبياء، وأتباع الأنبياء الكرام العظام الذين لا يتركون سنن الأنبياء، فإذا رأت قريش هذا السيد العظيم صاحبَ المكارم، فيصيحون بصوت جلي واضح إِلَى مَكَارِم هَذَا الكريم تنتهي المكارم، فإذا ارتقت المكارم، وارتفعت واستطالت حتى بلغت غايها ونهايتها، تكون قد وصلت إلى درجة مكارم هذا السيد العظيم، فتقف المكارم عند هذا الرجل، لأنها الغاية السامية، والمرتبة التي لا متجاوز منها إلى ما هو أعلى، والمعنى أن أي كريم إذا انتهى إلى درجة مكارم هذا العَلَم العظيم، وقفت في أعلى غاياتها وقممها عنده، وقد لا يصلها غيره، وهي الغاية السامية، والمرتبة التي لا متجاوز منها إلى ما هو أعلى.

هذا ابن فاطمة إن كنت جاهلَه ... بجَدِّه أنبياء الله قد خُتموا

يعود الرجل إلى تمييز هذا السيد العظيم، وتمييزه له بالأخلاق التي وصفها سابقاً، وهي أمور مكتسبة بجده وأعماله وأفكاره، وتقواه، والآن يتكلم وبأوضح مما سبق في ما اكتسبه من أصول شريفة، فيخاطب مستمعيه بتعريف وتمييز رائع، فهذا السيد هو ابن فاطمة، وفاطمة هي قطعة من النبي، يريب النبي صلى الله عليه وسلم ما يريبها، ويؤذيه ما يؤذيها، فهذا السيد العظيم ابن هذه الشريفة الحسيبة الحبيبة لقلب أبيها صلى الله عليه وسلم، فليس من الممكن أن يجهلها أحد، ومن يتجاهلها فهو ناقص في دينه وعقله وتفكيره، فهو الجهل بعينه، والمقصود من فاطمة ليس هي فقط، وإنما المقصود هو أبوها صلى الله عليه وسلم، وهو جد هذا السيد العظيم، وميزة هذا الجد العظيم أنه أعظم خلق الله، فهو خاتم جميع أنبياء الله، وأعظمهم وأكرمهم، فهذا هو النسب العظيم الكريم الذي يفخر به هذا السيد العظيم الكريم.

ثم يتابع الشاعر أبياته الرائعة فيقول:

يغضي حياءً ويغضى من مهابته ... فلا يكلَّم إلا حين يبتسم

يغضي أَي يدني أجفانه، مَعْنَاهُ أَنه كثير الْحيَاء، ومهيب عِنْد النَّاس، فلَا يكلمونه إِلَّا فِي وَقت ابتسامه، فهو يغضي حياء، أي لحيائه يغضّ طرفه، فهو في ملكته وسجاياه، وكالمنخزل له، والمعروف به، والذي لا ينفك عنه الحياء، وهذا من أجمل ما يتصف به الناس، حتى جعله النبي صلى الله عليه وسلم خيراً كله، ولا يأتي إلا بخير، فهو سجية له، ولا تنفك عنه، ويفرض الحياءَ على من يعاشرونه، أو يعاشرهم، فيُغضَى من مهابته، أي ويغضى منه مهابة له، كأنه قال: ويغضي الإغضاء من مهابته، والدال على الإغضاء يغضى، والإغضاء: هو تقارب بين جفني العين حتى يقربا من الانطباق، مهابته: هيبته وجلاله، يبتسم، الابتسامة: أول الضحك، فيغضي يعود على زين العابدين من الحياء، ويغمض الناس جفونهم أمامه من هيبته، وجلاله، فلا يكلمه أحد إلا حين يبتسم، ليهدئ من روعه، فهو محتشم شديد الحياء، يكاد يطبق جفنيه أمام محدثه، يصفه باستعمال الطيب، وفرط الحياء، وغاية إجلال الناس إياه، فهيبته تفرض على من يقابله أو يكلمه، فيقفون أمامه خاشعين منصتين، متهيبين سبقه بالكلام، وإذا ما ظهرت تباشيره وأسارير وجهه بابتسامة فتعطي الإذن لمن يحضره بأن يكلمه ويطلب منه ما يريد، أو يتكلم بحاجته، فهو من المشهورين بما كانوا يقومون به من كرم وإطعام، وإعانات، ويقول بعض المؤرخين إن كثيراً من عائلات أهل المدينة كان يأتيهم طعامهم وأرزاقهم من غير علمٍ بصاحب هذه الأرزاق، حتى توفي زين العابدين رحمه الله، فانقطعت الأعطيات والإعانات عنهم، فعلموا أن زين العابدين هو الذي كان يتفقدهم، ويقدم لهم العون والإعانة رحمه الله.

وسوم: العدد 951