مأساة البوسنة والهرسك…العار الذي يلاحق الغرب

إحسان الفقيه

«ريتشارد قلب الأسد ما زال حياً، يجب إقامة قوس فولاذي أرثوذكسي لمواجهة الحية الإسلامية»، هذا المقطع ورد في صحيفة «ليبراسيون» الفرنسية في السابع والعشرين من يوليو 1993، بقلم الكاتب الإسباني خوان غويتيسولون، وهو يورد هذه العبارات التي تم تداولها في احتفالية حاشدة في أثينا بحضور لفيف من القيادات السياسية والدينية.

بهذه الروح العدوانية تم ذبح شعب البوسنة والهرسك، في واحدة من أبشع مآسي القرن العشرين، ففي غضون أربع سنوات (1992-1995)، ارتكب الصرب بحق مسلمي البوسنة والهرسك مجازر ستظل عارا يلاحق الإنسانية بأسرها.

وفي ذكرى مذبحة سربنيتسا التي وقعت في مثل هذا الشهر منذ 27 عاما، وراح ضحيتها ثمانية آلاف من مسلمي البوسنة، تعود إلى الأذهان هذه المأساة البشعة، التي مثلتها حرب الإبادة الصربية ضد البوسنة والهرسك.

أتت الحرب على كل رطب ويابس، وغيّرت من التركيبة السكانية في البلاد، وأبادت مواردها، ولم تتوقف الحرب إلا عند توقيع اتفاقية دايتون المجحفة، التي منحت مسلمي البوسنة والهرسك ربع مساحة بلادهم، ومنحت المساحة المتبقية للصرب، الذين حصلوا على ثلثيها، والكروات الذين حصلوا على ثلثها. بعد عشرة أشهر فقط من الحرب على البوسنة، تواترت التقارير الغربية عن سقوط مئة ألف بوسني، وتشريد ضعف هذا العدد، واغتصاب أكثر من ثلاثين ألف امرأة مسلمة، وأكثر من مئة وخمسين معسكر اعتقال جماعي، وتدمير ما يزيد عن ثمانين في المئة من مرافق الدولة، وهدم 1500 مسجد. القلوب يعتصرها الألم، عندما نتذكر مصير الآلاف من أطفال مسلمي البوسنة، الذين كانوا يباعون ويشترون في دول الغرب للأسر الراغبة في التبني، بعد أن قتل وجرح وشرد الملايين من هذا الشعب النازف.

تحدثت تقارير غربية عن بشاعة الحرب وآثارها، على سبيل المثال، أجرى الكاتب الصحافي روجر أُوك، تحقيقا صحافيا نشرته مجلة «باري ماتش» الفرنسية في 28 يناير/كانون الثاني 1993، كان عنوانه «البوسنيات المغتصبات، إنهن عشرات الآلاف، قررن التخلص من الحمل الذي سببه الصربيون الأوغاد»، وهو تقرير مطول يستعرض محنة البوسنيات المغتصبات، والحمل بطريق الاغتصاب، الذي طال عشرات الآلاف منهن، وذكر في التقرير أن 80% منهن تخلصن من الحمل بالانتحار، أو الإجهاض. إن أحاديث الأرقام عن ضحايا هذه الإبادة الجماعية لمسلمي البوسنة، لا يتسع المقال حتى للإشارة إليه، لكنني بصدد التعريج على الموقف الدولي المتخاذل من هذه المحنة. لقد كان موقف الأمم المتحدة التي كان أمينها العام بطرس غالي، موقفا متخاذلا للغاية، لأن المنظمة في الحقيقة تسير وفق إملاءات الدول العظمى، فقد تم حظر توريد الأسلحة على أطراف الحرب، مع علمها بترسانة الأسلحة الضخمة لدى الصرب، بينما كان الجيش البوسني وليدا، بضعة آلاف يحملون أسلحة خفيفة، فكان حظر توريد الأسلحة يعني ترك مسلمي البوسنة في العراء في مواجهة طائرات ومدرعات ودبابات ومدافع صربية، تبيد القرى والبيوت والمدنيين بلا رحمة. لقد فاحت رائحة تواطؤ القوات الدولية في البوسنة، إبان حرب الإبادة، ومن ذلك المشاركة في اغتصاب البوسنيات، إذ احتفظت الحكومة البوسنية بوثائق تثبت إدانة قائد القوات الدولية في سراييفو الجنرال الكندي ماكينزي في هذه الجرائم، وقد تم التحقق من إدانته وإقالته في يوليو/تموز 1992. وإضافة إلى ذلك، فقد ثبت تواطؤ القوات الدولية مع الصرب في اغتيال رئيس وزراء البوسنة حقي توايلديتش، وكان يستقل – مرافقا لقوات حفظ السلام – مصفحة ترفع علم الأمم المتحدة، في طريقها إلى سراييفو، فاستوقفتها دبابتان صربيتان ومسلحون صربيون، وأخرجوا منها رئيس وزراء البوسنة وأمطروه بالرصاص على مرأى القوات الدولية وجنود فرقة فرنسية، علما بأن تعليمات القوافل الدولية تمنع فتح المدرعات لتفتيشها أو إعطاء معلومات عن الأشخاص الذين تقلهم، فمن أين عرف الصرب شخصية المسؤول البوسني، وكيف سمح لهم بفتح المدرعة؟

الموقف الروسي كان واضحا منذ البداية، دعم الصرب ضد البوسنة والهرسك، لرغبة موسكو في استعادة نفوذها في المعسكر الاشتراكي السابق، واستخداما للصرب الأرثوذكس كورقة ضد أوروبا الكاثوليكية والولايات المتحدة، وكان يلتسين على استعداد لتعكر الأجواء مع أمريكا حال تدخلها عسكريا إذا اقتضى الأمر. أما أوروبا، فباستثناء الموقف الألماني والنمساوي ـ والإيطالي على استحياء – المؤيد للحرب ضد الصرب، ذهبت أكثر الدول الأوروبية إلى معارضة التدخل العسكري، وموقف ألمانيا بالطبع كان مبنيا على عدائها للصرب، حلفاء الروس الباحثين عن مجد الاتحاد السوفييتي في أوروبا الشرقية. أما الموقف الفرنسي فاتجه إلى الضغط على البوسنة، ومحاولة تجميل وجه سفاح الصرب وإثبات عدم العداء معه. انسجم موقف اليونان مع الروس، فدعمت الصرب، خوفا من استقلال مقدونيا، كما لعبت بريطانيا دورا مهما في دعم الصرب – رغم تظاهرها بعدم المبالاة – للحد من نفوذ أعداء الأمس، وكان للورديْن البريطانييْن كارينجتون، وأوين، دورهما في تحذير وتهديد والضغط على الطرف البوسني، وتهديده بالانسحاب من الوساطة ووقف الإغاثات، كما عارضا رفع الحظر عن السلاح للبوسنة، في الوقت الذي كان الصرب يمهدون الأرض لفرض الأمر الواقع. أما الولايات المتحدة، فقد كانت تقاريرها الاستخباراتية تتنبأ بالحرب قبلها بسنوات، كما أفاد جوناثان آيل مدير المعهد الملكي للخدمات الموحدة، وقبل اندلاع الحرب بأيام، أعطت أمريكا إشاراتها للصرب بأنها لا تميل إلى تفكيك يوغسلافيا، الأمر الذي فهمه الصرب على أنه ضوء أخضر في منعها البوسنة من الانفصال كدويلات يوغسلافيا الأخرى. كانت الولايات المتحدة تعلن أنه شأن أوروبي، فكان من مصلحتها تقليص الاستقرار الأوروبي حتى لا يكون لأوروبا دور تنافسي مع أمريكا، كانت التصريحات الأمريكية متضاربة، فتارة تؤكد ضرورة الحل العسكري، وتارة تدعو البوسنة إلى التسوية القائمة على التقسيم. في الوقت الذي توقع العالم أن يكون موقف كلينتون أكثر جدية بعد توليه الإدارة، إلا أنه خيب الظنون عندما أكد، أن إرسال بلاده قوات إلى منطقة الصراع أمر مستبعد، رغم الأصوات المعارضة بالكونغرس.

كان أقصى ما قدمه الغرب للبوسنة هو، الإعانات والإغاثات، التي تقدم لهم ليقتاتونها تحت القصف والذبح والدمار، الشيخ مصطفى زيريتش رئيس أئمة البوسنة الأسبق، في لقاء مع الصحافي الإسباني خوان غويتيسولون، في التقرير الذي أشرنا إليه في صدر المقال، رد على سؤاله عن المساعدات قائلا: بماذا يفيد تغذيتنا بالقطارة، إذا كانوا يتركونهم يذبحوننا؟».

والسؤال هنا، لم انتظر الغرب أكثر من ثلاث سنوات بعد خراب البوسنة لكي يحسم الصراع؟ بينما استطاع إنهاء الصراع الصربي الكرواتي بين عشية وضحاها، وأرسل أكثر من 14 ألف جندي لهذا الغرض. لقد كان رئيس الصرب سلوبودان ميلوفيتش واثقا من أن العالم لن يحرك ساكنا عندما قال: «العالم لن يشعل حربا بسبب محافظتنا على حقوق الصرب، وإن أوروبا لا تريد الإسلام». ولنا أن نقارن بين التحرك الفوري السريع للغرب ضد العراق بعد احتلال الكويت، وتعبئة جيوش الأرض لتدمير العراق، والتباطؤ والتواطؤ من البعض لإلحاق الدمار بهذه البؤرة الإسلامية وتقسيمها. في الثامن من يونيو/حزيران 1992، نشرت «التايم» الأمريكية تقريرا قالت فيه: «على خلاف محاولة العراق اغتصاب بترول الكويت، فإن استلاب الصرب العدواني لحقوق البوسنيين والكروات لا يهدد المصالح الاستراتيجية للولايات المتحدة، أو أوروبا، بدرجة تكفي للمخاطرة بإرسال جيوش». وقال التقرير نفسه: «كان من الممكن كما حدث مع صدام حسين، أن يُردع ميلوفيتش بالقوة، لكن لا أحد خارج يوغسلافيا كان مستعدا للدخول في حرب معه». ولنقارن كذلك بين موقف الغرب من الحرب الروسية على أوكرانيا، وتحركه السريع لدعم أوكرانيا، وموقفه من الحرب الصربية على البوسنة، ولماذا لم يكن موقف الغرب حاسما في سوريا التي تواجه أبشع المذابح، مماثلا لموقفها من حرب أوكرانيا؟

إن المجتمع الدولي يكيل بمكيالين، وتتحرك الدول وفق مصالحها هي ولو تطلب دهس القيم الإنسانية التي تترنم بها، لكن الثعبان يلدغ لأنه ثعبان، فإذا كان العار يلحق الغرب لتخليه عن البوسنة، وتركها للقضم والهضم من قبل الصرب، فإن العار الأكبر يقع على رؤوس الدول العربية والإسلامية التي انساقت للخور والتبعية والانزواء، ولولا أن الله قيض المناضلين من جميع البلدان لنصرة إخوانهم في البوسنة، لما انتهت الحرب، فقد غيروا المعادلة، ما ألجأ الغرب وأمريكا للضغط باتجاه السلام لإخلاء المنطقة من هذه القوة الإسلامية الصاعدة، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.