الطلياني.. عقوبة للقارئ وجريمة للبوكر

حماقتي لا تغتفر حين اتخذت قرارا بخوض تجربة "قراءة" في روايات "البوكر" المرشحة للجائزة القصيرة، واخترت – لا على التعيين – ثلاثة منها، كانت "الطلياني" ومن سوء حظي إحداها..

القراءة أنهيتها قبل ترشيح الفائز في البوكر، ولكن الاستنزاف الذي سببته لي هذه الرواية، جعلني أعزف لوقت طويل عن نشرها، وفكرت.. هل أرمي هذه الأوراق الست التي كلفتني من الوقت والجهد أسبوعين؟ ولكني أشفقت على نفسي من هذا الجهاد الفكري، وأخيرا قررت أن أضع مستطاعي عن رؤيتي تجاه هذا العمل.

وهي رؤية بالطبع ويحق لاثنان أن يختلفا عليها، فالأدب عالم واسع وحر وجدلي، وروعته تكمن في اختلاف وجهات النظر فيه.

الرواية للدكتور شكري المبخوت، هو ليس الكتاب الأول له ولكنه العمل الروائي الأول، وعلنا نعذره في أنها تجربته الأولى..

منذ مدخل الرواية، التي ترصد جنازة.. ورجل ينهال فجأة على جثة، نستطيع أن نتلمس الخط التقليدي في السرد، أي أن العماد الأول للرواية لدى الروائي لم يأتي بجديد، بل كان تقليديا جدا، وما أن ندخل في البداية حتى نحس كأننا نشاهد فيلما مصريا من أيام الثمانينات، ولعل البطل أيضا الفنان نور الشريف.. أكثر مما توحي اللغة والموقف وسيرة العمل بالرقي الأدبي والحس الإنساني المتعمق والذي هو ميزة الأدب.

أما من ناحية الفكرة، فالروائي يحاول أن يلقي الضوء على اليسار الفكري من خلال بطل قصته، ونتمنى أن يرحمنا الروائيون العرب من هذه الأفكار التي مل منها القارئ وأن يأتوا بجديد غير الشيوعية واليسار واليمين والشمال والجنوب.. الخ.

وفيما يخص اللغة، لم نجد ما يميز لغة الروائي، والمؤسف أنه طوال ما يزيد عن 300 صفحة لن تجد لشكري المبخوت جملة ذات صبغة أدبية واحدة!!.

فالرواية احتفظت طوال الوقت بعملية سرد مضنية، أشبه بشريط تسجيل أصيب بالعطب، وظل طوال الوقت يدور بصوت مشروخ..

في بداية الصفحة وفي موقف الجنازة، يطالب الناس بطل الرواية بالوقوف إلى جانب أخيه لصلاة الجنازة، ولكننا نفاجأ برد البطل "تعرف كما يعرفون أنني لا أصلي ولا أصوم". ورد بطل الرواية يبدو مضحكا أكثر منه مثيرا للاهتمام، ولا يبدو جوابا مقنعا أو حتى مبررا، فجل المسلمين لا يصلون ولا يصومون، ولكن صلاة الجنازة يقيمونها، فهي حق للميت لم يختلف عليه مسلمان، وإذ ذاك جاء موقف الكاتب ساذجا أكثر منه ذا رؤية. ونود من الروائيين العرب أن يثبتوا أنفسهم بعيدا عن "شماعة الدين والجنس" ورجال الدين وغيرها، ولا داعي لأن نكرر أن الإنسان العربي أغرق فيها من خلال شاشات التلفزة والكتب، ودون جدوى..

وعلى الاستخدام على الأقل أن يصارع وجودية الإنسان وألا يطرحه الكاتب لمجرد إثارة الجدل فحسب.

والحكاية التي طرحها الكتاب منذ المقدمة بدت بشكل ما معروفة، فهي عن شاب يساري وعلاقاته الجدلية مع محيطه الديني ومجتمعه الشرقي، وبذلك فقدنا أهم عنصر في العمل الروائي وهو "التشويق"، وبدا السرد باهتا مملا، يزحف بشكل مثير للشفقة، يفتقر لأدنى معيار أدبي.

في صفحة (13) طلبت الأم من "صلاح الدين" الأخ الأكبر لبطل الرواية "عبدالناصر" أن يقرّع أخاه على فعلته، فاحتار "صلاح الدين"، ويسرد الروائي "ما عساه يفعل معه وهو في الثلاثين". إن هناك خللا في الرؤية لدى الروائي فهل يكف الأخ عن النقاش مع أخيه أو الجدال أو محاولة فهمه لمجرد أنه دخل سن الثلاثين؟ لا تبدو الحيرة التي افتعلها الروائي لدى "صلاح الدين" منطقية.

في صفحة (17) يسرد الروائي، "وظلت الحاجة زينب، ولم تكن وقتها حاجة". ونسأل الروائي هنا، ما أهمية هذه الجملة؟ وماذا يعني أن يقول إن الحاجة لم تكن حاجة؟ وما يعنينا في معرفة ذلك؟. واستخدام "الحاجة" عربيا هو للتقدير وليس شرطا مطلقا أن تكون لمرتبة دينية.

ولكن يلفتنا في صفحة (22) إضاءة جميلة من الروائي على الصراع في الداخل الإنساني.

في صفحة (34) يقول الروائي "فسر عبدالناصر ذلك بثقافة أبيه التي تميل إلى الأخذ بالنمط الغربي في التربية"، كيف صارت تربية الأب ذات نمط غربي وطوال الوقت قدم لنا الروائي على أن أسرته متزمتة وشرقية في حياتها، عدا أخوه صلاح الدين؟!.

وفي صفحة (36) تقول أم "عبد الناصر": "لم يعد يعنيني أمر ولد الحرام" (في إشارة لابنها عبد الناصر). هل يمكن لأم مهما كانت أو مهما غضبت من ابنها أن تنعته بابن الحرام؟ وهو نعت أشبه بنعتها لذاتها لا له هو!. فالقول هنا لم يكن موفقا من الروائي.

وفي التطرق لشخصية "زينة" الفتاة المتمردة على كل ما يمكن أن يكون المرء متمردا عليه (ولا يبدو رؤية البطلة واضحة ها هنا ولا تبدو مبادئها مقدمة بصورة جليه)، ولكن المثير للضحك أن البطلة التي تم تقديمها على أنها تنحدر من أسرة بسيطة، بدت كل الجامعة خائفة منها ومن تهديداتها؟؟ ونحن نسأل الروائي شكري المبخوت، منذ متى تخشى إدارة الجامعات من تهديدات الطلاب؟؟ خاصة في مجتمعات تحكمها أنظمة مستبدة؟ ومن هي "زينة" أصلا لتهدد؟ يوحي لنا الروائي وكأن "زينة" ابنة رئيس وزراء، بل إن وصف الروائي لـ"زينة" يوحي بأنها "سوبر وومن".

يتطرق أيضا الروائي لوصف "زينة" من ناحية المظهر، وهو وصف كلاسيكي أكثر منه ينتمي للرواية الحديثة. في صفحتي 49 – 50.

وفيما لا يقل عن 3 صفحات يصف الروائي "زينة" حيث تبدو الشخصية مفتعلة أكثر منها حقيقية، وجاء وصفها بطريقة عشوائية غير متناسقة واستهلكت الكثير من الإسهاب والحشو والمبالغة دون داع.

في صفحة (120) تحس "زينة" بالامتنان لعبد الناصر حين عرض عليها الزواج، كيف لشخصية ناضلت وناظرت وأثرت في جامعة أن تحس فجأة بالامتنان لرجل لأنه سيتزوجها؟ وكأنها لا حول لها ولا قوة؟!.

طوال ما لا يقل عن ثلاثين صفحة إن لم نشأ أن نقول جل الرواية، يدور شكري المبخوت حول شخصية "زينة"، في صفحة (131) الحوار المطروح بين "زينة" و"عبدالناصر"، بعد أن تزوجا جاء ضعيفا بين الزوجين، حيث تقول "زينة" أثناء الحوار "أنت زوجي وتاج راسي" (رغم أنها اعتبرت نفسها حرة ولا رجل يستطيع أن يقوّمها، وذلك جاء في صفحة 130).

في صفحتي 133 و 134 لحظة دخول عبدالناصر وزينة على صلاح الدين وزوجته وتعرفه بـ"انجيليكا". نتساءل ها هنا، هل حدث كل هذا الإعجاب بين عبدالناصر وإنجيليكا والنظرات بينهما ووجود زينة التي ترمقهما، بل وتضع "أنجيليكا" يديها على عبد الناصر، هل حدث كل ذلك في أول ساعات اللقاء؟ ثم تطرق الحديث من فوره بين عبد الناصر وزينة وصلاح الدين وانجيليكا إلى موسوليني والسياسة، هل يدخل الناس مباشرة في الحديث في السياسة في أول لقاء وفي أول وجود لهم في بلد غريب؟. ولعل ذلك كان اختصارا من الكاتب.

ولكن الحقيقة أن شخصية "زينة" شخصية كانت تحتاج لمراجعة دقيقة من قبل الروائي، فالشخصية تعاني من خلل كبير وهي مفككة بطريقة تبعث على الضجر.

هناك إسهاب كبير في الحديث عن تفاصيل وأحداث لا داعي لها وليست أكثر من إنهاك واستنزاف للقارئ.

في صفحتي 149 و 150 يبالغ الروائي في وصف وظيفة "عبد الناصر" كمدقق لغوي، لدرجة أننا نحس أنه رئيس تحرير الجريدة!.

في صفحة 181، حين تقبل "نجلاء" عبد الناصر على شفتيه، يصف الروائي "أغمض عينيه يتصنع الخدر". إن كان عبد الناصر معجبا بنجلاء فمالحاجة إلى التصنع حين تقبله؟ لا يبدو الوصف هنا دقيقا وواضحا لدى الروائي.

التركيز على جمال "المظهر" لدى الشخصيات يتنمي إلى الحقبة الكلاسيكية في القرن الثامن عشر، وليس إلى وقتنا الحالي.

في صفحة 188 يصف الروائي معاناة "نجلاء" مع زوجها الأول وسبب تركها له أن أمه كانت تتحكم به وأنه كان مطواعا كثيرا لأمه، وبهدا دلالة كافية على شرخ العلاقة، إلا أن الروائي أراد الاتكاء مع ذلك على عذر "جنسي" وهي عادة روائية عربية "مبتذلة" يظن الروائي العربي فيها أنه يضفي بذلك "الجرأة" على كتاباته، وإذ ذاك جاءت الإشكالية الجنسية لزوج "نجلاء" حشو أكثر منه حاجة ضرورية، فلا حاجة للقارئ بالغوص في ماضي "نجلاء" إلى هذا الحد، فهو غوص لا يفيد النسق الروائي بشيء.

صفحة 191 تستغرب "زينة" كيف أمكنها أن تصير أستاذة في قرية ولديها عائلة ظروفها صعبة وغارقة في الفقر. أين الغرابة في أن يكون المرء من قرية وعائلة فقيرة وتمر بظروف صعبة وأن يصبح ذا مستوى تعليمي عالي؟ هل ينحدر المتعلمون من أسر غنية ميسورة فقط؟ إن المبررات هنا وحالة الاستغراب لم يكن لها مسوغ مشروع.

في وصف الكثير من أحداث الرواية كأخذ عبدالناصر لصحفي شاب إلى سوق لتعليمه الصحافة، ووصفه إعداد الطعام، وغيرها الكثير الكثير من الأحداث دون أن يكون لهذا الوصف أهمية في دفع الرواية، جاء كل هذا كمحاولة أن يستعرض الروائي نفسه أكثر من أن يعرض روايته وأن يستعرض ثقافته الخاصة أكثر من تقديمة ثقافة للقارئ.

تبدو شخصية "نجلاء" متناقضة، فهي تدّعي مبادئ الصداقة مع "زينة" زوجة عبد الناصر، ولكنها مع ذلك تخونها مع زوجها بادّعاء ذات القيم؟؟ ونتساءل ها هنا.. أين الترابط بين فعلي الخيانة والصداقة الذي ربطهما الكاتب ها هنا كحاجة متبادلة وضرورية؟؟ فالإنسان إما أن يكون خائنا أو صديقا، فصفة الخيانة صفة لا ترافق أي قيمة أخرى.

الحوارات عديدة في الرواية دون فائدة للعمل.

في صفحتي 227 و228 يبدو تغير حال "عبد الناصر" بعد ليلته مع "نجلاء" غير مقنع بتاتا، وكأن الروائي أراد أن ينتقل لحدث آخر دون أن يعرف كيف، فكان الطرح مبالغا فيه لم يقدم التفسيرات النفسية الحقيقية والمقنعة.

في صفحة 269، نحن نطرح سؤالا.. ما هي القدرات البديلة الخارقة لعبد الناصر (والتي ذكرها الروائي فجأة) التي تأمنه من طعنة سكين؟.

في صفحة 278 يبدو موقف "زينة" من الأستاذ بعد رسوبها "مفتعل" وغير محبوك، فهل هناك من تعرّي صدرها لكونها رسبت في مقالة؟ (نود أن يتطلع القارئ على هذا الجزء تحديدا). جاءت ردة الفعل مبالغة جدا مقابل أمر لا يستحق كل هذه الصورة المشوهة.

في صفحة 292 يعود الروائي لوصف "عبد الناصر" على أن مظهره يشبه الإيطاليين، ولا ندري ما سبب إصرار الكاتب على إعادة التذكير، وكأن القارئ لم يفهم بعد أن هذا هو السبب الذي جعله يطلق على روايته عنوان "الطلياني"، نخبر الروائي أن القارئ يستطيع أن يفهم هذا من أول وصف..

في صفحة 300 غير مفهوم لمَ قد يضيّع "عبد الناصر" عقله بعد طلاقه من زينة، فتارة هو شخصية قوية ولم يظهر أن هناك حب حقيقي بين الطرفين، إذ لم يقدم الروائي ذلك بصورة واضحة، وتارة هو يفقد عقله دونها، لم يقنعنا الروائي كفاية بنظريته هذه.

يظهر الروائي شخصية "عبد الناصر" على أنه شاب مثقف وصحفي ماهر وذو طموح سياسي، ثم نجده مجرد شاب يطارد النساء بل ويراهن عليهن وهو تناقص غير مفهوم.

يموت والد عبد الناصر وبعد أن يعرف "عبد الناصر" ذلك مباشرة، إذا هو يشتهي "ريم"، هل يفكر الإنسان في شهواته حين يتلقى نبأ مفجعا في أهله كهذا؟.

ما أهمية التركيز الكبير على العلاقات الجنسية؟ وهذه الشهوات؟ ما المفترض أن يقدم ذلك للقارئ وللقيمة النفسية والأدبية لنا؟ لقد وصلنا كفاية أن الروائي قادر على أن يكون "جريئا"!.

في آخر الصفحات، يسرد الروائي أزمة البطل مع العادة الدينية في ذبح الخاروف، هناك فرق بين أن يتملك الإنسان هلع من الدم وبين أن يزدري عادة دينية، فعلى الروائي أن يكون أكثر تركيزا في وصف الحالة النفسية لهلع الإنسان من الدم، إذ أن ما يوحي هنا أن الكاتب يزدري الإسلام وليس منظر الدم.

يجاهر البطل في الإفطار في رمضان، كما يظهر الكثير من الازدراء للإسلام، بل ويظهر المسلمون كأنهم مجرد أشخاص سذج مغفلون وعلى أمثال "عبد الناصر" أن ينظروا إليهم بعين الشفقة، إذ هم مجرد جاهلون متخبطون لا يعرفون ما يعرفه "عبد الناصر" من الحقائق الساطعة، وهي رؤية سوداوية في الدين الإسلامي لدى الروائي، ورؤية قاصرة لا شك، إذ يبدو أن الهجوم على الدين الإسلامي "طفولي" أكثر منه مبني على قراءات متعمقة فيه سواء من الناحية السلبية أم الإيجابية.

تنتهي الرواية نهاية غير متوقعة، ولا علاقة لها مطلقا بسرد الأحداث طوال ما يتجاوز عن 300 صفحة في الرواية، وتبدو النهاية مفتعلة وزج بها زجا، وكأن الروائي علق ولم يعرف كيف ينهي روايته، فاضطر لاختلاق تلك النهاية الساذجة والغريبة.

وليعذرني القارئ إذ اضطررت لاختصار العديد من النقاط في قراءتي لهذه الرواية، لشدة مواطن الخلل والتفكك فيها مما لا يسع مقالة للتعريف. وذلك في محاولة للتكثيف ما أمكنني، ومحاولة توضيح مواطن الخلل ما أمكنني.

رغم أن الدكتور شكري مبخوت متخصص في الآداب، وهو أمر مفاجئ لمن سيتطلع على هذه الرواية، التي يبدو مستواها أقل بكثير من مستوى الكتابة المبتدئة.

ونود من "المبخوت" الاعتكاف على ما يستطيع أن يجيده وأن يدع العمل الروائي لأهله، فهذا العمل من السوء ما يجعلنا نأسف حقا لدخوله في الأصل في جائزة البوكر، ولا زلت أذكر (وقد كنت من بين الحاضرين أثناء الإعلان عن الجائزة) الصدمة على وجوه الحاضرين والوجوم الذي دام للحظات، حين تم الإعلان على أن "الطلياني" هي الفائزة.

ولكن هذا في النهاية يمثل اللجنة ولا يمثل القارئ العربي المنهك أساسا من الرواية العربية التي تنحدر من سيء إلى أسوأ، وقراءة مثل هذا العمل لم يكن بالنسبة لي أكثر من عقوبة لعودتي للقراءة في الرواية العربية.

وسوم: العدد 625