في يومها العالمي: هل العربية لغة كونية؟

إبراهيم مشارة

في 18 كانون الأول/ ديسمبر 1973 صدر قرار الجمعية العامة 3140 (د28 ) الذي نص على إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية ولغات العمل في الأمم المتحدة، واعتبر يوم الثامن عشر من ديسمبر يوما عالميا للغة العربية،هذه اللغة التي يتكلم بها أكثر من 400 مليون إنسان ليس فقط في العالم العربي، بل في تركيا وتشاد ومالي والسنغال وإريتريا وامتد تأثيرها إلى اللغات التركية والفارسية والكردية والأوردية والماليزية والإندونيسية والألبانية، وحتى اللغات الأوروبية كالإسبانية والبرتغالية والمالطية والصقلية، وكما هي لغة شعائرية فبها نزل القرآن الكريم وبها يُتَعبد الله في الصلوات، هي كذلك لغة شعائرية رئيسية لعدد من الكنائس المسيحية في المنطقة العربية، كما كتب بها الكثير من الأعمال الدينية والفكرية اليهودية في العصور الوسطى.

إن اللغة العربية ـ وهذا تحصيل حاصل- كانت لغة العلم والفكر والأدب والفلسفة في العصر الأموي والعصر العباسي حتى نهايته عام 656 هجرية بمعنى أنها كانت لغة عالمية تمثلت وهضمت الفكر الإغريقي والهندي والفارسي، كما استطاعت استيعاب مضمون الخطاب الإلهي والتشريعات الأصولية والفقهية والسلوكية المنبثقة عنه، ما جعلها لغة دين ودنيا، ولغة فكر وفلسفة، فن وحضارة وصار ترجمة الآثار العربية إلى اللغة اللاتينية شرطا للتمدن والتحضر في أوروبا في العصر الوسيط، كما أن الفلسفة الإغريقية وشروح ابن رشد لأرسطو تم تمثلها ونقلها إلى اللاتينية عبر المرور بالبوابة العربية، وهكذا فعلا كانت العربية لغة الأنسنة والحداثة والتمدن والتفلسف في العصر الزاهر للحضارة الإسلامية في بغداد ودمشق وقرطبة وطليطلة وصقلية والقاهرة وفاس، ومن يراجع فهارس المكتبات الأوروبية والأمريكية والعربية وغيرها، يجد ما لا يحصى من المؤلفات التي تناولت التأثير اللغوي والحضاري والإنساني للحضارة الإسلامية بلغتها العربية.

إن ثنائية اللغة والدين كانت سلبية وإيجابية معا بالنسبة للعربية، فلا شك في أن القرآن الذي نزل بلسان عربي وبلغة قريش، رسم هذه اللغة واختار من اللفظ المأنوس الميسر المتداول والمتوافق مع الذوق، والدال على المعنى بدقة، وتحاشى الحوشي والغريب والمتنافر الحروف، فكثير من الألفاظ العربية تتسم بهذه الصفة، أي الحوشية والتنافر نتيجة تأثير البيئة الصحراوية وقساوة الطبيعة وغياب البحر والغابة والنهر، لولا أن مكانة قريش التجارية ووجود الكعبة في مكة، وتوطن الناس فيها هيأ لهم لغة تجارية متداولة، أي لغة تعامل تجاري ولياقة، فجاءت لغة قريش هي اللغة الوسطى بين سائر اللهجات العربية التي اندثرت بفعل التطور التاريخي والحضاري. وبما أن القرآن رسالة عالمية وخالدة هيأت هذه اللغة الوسطى إمكانية القراءة والفهم وإمكانية الترجمة إلى اللغات الأخرى، ما أعطى هذه اللغة هيمنة ومركزية، فعبرها مرّ الخطاب الإلهي إلى اللغات الأخرى ويظل النص العربي المتن الرئيس، ولولا القرآن لربما اندثرت العربية كما اندثرت لغات شتى، تعد بالآلاف في إحصائية الأمم المتحدة، فالقرآن هو الذي رسم العربية وعممها في البلاد العربية وما وراء النهرين، وإلى تخوم افريقيا السوداء.

أما الجانب الذي عاد بالسلب على العربية فهو الدوغمائية من لدن بعض المفكرين والأصوليين الذي نظروا إلى العربية نظرة تقديس مثل تقديس النص الديني، فحالوا بينها وبين التطور والحداثة والعصرنة، وجوبه كثير من المحاولات في هذا الجانب بالتخوين والإدانة والرفض. فاللغة عندهم تماهت مع المقدس، مع أن اللغة مثل الكائن الحي تمر بأطواره، فالهدم والبناء في الكائن الحي هما اللذان يتيحان له البقاء والمقاومة والاستمرار ضد أشكال الإفناء كافة، التي يتعرض لها من لدن الطبيعة، فكذلك اللغة يموت كثير من مفرداتها ويتخذ طريقه إلى المعاجم وتولد ألفاظ جديدة مستحدثة أو منقولة عن لغات أخرى بفعل الاختلاط والتثاقف والترجمة.

فاللغة آلة الفكر ووعاؤه كما نص هيغل، وكلما كان الفكر منتجا مخصبا مبدعا وانفتحت الحياة على العطاء والإخصاب والإنتاج، تجلى ذلك في اللغة، فكثرت مرادفات التحضر والتمدن والإبداع العملي والفكري والفلسفي، وهكذا تغدو اللغة لغة حضارية ملائمة لروح العصر مطلوبة من الغير للحاجة إلى الاقتباس من منجزات تلك اللغة، التي كرست بها أشكال الإبداع الحضاري في كل تجلياته والعكس صحيح.

إن اللغة في حد ذاتها آلة تواصل، وفي كل لغة خصائص بنيوية وصوتية وإيقاعية، والعبرة بتفوق لغة على أخرى وعالميتها يكون بالإبداع والعطاء الحضاري، وإثراء تلك اللغة بمختلف المعارف والمنجزات، ما يجعلها لغة مطلوبة من الغير لحاجتهم إلى تلك الأمة، وكذلك الأمر بالنسبة للعربية في العصر العباسي، فعطاؤها العلمي والفكري والديني والفلسفي والمدني جعل أوروبا وغيرها محتاجة إليها، مما كرسها لغة كونية بامتياز كما شرح ذلك آدم ميتز مثلا في كتابة «الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري» وغوستاف لوبون في «حضارة العرب» وسارتون في «مقدمة لتاريخ العلم» وجرجي زيدان في «تاريخ التمدن الإسلامي» ومن غير شك انفراد العربية بمزية الاشتقاق، وثراؤها المفرداتي وطواعيتها يجعلها لغة مطواعة قابلة لتلقي المعارف والإبداع، والمنافسة الحضارية، كما أن قابليتها للانفتاح على اللغات الأخرى وصلاحيتها لخاصية التعريب بإدخال الأجنبي إلى ساحة التعبير العربي، يجعلها قابلة للمواكبة الحضارية دون عجز أو تخلف أو خذلان والقرآن ذاته احتوى على كثير من الألفاظ غير العربية، كما ينص المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، وفي الحضارة العربية المئات من الألفاظ المنقولة عن اليونانية والفارسية والرومية، التي اتخذت طريقها إلى التوطين في اللسان العربي وفي قواميسه، وهي مبثوثة في مفردات التمدن وفي الشعر والفلسفة والفكر وسائر شؤون الاجتماع البشري.

إن اللغة العربية ما تزال حية موجودة يتكلمها أكثر من 400 مليون من الأنفس، وما تزال تثري الحقول الأدبية والدينية والثقافية والفنية، ولو أنه قليل وشحيح بالقياس إلى عطاء اللغات الأخرى، التي توسم بالحية لا لتخلف في العربية وأسبقية لتلك اللغات، لكن لقصور العقل العربي الراهن وتخلفه عن المنافسة العلمية الحضارية، ويعد الخط العربي آية في الجمال فهو يتحرى المطلق، وقد قال بيكاسو مرة (كلما فكرت في شيء وجدت الخط العربي قد سبقني إليه). وبعيدا عن أدبيات التقديس والتمجيد المعتادة في مثل هذه المناسبة وهو تحصيل حاصل أو تكرار مكرر.

إن هذا العصر هو عصر التواصل والثورة الرقمية بعد التكنولوجية، عصر غدا فيه العالم قرية واحدة وهذه الطفرات الرقمية والعلمية تزيد في الأعباء الملقاة على كاهل الأمة العربية، وفي معاناتها الحضارية بسبب القصور العلمي والفلسفي والفكري والثقافي عامة، بالقياس إلى الأمم الناهضة المتطورة ومراجعة للإحصائيات الرسمية فما تنتجه إسبانيا من كتب وتترجمه يتفوق على العالم العربي برمته، بل إن إسرائيل تتفوق علينا في هذا الجانب، فماذا سيغني ترديد الشعر والتحميس عبر ترديد ما قيل من تمجيد للغة العربية، في حين أن قصب السبق، هو للفعل الحضاري والإبداع العلمي والفكري الذي تتبوأ به اللغة مكانتها عالميا؟

في النصف الأول من القرن العشرين جوبهت المجامع اللغوية العربية كمجمع دمشق وبغداد والقاهرة وعمان بسيل عارم من المفردات العلمية والتقنية والفلسفية والحضارية، التي تريد مقابلا في العربية، ما اضطر المجمع إلى استغلال خصائص الألفاظ العربية وطواعيتها وروح العربية القابلة للحوار والاقتراب من الآخر في التعريب، أي نقل الدخيل والمولد وصبغه بصبغة عربية كما حدث في العصر العباسي مثلا، في حين ظل العقل العربي منفعلا غير فاعل ومستقبلا غير مؤثر ومستهلكا غير منتج، رغم الصرخات والتحذيرات من لدن مفكرين كبار اعتنوا بأزمة التخلف كزكي نجيب محمود «مجتمع جديد أو الكارثة» وفؤاد زكريا «خطاب إلى العقل العربي» وغيزهم .

ومازالت مشكلة العجز والقصور الفكري العربي وتماهي المقدس مع الدنيوي واللغة مع النص القرآني تثير أطاريح ثورية لا تجد لها للأسف التجاوب في المجتمع العربي المستسلم لخطاب ديني سلفي، يرجح الماضي على الحاضر والديني على الدنيوي ويرفض التعاطي مع المسألة السياسية بشفافية، عبر الديمقراطية الحقيقية التي تحفظ الحريات الأساسية وترفض الإقصاء للفئات المهمشة والطفولة الهشة، وأصحاب الحاجات الخاصة والمرأة، أي الوصول إلى المجتمع المتناغم الذي يرى فيه الفرد نفسه إنسانا لا رقما ولا عالة على أحد مهما كانت ميوله الفكرية والنفسية وبنيته الجسدية. 

 وما تزال الدعوات إلى التحديث والتيسير والعصرنة للعربية تلقى الشجب والإدانة، من قبل تيارات أصولية وسلفية في الغالب فهي تنظر إلى اللغة نظرتها إلى القرآن، مع أنهما شيئان مختلفان، وكان فطاحلة العربية في القرن العشرين كأنستاس ماري الكرملي وعبد الله العلايلي والبشير الإبراهيمي وأحمد فارس الشدياق وبطرس البستاني في القرن التاسع عشر، قد بحثوا في العامي وعلاقته بالفصحى قصد تعميم اللغة وتيسيرها، بحثا عن المضمون الفكري والعلمي، وما زلنا نجابه بأساليب البلاغة القديمة المنفعلة بالتورية وحساب الجمل والتصريع والسجع وكأن العصر في وادي ونحن في وادِ آخر حيث أننا لم نتحرر من لغة الخطابة التي لاءمت العصر الجاهلي، فالطبيعة القبلية والحاجة إلى الغارة تقتضي التحميس والتجييش وهذا يناسب اللغة الخطابية لا اللغة العلمية التي تبحث عن المضمون لا اللعب على حبال الفصاحة والبلاغة.

كما أن دعوات تبسيط تدريس النحو العربي ما تزال تراوح مكانها، لم تجد النجاعة والفاعلية، فتدريس النحو إشكالية كبرى فعادة يهرب من دروسه الطلبة ويعتبرونه صعبا وجافا، وحتى إن درسوه تعرف لغتهم التعثر واللحن إلى الحد الذي يلوذ فيه الكاتب بالمصححين اللغويين، وفي كثير من البلاد العربية ما زال النحو تحفظ ألفيته وتعتمد شروحها، فمتى ينصرف الطالب إلى المضمون؟ مع أن دعوات التيسير والتجديد قدمها أمثال علي الجارم وعلي أمين وعباس حسن وشوقي ضيف وغيرهم.

وكان مجمع اللغة العربية قد طرح في النصف الأول من القرن المنصرم إشكالية الكتابة العربية والإملاء، فكثير من الحروف ترسم ولا تلفظ وبعض الألفاظ تكتب بطريقة مخالفة بين هذا البلد وذاك فرسم كلمة «مئة «يختلف بين من يثبت الألف، ومن يحذفها وكانت الحاجة وقتها للتفريق بين كلمتي «مئة ومنه» يوم لم يكن هناك تنقيط. ما حدا بعبد العزيز فهمي إلى اقتراح الكتابة بالأحرف اللاتينية لتفادي ذلك كله، خاصة مشكلة الإعراب «أي أواخر الكلمات وحركاتها الإعرابية» ورفض مجمع اللغة طرحه واقترح الحكيم التسكين عملا بالقاعدة «سكن تسلم» لكن صار مبعثا للتندر لأنه بهذا المقترح سيعقد الأمر أكثر. كل ذلك يحيل على الإشكالات اللغوية الكثيرة والتي ظلت بلا حل علمي لا يجدي فيها التقديس والتمجيد.

إن تكريس 18 ديسمبر من كل عام يوما عالميا للغة العربية، هو انتصار لهذه اللغة الحضارية التي يتكلمها عالم عربي له مكانته الجيوسياسية والاستراتيجية فهو يتوسط العالم ويزخر بمختلف الثروات والأسواق والتعاملات مع العالم، ويعرف كثيرا من المشاكل السياسية والإثنية والطائفية، والردات الحضارية وسط صعود التيارات الدينية وتراجع الخطاب العلمي والعقلي، وغلبة العاطفة والانفعال، والركون إلى الدعة والاستهلاك ومجابهة كل أشكال المطالبة بالمساواة بين الرجل والمرأة والديمقراطية والتضييق على الحريات الفردية وغياب الشفافية والعدالة الاجتماعية والفصل بين السلطات وسيادة القانون، لن يكون ذلك كله في مصلحة العرب ولا العربية، لأن اللغة ليست سوى صدى لنتاج العقل وعطائه وتفاعله مع محيطه الإنساني، إن تطور المجتمع العربي وسيرورته نحو الديمقراطية والتناغم بين مختلف فئاته والتركيز على الحلول العلمية للواقع كفيل بتجديد المجتمع، ودفعه إلى واجهة المنافسة مع الشعوب المجاورة والنامية وبهذا تستعيد العربية مكانتها الحقيقية عالميا ويوصل الحاضر الطامح بالماضي الزاهر.