دلالة جفرا في ديوان عز الدين المناصرة

د. عمر عبد الهادي عتيق

[email protected]

مشرف أكاديمي في جامعة القدس المفتوحة

فلسطين جنين

جفرا ظاهرة عشق أزلي ، تضرب جذورها في نخاع الأرض ، فنسمع مناغاة بين جفرا وذرات التراب، وتغدو الأرض  والإنسان  كيانا منصهرا في علاقة عشق لا تنتهي ، وتنبثق من جذورها سنديانة الثورة فتنشأ بين جفرا والثورة  علاقة مصاهرة تنجب أجيالا لا تعرف سوى عشق الوطن وحب التحرر ، ويتفرع من السنديانة أغصان قزحية ؛ خضراء أنثوية بلون العشق ، وحمراء دموية بلون الشهادة ، وبيضاء ناصعة بنكهة السلام والسكينة ، وسوداء حالكة كحنظل القهر والنفي ، وفيها ألوان أخرى تثير شهوة المتلقي فيشكل منها الوشاح الذي يعشقه ، أو يرى فيها النسيج الذي يخنقه !!!!!

لم تعد ( جفرا ) جذورا للزجل الشعبي الفلسطيني فحسب ، فقد خرجت من الرحم الفلسطيني الى رحاب العالم اللامتناهي ،وأضحت أغنية ورمزا وشعارا وأيقونة ، تتجسد بها إنسانية الإنسان وطموحاته وأحلامه ، لقد أضحت ( جفرا ) لغة تتجاوز العرق والجغرافيا والفلكلور ، وشيفرة لكل المعذبين في الأرض ، ومنارة للرافضين الساخطين ، وناموسا لخارطة العالم المنتظر ، إنها (محرك بحث ) في عصر التقنية ، يمنحنا ما نشاء من القيم والمثل والأصالة والمصداقية والتحضر ، يهبنا صفحات تاريخ صادق غير مزور ، صفحات ناصحة البياض ، نكتب فيها التاريخ الذي لم يُكتب بعد ، ونعيد صياغة التاريخ المزور .

جفرا هي المأذون الشرعي الوحيد  الذي يعقد قران عشق الإنسان بالأرض ، جفرا هي اندغام الوجدان بنكهة التراب ، وهي الوطن السليب ، والوطن المسجى في المزاد العلني ، والوطن الطاهر البكر الخالص من أوزار أبنائه . قل ما شئت عن جفرا ولكن لا تقل إنها مجرد أغنية شعبية .

دلالات جفرا من زئبق ، كلما امسكنا بدلالة  انفلتت منا عناقيد دلالية . هل هي الوطن والثورة والأرض والمرأة ؟ هي كل ذلك وأكثر . جفرا رمز عنقودي  يسكن وجدان الإنسان . مَنْ منا ليس فيه جينات من جفرا ؟ من منا لا تنبض مسامات وجدانه عشقا وفرحا لجفرا ؟ ولهذا ليس غريبا أن نسمع صدى التحدي ونتذوق نكهة العنفوان في قول الشاعر :

من لم يعرف جفرا .. فليدفن رأسه

من لم يعشق جفرا ... فليشنق نفسه

فليشرب كأس السم الهاري

.....

جفرا – من لم يعشق جفرا

فليدفن هذا الرأس الأخضر في الرمضاء

.....

من يشرب قهوته في الفجر ، وينسى جفرا

فليدفن رأسه

....

من يأوي لفراش حبيبته حتى ينسى الجفرا

فليشنق نفسه

إن تكرار أسلوب الشرط (من لم يعرف جفرا من لم يعشق جفرا من يشرب قهوته في الفجر من يأوي لفراش حبيبته ... ) يخلق علاقة جدلية بين دلالتي فعل الشرط وجوابه ؛ فلا معرفة ولا عشق إلا بحضور جفرا ، فمن لا يعرف جفرا تائه في صحاري الجهل ، ولا نكهة لقهوة الصباح ولا لذة في الفراش إلا في رحاب جفرا .

ومن لا يعشق إشراقات جفرا غارق في غياهب الكراهية والحقد ، فجفرا هي أيقونة الفكر والعشق . ولا طقوس في معابد الحياة مهما صغرت أو عظمت  إلا بحضور جفرا .

وجفرا وشم أبدي يعانق مساماته ويلون جلده :

علّمتك بالحبر الصيني

ورسمتك قبرة

فوق ذراع أسير بدوي مقروح

 والحبر الصيني ( الوشم ) في ثقافة الحب الشعبية سيمياء العشق والذكرى ، ودلالة جمال وأنوثة ، إذ يظهر الوشم حرفا و كلمة وشكلا وصورة ، ولا يتم اختيار الوشم إلا إذا كان غنيا بالدلالات والإيحاءات ، واختيار صورة القبرة  لجفرا  يعود لعلاقة الإنسان بالأرض ، فالقبر طائر يتخذ تراب الأرض عشا له ، فهو يلتصق بالتراب كما يلتصق وجدان الإنسان بالوطن .

وجفرا ماء الحياة وخيراتها :

يا جفرا النبع ويا جفرا القمح

ويا جفرا الطيون ، ويا جفرا

الزيتون ، السَرّيس، الصفصاف

تشرق جفرا في هذا السياق لوحة خضراء مزركشة ، وأسماء النباتات ليست معجما زراعيا ، بل هي رموز معجمية وطنية وجدانية حينما تكون الشجرة والنبتة  أيقونة تؤنس وحشة الوجدان ، وتسطع في فضاء الذاكرة وتغدو معلما وطنيا  وعبقا للتراث .  

وتتجلى دلالة جفرا في ديوان المناصرة في صورتين ؛ الأولى : صورة رمزية مركبة عنقودية كما في قوله :

جفرا ، الوطن المسبي

الزهرة ، والطلقة ، والعاصفة الحمراء

جفرا- ان لم يعرف جفرا ، من لم يعرف

غابة بلوط ورفيف حمام ... وقصائد للفقراء

جفرا – من لم يعشق جفرا

فليدفن هذا الرأس الأخضر في الرمضاء

لجفرا في هذا المقطع خاصية الامتصاص والإشباع ؛ فهي تمتص أريج عشق الوطن المسبي ، ورحيق الحب في الزهرة ، ،و صدى التحرر والخلاص في أزيز الطلقة ، وهبوب العاصفة .... وتمنح إحساسا بالإشباع لمن يبحث عن مفردات حب الوطن في معاجم المنافي والغربة .

والثانية صورة رمزية مفردة مباشرة تتوزع على مستويات عديدة ، إذ تبدو جفرا بعدا أنثويا ينصهر مع الوطن ، تمتطي صهوة العشق ، وتلوّح برايات النشوة ، وتبشر بالخصوبة والحيوية والديمومة ، كما في قوله :

جفرا أذكرها ، تلحق بالباص القروي

جفرا أذكرها طالبة في جامعة العشاق

.....

لثوبك هذا المطرز ، أركع ، قلت : دوالي الخليل

على صدرها آية في الصدور

وطالبة كنت في الجامعة

تقرئين الدروس على الورد كي تسمع النجمة الوادعة

تذبحين جيوشا بفتنتك الرائعة

يلامس الشاعر في هذا السياق جسد الذاكرة ، فينتفض الجسد فتاة في ربيع العمر في زيها المدرسي ، وهذه الملامسة تتجاوز خصوصية الشاعر وذكرياته حينما كان في مسقط رأسه ( بني نعيم )، لتشعل جمر عشق الصبا في وجدان الإنسان ،فيغدو لكل منا (جفراه )في براعم صباه ،فهي هنا رمز لأيقونة عشق الصبا التي تضيء رحاب الذكريات في الوجدان الإنساني .

وتتحول جفرا الفتاة الأيقونة إلى رمز للوطن المشتهى الذي تنبعث منه نكهة الأرض التي لا تقاوم ، ويغري الشاعر البعيد قصرا بزيارة الوطن المشتهى ، ولكنها زيارة طيف وخيال ، تتعانق فيها الروح مع مسارح الذكريات ، ومعالم الأمكنة ... في قصيدة ( جفرا... لا تؤاخذينا ) : 

ليلا... آتيك كقبلة

ليلا ... أغويك كنجمة

ليلا ... تجرحني ذكراك الدموية

ليلا ... أبكيك فيمنعني غضب المجروح

ليلا ... في حلمي أسري نحو كرومك

ليلا ... أسري نحو شعابك

يا خضراء الروح

إن تكرار السياق الزمني ( ليلا ) في مستهل السطور يمنح ظلالا نفسية لحزمة المعاني الرمزية التي تطفو فوق السطور حينا وتختبئ في علامة الحذف ( ... ) وبين السطور أحيانا أخرى ؛ فالليل غلاف للقاء العاشقين ، سواء كان العاشقان الشاعر والأرض أو الشاعر وجفرا ، ويتخذ الشاعر العاشق المنفي عن أرضه الحبيبة من الليل ساترا عن عيون الأعداء المتربصين فيأتي أرضه الجفراوية فدائيا ... 

وحينما ترتعش جفون الوجود و تنام الكائنات تستيقظ الذكرى التي لا تنام لأن الليل مبضع في جسد الذكريات .... والليل يغري بالبكاء الذي يتلاشى في عنفوان الكبرياء... والليل مسرى للأمكنة الممنوعة بالقهر والمحظورة بالقمع ، كإسراء الشاعر نحو كروم الخليل وشعاب الوطن . فالليل مساحة  رمزية زمنية لممارسة الحب الممنوع في زمن يفتك بعشاق الأرض ومحبي إنسانية الإنسان . لقد أصبح الليل في ثقافة الحب ملاذا لكل الذين تلاحقهم سياط القهر والقمع .

ويبرم الشاعر عهد العودة للوطن مع جفرا في قوله :

أذكر سمرتك الحنطية يا جفرا

إن مررت بأعالي الدير فوشوشيه

ولا تغازلي ، عين السلطان ... حتى نعود

يكشف اختيار المكان الجفراوي عن ارتباط وجداني ووعي تاريخي وثقافة جغرافية ؛ فبين دير القرنطل (القرنتل ) وعين السلطان في منطقة أريحا طريق لا يعرفه سوى من وطأ تلك الأرض بل من عشق شعابها وجبالها ، واختيار هذين المكانين ؛ الدير وعين السلطان دون غيرهما في سياق المكان الجفراوي يعزز التلاحم بين العناقيد الدلالية للفضاء الجفراوي والفضاء الكنعاني ؛ إذ إن دير القرنطل المنحوت في صخر الجبل كالحارس على ممتلكات كنعان يشكل معلما تاريخيا مائزا ، وعين السلطان من أقدم الأماكن الكنعانية في أريحا  التي تقف شاهدا حاضرا على الأرث الكنعاني ، ولهذا فإن  الدلالة الرمزية لجفرا في سياق هذين المكانين تنصهر مع الدلالة الرمزية  لكنعان إلى درجة التوحد . وهو انصهار وجداني حرص الشاعر على تصويره من خلال الصورة اللونية ( سمرتك الحنطية ) ، والصورة الصوتية الهمسية ( وشوشيه ) والغزلية التي تكمن في قوله : (ولا تغازلي ، عين السلطان ... حتى نعود) وفي هذا القول إبرام عهد بين الشاعر وجفرا للعودة إلى الوطن .

وحينما ينفجر بركان حنين العودة إلى الوطن تقفز جفرا من مهاد الوجدان لتفترش مهاد الوطن في قوله :

تهدل شعرك فوق الجبين ، ارتميتِ

تبوسين دالية في سماء الخليل

أقول لجفرا حلمت بأنك قافلة من سراب

ستكتشفين أن القبور تثور

إنها العودة التي ينتظرها الشاعر ، العودة التي تنبض في ثوابت فكره ، وليست تلك ( العودة ) في ظلال حراب الأعداء!!

ويستمد من التراث كناية عشق لجفرا في قوله :

منديلك في جيبي تذكار

لم ارفع صارية ، إلا قلت : فدى جفرا

الاحتفاظ بمنديل المحبوبة في حال السفر وفق الموروث الشعبي رمز وكناية عن وفاء العاشق ، يلمسه ويتحسسه بأنامله المرتعشة فيتدفق سيل الحنين لجفرا الوطن، وهذا المنديل الذي أضحى قطعة من جفرا الوطن يلازم الشاعر العاشق في حله وترحاله ، في البر والبحر ، وبين المنديل والصارية علاقة فنية تكمن في بنية دلالية عميقة ، إذ لا صارية بلا شراع ، والمنديل هنا شراع الصارية حيث يبحر العاشق من منفى إلى آخر وعيناه تعانقان جفرا الوطن .

وجفرا زاد روحاني في مواجهة جوع المنفى في قوله  :

سأرتب عادتي

وفق تقاليد المنفى

لكن ... سأطعم أطفالي بأغاني الجفرا وظريف الطول

لا بأس أن نتعايش مع السياق الثقافي والاجتماعي للمنفى من حيث المراعاة والاحترام ، ولكن حذار من الذوبان في محلول ثقافة الآخر ... وتظهر جفرا هنا  أغنية شعبية تختزل خبز التراث وملح الأرض ، ومصلا للهوية الوطنية ، ونشيدا وجدانيا يناجي طيف الوطن البعيد القريب ،  ودلالات ورموز تنساب في شعاب الوجدان ، إنها الحضن الدافئ في صقيع الغربة . وحصن منيع يحمي من عدوى التلاشي والاغتراب .

وجفرا لوحة فنية تشع منها أطياف العروبة في قوله : 

لا يهمني .. يا جفرا

ان كان قلبك من أرجوان صور

او كان من زجاج الخليل الملون

او كان قرميدا في اللاذقية

او رمالا نشكلها في زجاجة وادي الأنباط

لا تقتصر وظيفة اللوحة على جمال الإشراقات اللونية في الأرجوان والزجاج والقرميد ...  فالبعد اللوني يشع رموزا قومية وثقافية ، إذ إن أرجوان مدينة صور رمز للفينيقيين الذين اكتشفوا الأرجوان وسكنوا صور ، ولا يخفى أن الفينيقيين كنعانيون ... وبهذا يتقاطع أرجوان صور مع زجاج الخليل في بنيته الدلالية الكنعانية ، وكذلك مع قرميد اللاذقية . وأما الزجاج الرملي في وادي الأنباط البتراء فهو رمز للحضارة النبطية العربية .

 وجفرا في هذا الإشعاع اللوني أيقونات حضارية يتغنى بها الشاعر العاشق لتاريخه وحضارته ، وقد تجسد هذا العشق في اختيار الألوان ذات البريق الدلالي القومي .