السلطة في مفترق طرق .. إما مع شعبها الفلسطيني وإما مع إسرائيل

حماد صبح

 اتهمت إسرائيل السلطة الفلسطينية بالإخفاق في لجم انتفاضة الضفة الغربية التي يؤدي فيها السلاح دورا مؤثرا  مؤلما لإسرائيل ، وهو اتهام يعري ضعفها ذاتها ويأسها من  قدرتها على " اللجم " الذي تريده من السلطة لتلك الانتفاضة . تهاجم أي منطقة في الضفة بمئات  الجنود وعشرات  العربات العسكرية ، والمروحيات ، والكلاب متى علمت بوجود مسلحين يقلون عن عدد أصابع اليد  الواحدة ، وأحيانا لا يكون في المكان سوى مسلح واحد ، ومع كل هذه القوة العسكرية  تريد من السلطة الفلسطينية أن تحقق ما عجزت هي عن تحقيقه بكل قوتها الكبيرة المتنوعة . وهذه صرخة ضعف ويأس  إسرائيلية يجب ألا تفلت منا دلالتها على حقيقة مدى قدرة هذا الكيان الشيطاني على الصمود متى وجد قدرا معقولا من المقاومة يوجعه ويحيره ويهدده بدفع ثمن اغتصابه للوطن الفلسطيني وجرائمه ضد شعب هذا الوطن . وللصرخة دلالة أخرى هي حاجة إسرائيل  دائما لمن يعينها وينقذها في أي شدة أو محنة تقع فيها ، وأن كل إنجازاتها بدءا من مشروع دولتها وقيامها وبقائها وانتصاراتها العسكرية والسياسية دائما خلفها قوى خارجية غربية وعربية ، ومنها نجاحاتها في تطبيع علاقتها رسميا مع ست دول عربية ، ونجاحاتها  في التطبيع السري الذي تطل بعض مظاهره بين وقت وآخر تهيئة للتطبيع الرسمي العلني . في الشهور الأولى من انتفاضة الحجارة في ديسمبر 1987 قيل إن الاحتلال انتهى نفسيا في الضفة ، وتفسير ذلك أن الإسرائيليين أفاقوا على حقيقة عجزهم عن البقاء فيها آمنين  دون أي ثمن ، يقيمون  مشاريعهم الاستيطانية دون إي إزعاج من الفلسطينيين ، وكانت كل نظرات إسرائيل تبحث عن الخطر خارج الضفة وغزة ، وترى منظمة التحرير الفلسطينية مصدره الأساسي . الانتفاضة قلبت كل شيء ، وذكرت الإسرائيليين بأن المشكلة الكبرى في المكان الممتد بين النهر والبحر . وتفاجأ كثيرون في العالم من الانتفاضة ، وبعضهم كان لا يعلم شيئا عن القضية الفلسطينية وعلاقة إسرائيل بها . من سمع بإسرائيل تصورها دولة طبيعية في أرضها ، وأنها لم تُستنبت اغتصابا لأرض شعب آخر،  وقتلا وتشريدا واضطهادا لذلك الشعب . وسئل مناحيم بيجن رئيس الوزراء  عن هذه الحشود من الشبان والصبيان الذين يرمون الحجارة على الجنود الإسرائيليين ، فأجاب أنهم أولاد قطاع طرق ! وتواصلت الانتفاضة بالحجر ، وانفضحت إسرائيل في قسوتها ووحشيتها في الفتك بمن تطاله يدها من المنتفضين ، وانتحب  شارون متهما منظمة التحرير بتقبيح صورة إسرائيل "الإنسانية الجميلة " في العالم ، صورة الدولة الديمقراطية الوحيدة في المنطقة ، أو " الفيلا في الغابة " في وصف باراك لهذا الكيان المتوحش البربري . وفي كل اجتماع أسبوعي لمجلس الوزراء الإسرائيلي تُناقش  فيه مصيبة الانتفاضة كان ظل الوجوم والذهول واليأس يكسو كل الوجوه . وفي يوم اجتمع ضباط القيادة الوسطى لمناقشة كيفية مواجهة الانتفاضة ، وتقدموا بعد اجتماعهم بصفوة مناقشتهم ، وهي لا حل للانتفاضة في قطاع غزة إلا الانسحاب منه . ودائما كان للضفة حسابات لدى الإسرائيليين تغاير حساباتهم في غزة . ودارت الأحداث علنا وسرا ، وكان اتفاق أوسلو في سبتمبر 1993 الذي أنقذ إسرائيل من المآزق والتعقيدات والأعباء العسكرية والأمنية والمالية التي فجرتها تلك الانتفاضة ، وأنشئت بمقتضاه السلطة الفلسطينية في 1994، فحملت عن إسرائيل أكثر تلك الأعباء ، وجوهرها المسئولية عن حياة مواطني الضفة وقطاع غزة التي كانت إسرائيل ملزمة بحكم القانون الدولي بالمسئولية عنها ، وارتاحت إسرائيل ، ووصف احتلاها بأرخص احتلال في التاريخ ، وهو ليس احتلالا ، بل استيطانا تضاعفت سرعته بعد أوسلو حتى بات عدد المستوطنين في الضفة والقدس 700 ألف . اليوم تواجه إسرائيل في الضفة وفي مجمل القضية الفلسطينية انتفاضة تتفوق في خطورتها ومصيريتها على الانتفاضة الأولى  والثانية ، ومحذور فلسطينيا أن تكرر إفلاتها في هذه الانتفاضة مثلما أفلتت  في الانتفاضتين السابقتين بيد فلسطينية ، والسلطة الفلسطينية ملزمة  في مفترق الطرق الحالي ، وطنيا وتاريخيا ومصيريا أن تختار إما شعبها وإما إسرائيل ، والثانية ، إسرائيل ، ستغري السلطة بالمال الذي تدفعه الدول المانحة وأميركا خاصة للأجهزة الأمنية ، وبتيسيرات أخرى لتختارها وتنبذ شعبها ، وستحذرها من استيلاء حماس على الضفة إن لم " تلجم " الانتفاضة الحالية المنذرة لها ، لإسرائيل ، بأخطار مصيرية في بيئة مكانية وزمانية أفضل فلسطينيا من بيئة الانتفاضتين السابقتين ، وربما تهددها ، ولو نظريا ، بمعاقبتها أو معاقبة عناصر من أجهزتها الأمنية إن لم تشاركها في مقاومة الانتفاضة الثالثة مقاومة تئدها مثلما تتمنى وتحلم ، ولا ملاذ آمنا ومشرفا للسلطة إلا أن تختار شعبها وتنحاز إليه في انتفاضته ، ولتبدأ الاختيار والانحياز بسؤال إسرائيل : " لماذا لا تلجمين نفسك أولا عن العدوان على الشعب الفلسطيني ؟! نحن شعب واحد ، وعدونا واحد ، ولا يفرق بين فلسطيني وآخر  إلا مؤقتا  ولمنفعته ، وهدفه النهائي فلسطين بلا أي فلسطيني .