الغيمة الباكية(7)

عبد الله عيسى السلامة

الغيمة الباكية

عبد الله عيسى السلامة

الفصل السابع

تحكيم

رشف الكولونيل رشفة من فنجان القهوة المرة، التي صبها له العبد شوكان الوراد، وتلمظ بها قليلاً، ثم التفت إلى يساره، وقال وهو يبتسم: إن قهوتكم طيبة جداً يا شيخ مسلط، لولا أنها شديدة المرارة، وثخينة كالدبس..

قال الشيخ مسلط مبتسماً: لو لم نعود أنفسنا على شرب القهوة المرة صباح مساء، لما استطعنا أن نتحمل مرارات العيش في هذه البوادي، يا سعادة الكولونيل لوفنتال..

قال لوفنتال مجاملاً: يبدو أن هذا صحيح إلى حد ما.. فالغلام عندكم متى بلغ سن الرجولة، صار لديه من الجلد وتحمل مشاق الحياة، ما لا يملكه إلا أشداء الرجال في بلادنا.. ولكن يبدو أن بيئة الصحراء بحد ذاتها، تؤثر تأثيراً كبيراً في هذا المجال، إضافة إلى القهوة المرة، بل ربما قبل القهوة المرة.. لا ترى ذلك..!؟

تضاحك الرجلان.. وقال الشيخ مسلط: هذا صحيح يا سعادة الكولونيل.. ويبدو أن السنوات القلائل التي أمضيتها في بلادنا، أكسبتك خبرة كبيرة في طبيعة البلاد وطبيعة أهلها..

كان مجلس الشيخ مسلط بن صطام العليان، شيخ قبيلة الصواهيد، يضم أكثر من مئة رجل، يجلسون بتوتر صامت في بيته ذي الأعمدة التسعة "المتوسع" والقهوة المرة تدور عليهم بين حين وآخر، يقدمها لهم شوكان الوراد، عبد الشيخ مسلط.. وهم بانتظار افتتاح القضية التي اجتمعوا من أجلها في هذا المجلس الحاشد.. في تلك الضحوة البهيجة من اليوم السابع والعشرين من شهر آذار، من عام ألف وتسعمئة وواحد وأربعين ميلادية.

كان فصل الربيع بشكل عام، موسم التقاء وتجاور واحتكاك بين القبائل والعشائر في البادية، إذ تخرج القبائل بقطعانها إلى البادية التماساً للكلأ والمرعى، بعد شهور الاستقرار والسكون في بيوت الطين المترامية على أطراف البادية، في فصل الشتاء..

وكما أن للربيع جماله وبهجته وخيراته الكثيرة بالنسبة للبدو.. فإنه له كذلك مشكلاته ومنازعاته، التي تثور بين البدو نتيجة للاحتكاك في المراعي وعلى موارد الماء..

ولقد حدثت ملاسنة بين عقاب بن الشيخ طراد المنصور، وبين شاب آخر من قبيلة "الهشاتة"، حول مورد ماء، من أجل الأسبقية في توريد الإبل، ثم تحولت الملاسنة إلى مشاذة.. فعير الشاب الهشاتي خصمه "عقاب" بأنه نذل "خايس"، ولولا ذلك لما رفضت ابنة عمه الزواج منه. فغضب عقاب غضباً شديداً، وهجم على خصمه الشاب "فلحان الصاوي" وظل يطعنه بالخنجرحتى لفظ أنفاسه.. كان ذلك في أوائل شهر آذار من العام نفسه.. وفر عقاب متوارياً عن الأنظار.. وكان لم يمض على خروج قبيلة المداعيس إلى البادية سوى عشرة أيام.. وقد هاجمت قبيلة الهشاتة، وتجمعت للهجوم على المداعيس، إلا أن بعض العقلاء من القبيلة والقبائل الأخرى المجاورة تدخلوا في الأمر، وأخمدوا نار الفتنة إلى حين، ولا سيما أن الهشاتة لا قبل لهم بمحاربة المداعيس إذا جد الجد.. وعلى هذا خففوا من حدة هيجانهم، لا سيما هيجان الشباب، الذين لا خبرة له بموازين القوى بين القبائل.. فقد نصحهم وجهاؤهم وكبارهم بالتريث والصبر، حتى يجلسوا مع أخصامهم، لدى العوارف المشهورين.. وقد اتفق الطرفاان المداعيس والهشاتة، عن طريق وسطاء الخير، على الاحتكام عند الشيخ مسلط بن سطام العليان، شيخ قبيلة الصواهيد المشهور بحكمته وإنصافه.. فضلاً عن أنه عارفة ابن عارفة.. كما كان جده عليان عارفة في زمانه، وحل كثيراً من المشكلات المستعصية بين عربان البادية..

وقد انعقد هذا المجلس في ديوان الشيخ مسلط لهذه الغاية.. وأعلمت الحكومة بذلك، فحضر الكولونيل لوفنتال مع بعض ضباطه، للمساعدة في حل المشكلة وحقن الدماء، بصفتهم يمثلون سلطة الدولة.. وللتدخل المباشر إذا حدث احتكاك عنيف بين القبيلتين المتخاصمتين.. وقد حضر المجلس الكولونيل الإنجليزي شوفان، بصفته ضيفاً زائراً، بدعوة من نظيره لوفنتال.. كما حضر أعضاء بعثة الاستشراق، بصفتهم ضيوفاً من حيث الظاهر، وإن كانت مهمتهم تقتضي منهم في الأصل عدم إضاعة أية فرصة من هذا القبيل.. هذا فضلاً عن مندوبين يمثلون القبيلتين المتنازعتين.. وكلهم من المشايخ والوجهاء في كلتا القبيلتين.. فعن قبيلة المداعيس حضر الاخوة الخمسة، وبعض أبنائهم وأبناء عمومتهم وبعض وجهاء العشاير.. وعن الهشاتة حضر والد القتيل "نساف بن طامي الصاوي" وبعض اخوته وأبناء عمومته وبعض وجهاء الهشاتة.. كما حضر زعماء قبيلة الصواهيد ووجهاؤها، وهي قبيلة العارفة، ليكونوا عوناً على الخير وحقن الدم..

قص الشيخ مسلط قصة لطيفة، عن العفو والتسامح.. وأورد بعض الأمثال والحكم، التي يحفظها عن آبائه وأجداده.. وعن أصحاب الفهم والمعرفة في البوادي.. وكان في ذلك يوجه كلامه إلى لوفنتال وشوفان.. ويود في الوقت ذاته إسماع الآخرين.. وكان هذا تمهيداً منه لافتتاح مجلس العرافة.. وكان كل طرف من الحضور، يراقب ما يجري في المجلس من زاويته الخاصة.. بصمت وأدب وتوتر قلق.. الشيخ طراد يراقب توجهات الحديث، خوفاً من أن يجحف العارفة بحقه، أو يحمله فوق ما يستطيع من الدية، أو يفرض عليه وعلى قبيلته الجلاء عن المنطقة..

واخوة طراد، لدى كل منهم حساباته الخاصة.. وأكثرهم يرى أن "عقاب" رجل متهور طائش، سبب لهم البلاء، وجر عليهم المشاكل.. على اختلاف بين أفكارهم من مستعد لتحمل الأعباء، التي يفرضها العارفة على القبيلة، تضامناً مع الشيخ طراد.. إلى رافض مقدماً في سره، لكل ما تحمله القبيلة من دية أو نفقات أو جلاء.. إلا أن هذا لا يطرح في مجالس الغرباء، ولا بد فيه من حديث خاص داخل القبيلة..

أما زعماء الهشاتة، فيطمعون في أن ينصفهم العارفة بعد أن ألقوا أسلحتهم، واستجابوا لصوت العقل والمنطق، ولم يقدموا على مجزرة لا يعلم عدد قتلاها إلا الله..

وأما شوفان ولوفنتال، فكل منهما يراقب ما في المجلس من نقاط قوة أو نقاط ضعف، ليفكر بأفضل طريقة لاستثمارها آنياً أو لاحقاً.. حسب الظروف..

أما الباحثون ففي رأس كل منهم مجموعة أفكار تتعلق بمهمته، من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن مجالسهم تحتاج إلى رصيد جيد من المفردات البدوية والعبارات والتراكيب والطرائف، التي يفعمون بها أوقات راحتهم بالبهجة والسرور والدعابات اللطيفة..

وأما الشيخ مسلط نفسه، فينظر من زوايا عدة، أهمها أنه مضيف وعليه أن يعرف كيف يتحاشى أي خلل في واجبات الضيافة.. كما يجب عليه بصفته عارفة أن يحافظ على نزاهته ونقاء سمعته بين البدو.. كما أنه يفكر في الوقت ذاته، في كيفية حل المشكلة بأسلم الطرق وأكثرها إنصافاً للطرفين، ويستعرض من أجل ذلك مجموعة من الحوادث المماثلة التي مرت معه بصفته عارفة، أو عليها ويستنبط منها، ما يفيده في قضيته الراهنة..

كان الشيخ مسلط قد جاوز الستين من عمره، إلا أن جسمه الممتلئ، والشعر الأسود في شاربيه الثخينين ولحيته الخفيفة المقصورة على أسفل الذقن.. كل ذلك يدل على أن لديه حيوية وفتوة.. وقليل من الناس، من يلاحظ أن السواد الشديد اللمعان في شعر وجهه هو بسبب الصبغة السوداء التي لا تفارق قارورتها الصغيرة جيبه أبداً.. كما أن أصول الشعر في وجهه، ما تكاد تبرز ببياضها الثلجي الناصع، حتى تنقلب بلمسة يد خفيفة إلى سوداء لامعة جميلة تسر الخاطر.. أما شعره الطويل الثخين الأشهب المسدل على كتفيه فقلما يظهر من تحت المنديل، ولا سيما أنه حريص على إخفائه بشكل عام، كيلا يظهر التناقض بين السواد في شعر الوجه، والشهبة في شعر الرأس..

ابتسم الشيخ مسلط، وهو يوجه كلامه إلى لوفنتال وشوفان المتجاورين في المجلس، وإلى الضيوف عامة وقال:

يا مرحباً.. يا أهلاً وسهلاً.. يا مرحباً بالركايب التي حملتكم.. يا هلا بالنشامى.. صدق من قال "الصلح سيد الأحكام".. ثم التفت الشيخ مسلط إلى والد القتيل وأعمامه قائلاً: اعرضوا يا نشامى حجتكم.. حتى يسمعها سعادة الكولونيل، والضيوف الكرام الآخرون.. تفضل يا شيخ نساف.. يا ابن طامي.. تفضل عند حجتك، وراقب الله فيما تقول..

قال نساف بتأثر وانفعال: وأيش حجتي يا شيخ مسلط.. أيش حجتي يا أبا حمود.. ناس عدوا على ابني ظلماً وعدواناً وقتلوه.. قتلوه الظهر الحمرا.. بلا ذنب جناه.. وهل حجتي تحتاج إلى شرح وتفصيل.. الناس كلها تعرف أن ابني ماله ذنب.. وأن الرجل "عقاب" الله يجازي الظالمين، عدا عليه، وقطع جسمه بالخنجر مثل ما تقطع الخروف الوردي يا أبا حمود.. وأنت عارف يا أبا حمود القصة كلها.. والله ينتقم من الظالمين.. ولا يضيع حق المظلومين.. ونحن جئناك للإنصاف وتحصيل الحقوق.. ورجال الدولة الله يحفظهم بيننا يسمعون ويرون.. هذي حجتي.. وأنت يا أبا حمود ملبس عباءة من طرفنا.. فصل ولبس.. وما علينا إلا السمع والطاعة، لعارفتنا ورجال دولتنا الأكارم..

كان حديث نساف مؤثراً فعلاً.. وقد خيمت على الحاضرين لحظات صمت حزين، أمام هذه الحجة البسيطة البريئة، من رجل فقد فلذة كبده، وحيل بينه وبني الانتقام الذي يشفي صدره ويبرد حرارة اللوعة في أعماقه..

قال الشيخ مسلط محاولاً التخفيف من إحساس الرجل بمصابه: صبرك الله يا أبا فلحان.. وعوضك خيراً.. ونحن كلنا أموات يا ابن الحلال.. الذي لا يموت منا اليوم يموت غداً أو بعد غد.. أين آباؤنا وأجدادنا يا أبا فلحان.. كلهم ناموا تحت هذا التراب الذي نمشي عليه.. ونحن مصيرنا مثل مصيرهم..

قال نساف بتأثر: صدقت يا أبا حمود.. والله لو كان ابني عليه حق، لم أسفت عليه.. المبطل يا أبا حمود يتحمل نتيجة بطله وظلمه للناس.. لكن الرجل بريء مثل الحمامة البيضاء.. وجاءه عقاب، ففعل به هذه الأفاعيل.. والله يجازي الظالمين..

قال العارفة برصانة وهدوء: خير.. يا أبا فلحان خير.. كل صاحب حق يصله حقه إن شاء الله.. نحن نفعل الذي علينا، وفي النهاية الله ما تضيع عنده قطرة دم..

ثم التفت الشيخ مسلط إلى طراد، وهو يقول: وأنت يا شيخ طراد.. تفضل اعرض حجتك حتى يسمعها ضيوفنا الأكارم ونسمعها معهم..

قال طراد جاداً: أنت يا شيخ مسلط ابن هذه البوادي.. وخبرتك واسعة بعادات البدو وتقاليدهم.. وفوق هذا وذاك، أنت عارفة أباً عن جد.. ومر عليك حلو وحامض ومر.. وأنت عارف يا أبا حمود القول الذي يردده عربان البادية من أولها إلى أخرها، والذي يقول:"النار ولا العار".. والرجل الذي يتعير بنقص ما هو به، يصعب عليه تحمل العار.. وابني عقاب شاب كله فتوة وعزم، وما يصبر على تحمل الضيم، ولا يطيق أن يسمع كلمة العار توجه إليه.. وأنت عارف يا أبا حمود.. العار ما يغسله غير الدم.. وأنت يا أبا حمود، لو كنت في مكان ابني وأنت في سن الشباب.. وعيرك رجل بعار ما يليق بكرامتك، ماذا كنت تفعل به يا أبا حمود..!؟ هل تضحك وتدير له ظهرك وتمضي، حتى تصير سمعتك مضحكة للعربان..!؟ هذا الذي صار يا أبا حمود مع ابني عقاب الله يصلحه ويهديه.. عيره الرجل فلحان الله يرحمه، بأنه نذل خسيس، وبنت عمه رفضت الزواج منه لهذا السبب.. والعربان كلها تعرف ابني "عقاب" وتعرف بأسه وصولته.. وبنت عمه ما رفضته إلا لهذا السبب.. هي متمسكة بالدين ما تحب المشاكل، وهو سبع من سباع البوادي.. ولولا خوف الفتنة داخل القبيلة، لكان عقاب انقض عليها مثلما ينقض الصقر على الحبارى، وانتزعها من بيت أبيها والأنوف راغمة.. لكن مخافة الفتنة هي التي منعته من ذلك.. وبنت عمه المستورة، مريضة الآن وما لها طمع بالرجال.. ولا لها عين تقع على رجل لو كان خالد بن الوليد، الذي تحدثت عنه الكتب والقراطيس.. هذي هي حجتي يا أبا حمود.. واسأل الناس الذين حضروا ساعة الشيطان، كيف جرت الأمور.. وأنت موكل يا أبا حمود من طرنا بحل القضية بالشكل الذي يرتضيه دينك ووجدانك.. تفضل يا أبا حمود، فصل لنا، ونحن نلبس، والثوب الذي تلبسنا إياه ما نحيد عنه ولا نأباه..

رانت فترة صمت على المجلس، واقترب الشيخ مسلط من لوفنتال، وهمس في أذنه قائلاً: ما رأيك يا سعادة الكولونيل؟

قال الكولونيل همساً: أنت الحكم، وقد ارتضاك الطرفان وقبلاً حكمك مقدماً.. وما عليك إلا أن تحكم ونحن نتولى متابعة التنفيذ.. والذي ينكل نعرف كيف نتصرف معه.

قال مسلط: الحكم سيكون ثقيلاً على المداعيس، وأخشى أن ينفضوا العارفة.

قال لوفنتال: ماذا تقصد بتنفيض العارفة؟

قال مسلط: أي ينزعون ثقتهم منه، ويطالبون بالاحتكام أمام عارفة آخر.

قال لوفنتال: لا تخش من ذلك.. فإننا سنتولى الأمر بحزم وصرامة، ونخضع الجميع للحكم الذي تقضي به.

قال مسلط: ائذن لي أن أتحدث مع كل من الطرفين على انفراد.

قال لوفنتال: تفضل خذ حريتك.. ونحن نراقب الموقف.

 رفع مسلط صوته منادياً الشيخ "طراد" قائلاً: تفضل معي يا أبا عقاب لنتحدث قليلاً على انفراد..

فقام طراد، ومشى وهو يعرج عرجاً خفيفاً حتى وصل إلى مسلط فأمسك هذا بيده، وخرجا من المجلس، بعد أن قال مسلط معتذراً من الحاضرين: بالإذن يا ضيوف.. نرجو المعذرة..

وعلى بعد عشرين متراً تقريباً من البيت، جلسا القرفصاء وقال مسلط بهدوء وحذر وجدية: الموقف يا أبا عقاب خطير.. وأرجو أن نتعاون على تلاقي عواقبه الوخيمة.. أنتم قتلتم الرجل ظلماً وعدواناً.. وكلام الشباب الطايشين، مهما كان عنيفاً ومؤثراً، لا يحل الدم الذي حرمه الله، وأنا أرى أن نرضي هؤلاء الناس، ونطيب خاطرهم حقناً للدماء، ودفعاً للفتن.. والذي يخسر ابنه يا شيخ طراد، ما يملأ عينه مال الدنيا كلها.. فأرجو يا أبا عقاب أن تقدر الموقف، وأن تساعدني على إرضاء هؤلاء الناس بالمال، تعويضاً عن دم ابنهم الذي أرقتموه على رمال البادية.. ولعل الله يشفي غل صدورهم ويريحكم من الثارات والفتن التي لا يعلم نتائجها إلا الله..

قال طراد متوجساً: وأيش تريد يا أبا حمود..؟

قال مسلط: أريد أن أقضي لهم بمئة ناقة، وألف  ليرة رشادية من الذهب وأن تجلو قبيلتكم عن المنطقة خمس سنوات..

ارتعدت فرائص طراد، وبدأ شارباه يهتزان من الانفعال.. وبدا الغضب على وجهه وقال: الله الله يا شيخ مسلط.. الله الله يا أبا حمود.. وهل لك عندنا تأثر يا رجل؟ تحملنا دية عشرة رجال، وتطلب منا الجلاء فوقها؟ والله لو قتلنا ابنك لا سمح الله، لما حق لك أن تحقد علينا هذا الحقد، وتحملنا هذا الحمل الثقيل.. راقب الله يا رجل.. والله لو كان الزير سالم حياً في هذ العصر، ما طلب من بني مرة هذه الطلبات على قتل كليب سيد العرب..

قال مسلط بجدية: أنتم قتلتم نفساً بريئة يا أبا عقاب.. ودم الإنسان لا يعدله ثمن في الدنيا.. وهذا مما لا يخفى على فطنتك يا أبا عقاب..

قال طراد: لكن هذا ثقيل جداً يا شيخ مسلط.. هذا الحمل ثقيل، ولا يتحمله أحد.. وأنت تريد أن تحل المشكلة لا تعقدها.. صحيح أن رجال الحكومة يمثلون سلطة الدولة، وينفذون قوانينها لكن القبائل لها عاداتها وقوانينها، كذلك يا أبا حمود.. وإذا كنت تعتبر قتلنا للهشاتي ظلماً وعدواناً، فأرجو ألا يقابل ظلمنا بظلم أشد منه، فنضطر أن نأباه، ونحمل عواقبه للذي يكون السبب فيه.. وعهدنا بك أنت يا أبا حمود لماح، وصاحب فطنة.. والدولة يا أبا حمود ليس بيننا صباح مساء.. وعملها هو تطبيق القانون لا حماية الناس في البوادي.. والرجل الذي لا يستطيع حماية نفسه من القتل، لا تحميه سلطة القانون.. فنرجوك ألا تعرضنا لضغط الحكومة وقوانينها، وتضطرنا أن نتعامل معك بقوانين البادية.. يا أبا حمود..

انتبه الشيخ مسلط إلى تهديدات طراد، إلا أنه كتمها في نفسه، ولم يظهر أية ردة فعل تجاها.. فليست هذه هي المرة الأولى، التي يجابه فيها بمثل هذا التهديد.. كما أنه يتوقع مثل هذا الموقف من الشيخ طراد، على ضوء ما يعرفه عنه شخصياً من سنوات طويلة، وما يعرفه عن قبيلة المداعيس، التي لا تحتمل أي إجحاف بحقها، من أية جهة صدر.. إلا أنه عود نفسه منذ زمن طويل، على هذا الأسلوب الذي تعلمه من والده الشيخ سطام:"اطلب الكثير من المعتدي حتى يقر لك بالحق المناسب، وادفع القليل لصاحب الحق، حتى يرضى منك بأية زيادة مناسبة.." وقد جرب الشيخ مسلط هذا الأسلوب مرات كثيرة، ونجح فيه، وكان يحظى برضى الأطراف جميعاً..

قال الشيخ مسلط باسماً: أنت كفؤ لكل أمر مناسب يا أبا عقاب.. لكن لا تنس يا شيخ طراد أني لست خصماً لك، بل صديق قديم، ووالدي كان صديقاً لوالدك يرحمهما الله.. أنا عارفة يا شيخ طراد.. حكم.. والحكم يجب عليه الإنصاف.. ولا بد من إرضاء المظلوم قبل إرضاء الظالم.. فماذا ترى أنت يا شيخ طراد؟ كم تقدر الدية التي يجب أن تدفعها للهشاتة..؟

قال طراد: هذي القالة ليست أول قالة بيننا وبين الهشاتة يا أبا حمود.. بل لها أمثال سبقتها.. منذ عشرين سنة قتلنا لهم ثلاثة رجال، ودفعنا دية عن كل رجل مئة ليرة رشادية وعشر نوق..

ضحك الشيخ مسلط وقال: والرجل الذي قتله الهشاتة منكم، منذ اثني عشر عاماً، كم قبضتم ديته يا شيخ طراد؟

قال طراد وهو يلمس طرف شاربه: هذي قصة قديمة يا شيخ مسلط.. وأنا ما أحفظ القضايا القديمة..

ضحك مسلط وقال: تحفظ ما قبل عشرين سنة، ولا تحفظ ما قبل اثنتي عشرة سنة يا شيخ طراد..؟ طيب.. ريح بالك.. أنا أذكرك.. أنتم قبضتم من الهشاتة في حينها يا شيخ طراد، خمسمئة ناقة، وثلاثة آلاف ليرة رشادية، وفوق هذا جلاء سبع سنوات عن المنطقة تجاوزتم بعدها عن ثلاث سنوات منها، بعد أن أمضى الهشاتة أربع سنوات في بلاد الغربة.. ألا تذكر ذلك يا أبا عقاب؟

قال طراد جاداً: وهل دمنا دم الهشاتة يا شيخ مسلط..؟ رجال المداعيس مثل رجال الهشاتة يا أبا حمود..؟ هل يقبل دينك ووجدانك أن تسوقنا مساق الهشاتة يا شيخ الصواهيد!؟ نحن المداعيس يا شيخ مسلط.. وأنت عارف.. نحن إخوة "هولة".. يا أبا حمود..

كان الشيخ مسلط يعرف قوانين البادية جيداً.. قوانين القوة والضعف.. والكثرة والقلة.. والإقدام والمسكنة.. لذا لم يستغرب هذا المنطق من شيخ المداعيس، بل يجب عليه أن يعترف به، وأن يقره على أنه أمر واقع، لا بد من أخذه بعين الاعتبار، لمن يتصدى لحل مشكلات العربان في البوادي.. إلا أن هذا المنطق، ليس المعيار الوحيد للأحكام، وإن كان من أبرز المعايير وأكثرها أهمية.. ويضاف إليه قضايا الحق، والإنصاف، وسلطة الدولة.. ومظاهر العفو والتسامح.. وغير ذلك من الأمور التي تشكل في محصلتها العامة، معياراً مرناً متوازناً نسبياً، تدرس على ضوئه الأحكام..

قال الشيخ مسلط باسماً: أنا أريد أن أضعك في مكاني يا شيخ طراد، فكن أنت عارفة هذه القضية، وأنا مكانك.. وأطلب منك أن ترضيني وترضي الهشاتي، وترضي الحكومة، وترضي ضميرك ووجدانك.. وترضي ربك قبل كل شيء.. فبم تحكم يا صاحب النخوة والناموس؟

قال طراد، وقد بدأ شارباه يهتزان من الانفعال والتأثر: والله إنك أحرجتني يا أبا حمود.. وأنت تعرف أنا قضايا الحقوق شيء، وقضايا النخوة والناموس شيء آخر.. أنا لو طلبت مني مالي كله، لسلمته إلى عبيدك ورعيانك يسوقونه إلى أمام بيتك يا شيخ مسلط..

حين رأى مسلط أن أريحية طراد قد تحركت، أحب عدم إضاعة الفرصة، فقال له باسماً: أنا أظلم نفسي قبل أن أظلمك يا شيخ طراد.. وأنا عندما أطلب منك هذا المال، أطلبه من نخوتك وشهامتك، لا من قوانين البادية ولا من قوانين الدولة.. وأنا إكراماً لشواربك يا أبا عقاب، أعفيكم من الجلاء، وأطلب غياب ولدك عقاب عن القبيلة بضعة شهور حتى تندمل جراح الهشاتة.. أما من حيث المال، فأطلب منك خمسين ناقة منها ثلاثين ناقة، وثلاثمئة ليرة لقاء العار الذي عير الهشاتي وخمسمئة ليرة رشادية.. وأنزل لك منها ثلاثين ناقة، وثلاثمئة ليرة لقاء العار الذي عير الهشاتي ولدك به، فاستفزه وأثار حميته، حتى فقد السيطرة على أعصابه وقتل خصمه.. فالقتل وإن كان عدواناً، يعد نتيجة لاستثارة الحمية في رأس ولدك.. ولهذا خففت عنك كثيراً من هذا الحمل الثقيل.. اهتز شاربا طراد طرباً لهذا الحكم، برغم كونه أثقل في العادة من دية الرجل التي تعارف عليها أبناء البادية عامة.. وذلك لأنه وجده خفيفاً جداً بالنسبة للطلب الأول.. وهنا أظهر أسلوب مسلط، نجاحه مرة أخرى.. فهو يعلم أن الهشاتة يرضون بنصف هذه الدية، قياساً على ما سبق وأخذوه من المداعيس من قبل.. ولقد كان في ذهنه، أن يحاور والد القتيل ويعرض عليه عشر نوق، ومئة ليرة رشادية، فإن لم يرض بها زادها إلى عشرين ناقة ومئتي ليرة فيراها الهشاتي كنزاً ثميناً.. دون أن يطالب بجلاء المداعيس، ولو يوماً واحداً، لأن القبيلة القوية لا تجلو من الضعيفة.. فالجلاء إنما يكون خشية الانتقام، والضعيف لا يفكر بالانتقام، ولا سيما بعد أن ينال حقه في مجلس صلح مشهود، ويحفظ شيئاً من ماء وجهه أمام القبائل..

عاد الرجلان إلى المجلس، وقد علت البسمة وجه مسلط، بينما تظاهر طراد بالعبوس موحياً أنه غير راضٍ عما دار من حديث.. وحين جلس طراد في مجلسه، توجه مسلط إلى نساف الهشاتي، وجلس بجانبه، وهمس في أذنه قائلاً: أخذت لك دية مضاعفة إكراماً لحكمتك، وتقديراً لموقف قبيلتك الكريم، من دفع الفتنة ومحاربة الشيطان.. مئتي ليرة رشادية من الذهب الأحمر، وعشرين ناقة.. يا أبا فلحان..

تهلك أساير نساف إلا أنه تظاهر بعدم الرضى، وقال: وهل سيظل قاتل ابني يتجول في المرابع، ويخطر أمام ناظري صباح مساء..؟

قال مسلط باسماً: وهذه القضية حللتها لك يا أبا فلحان.. عقاب لن يمشي خطوة واحدة في مرابع قبيلته المجاورة لكم حتى تصفح عنه أنت وكل أفراد قبيلتك.. وأنت رجل شهم، وقلبك كبير ما يحمل الحقد ولا يعرف الغل والضغينة.. سيغيب الآن عقاب شهوراً طويلة، ومن الآن حتى تلك الأيام.. لا نعلم ماذا يصنع الله بنا، يا أبا فلحان..

قال نساف: كثر الله خيرك يا أبا حمود.. وأبقاك من السالمين. انتقل مسلط إلى صدر المجلس، بجوار الكولونيل لوفنتال، وهمس في أذنه قائلاً: أتأذن لنا بنطق الحكم يا سعادة الكولونيل!؟

قال الشيخ مسلط، رافعاً صوته ليسمعه كل من في المجلس، موجهاً الخطاب إلى الخصمين المتقابلين:

يا نشامى.. يا ضيوفنا الكرام.. الله أمر بالصلح.. ونبيه الكريم أمر بالصلح.. وعادات العرب وتقاليدها تأمر بالصلح وتطلب من الناس العفو والتسامح.. وأنتم هنا، يا مداعيس ويا هشاتة، لستم في مجلس قضاء.. أنتم في مجلس تحكيم وصلح، رضيتم به كلكم.. وهؤلاء رجال الحكومة الأكارم يسمعون.. وأنا الآن أنطق بالحكم الذي وفقني الله إليه.. والذي ينكل على نفسه، ويتحمل مسؤولية نكوله أمام الله وأمام الحكومة، وأمام القبائل.. وأرجو من سعادة الكولونيل أن يكلف أحد رجاله بكتابة نص الحكم حتى تتخذ الدولة إجراءاتها بتنفيذه وتحاسب الذي ينكل..

أمر الكولونيل أحد عناصره بمباشرة الكتابة.. وبدأ العارفة بتلاوة نص الحكم:

يا شيخ طراد، يا ابن منصور المطلق الحردان، يا شيخ قبيلة المداعيس.. يجب عليك أن تدفع لولي القتيل الذي قتله ابنك عقاب، للشيخ نساف بن طامي الصاوي الهشاتي، مئتي ليرة رشادية من الذهب.. وعشرين ناقة ليس في واحدة منها عيب.. وأن يغيب ابنك عن مجاورة الهشاتة أهل القتيل، اثني عشر شهراً كاملة، لا يراه فيها أحد من أهل القتيل أو أقاربه.. وإذا تجول في مرابع الهشاتة، أو قريباً منها، فدمه مهدور لأهل القتيل، ولا يحق لأحد أن يطالب بثأره ولا بديته.. لأنه يعتبر متحدياً لأهل القتيل.. والذي يتحدى الناس عليه أن يدفع الثمن من حسابه.. والله على ما نقول وكيل..

حكم العارفة: الشيخ مسلط بن سطام العليان، شيخ قبيلة الصواهيد في ديوانه.. بحضور والد القاتل وأعمامه الأربعة، وعشرين رجلاً من وجهاء قبيلته، وحضور والد القتيل وأعمامه الثلاثة، وثلاثين رجلاً من وجهاء قبيلته، وحضور خمسة وعشرين رجلاً من وجهاء قبيلة الصواهيد وبإشراف سعادة الكولونيل لوفنتال وعدد من الضباط الفرنسيين، وحضور سعادة الكولونيل الإنجليزي شوفان، وبواحيث بعثة الاستشراق العلمية، وترجمانها..

حرر في السابع والعشرين من شهر آذار عام ألف وتسعمئة وواحد وأربعين.

التوقيعات: العارفة، الكولونيل لوفنتال، والد القاتل، والد القتيل.

كانت الساعة قد جاوزت الثانية، حين انتهى الشيخ مسلط من تلاوة نص الحكم.. وقد طلب من الفريقين بعد أن سمعا الحكم، أن يتصافحا ويتعانقا فنهض ونهض معه لوفنتال وكل من في المجلس، واقترب العارفة والكولونيل من الطرفين، فقربا كلا منهما باتجاه الآخر، وتمت المصافحة والمعانقة، وتقبيل اللحى، وأمسك العارفة بمنديل أبيض سلمه لوالد القتيل، قائلاً: شق راية القتيل يا شيخ نساف، فأمسك نساف بالمنديل وشقه بيديه، كناية عن أنه أخذ حقه، ومتت القضية..

طلب بعض الضيوف الانصراف، فأعلمهم الشيخ مسلط بأن الغداء جاهز، ولا يمكن أن يغادر أحد المجلس حتى ينال نصيبه من الطعام.. فجلس الجميع، وأمر مسلط العبد شوكان الوراد أن يدور بدلة القهوة على الضيوف.. فقام شوكان وبدأ بصب القهوة من عند لوفنتال، بصفته أبرز شخصية في المجلس، ودار على الجميع بالقهوة، ثم انتهى بها إلى موقد النار..

كان الكولونيل شوفان يراقب العبد وهو يدور بدلة القهوة من رجل إلى آخر.. يراقب حركاته وسكناته، وسمته الوقور وأدبه ودماثته.. لقد لفت نظره منذ صب له أول فنجان قهوة.. إنه ليس كالعبيد الآخرين.. إنه رصين طويل الصمت، يجيب على الأسئلة باختصار بليغ، ويضحك تبسماً.. نبيه، دقيق الملاحظة.. فضلاً عن ملامح وجهه الطرية برغم سمرته الواضحة، وأصابع يديه الطويلة الناعمة، وأنفه الأشم، المنساب بوسامة تحت عينين تشعان ذكاءً... طلب منه أن يناوله كأساً من الماء، فنهض برشاقة رصينة، وقدم له كوباً من الماء، وابتعد عنه قليلاً، حتى شرب، فتقدم منه بلطف، وتناول من يده الكوب، ووضعه في مكانه، وعاد فجلس إلى جانب موقد القهوة..

تأمله شوفان طويلاً.. ليس عليه سماء العبيد، ولا شكله شكل قهواتي.. ترى ماذا يكون..؟! ومن يكون؟ إن في ذهن شوفان ملامح غامضة لشخصية مشابهة، لا يعرف أين رآها وكيف ومتى..!؟

سأل عنه الكولونيل معلمه الشيخ مسلط همساً: منذ متى يخدمك هذا العبد يا شيخ مسلط؟

فكر الشيخ مسلط قليلاً ثم قال بهدوء: منذ سنة تقريباً..

قال شوفان: وقبل أن يأتي إليك، أين كان يعمل؟

قال مسلط: ذكر لي أنه عمل قهواتياً عند عدد من مشايخ البلاد وزعمائها، في حوران، وفي أرياف حماة وحمص وحلب، والبادية والجزيرة..

قال شوفان: ومن أين أصله؟ ألم يذكر لك شيئاً عن ذلك؟

قال مسلط: ذكر أن أباه وأجداده عاشوا في نجد.. وأصولهم القديمة من أفريقية..

هز شوفان رأسه هزات عدة وتمتم: لا بأس.. لا بأس.. وقد قرر في نفسه شيئاً.. لا بد من معرفة أصول هذا الرجل.. كل ما فيه يوحي بأنه ليس عبداً.. وصورته ليست غريبة عن ذهن الكولونيل تماماً.. لكن أين رآها وكيف.. هذا ما يجب البحث عنه بعناية..

لاحظ شوفان نظرات الضابط الإنجليزي نحوه، فتجاهلها، إلا أنه ترب في ذهنه أمراً.. حتى هنا تتابعه عيون أولاد الحرام..!؟

حضر الغداء.. لقد ذبح الشيخ مسلط عشرين خروفاً وردياً، وضعها في عشر صواني كبيرة، فوق تلال من الرز.. وخصص واحدة من الصواني للضيوف الأجانب، الضباط والبواحيث والترجمان.. أما الآخريات فوضعن أمام الضيوف الآخرين.. ثم أرسل من ينادي في المضارب، لحضور الغداء.. وكان قد استحضر مجموعة من الملاعق الجديدة للضيوف الأجانب قدمها لهم.. بينما شمر الآخرون عن أيديهم، وباشروا الأكل بأصابعهم.. وبعد أن شبع الضيوف البدو مسح كل منهم يده بحذائه، وأكمل المسح بلحيته وشاربيه، حتى بدأت وجوههم تلمع من آثار الدهن.. وانصرف رجال القبيلتين المتخاصمتين، ثم شبع الأجانب، وكان شوكان يحمل الصابون وإبريق الماء، فصب على أيديهم، وقدم لهم المناشف، فمسحوا أيديهم ثم دار عليهم وعلى الحاضرين بدلة القهوة.. فشربوا وانصرفوا.. وقبل صعود شوفان إلى سيارة الجيب العسكرية، التقت عيناه بعيني شوكان، وكأن أحدهما يعرف الآخر منذ زمن بعيد..

جلس رجال القبيلة الذين دعوا مؤخراً، حول أواني الطعام، حتى شبعوا، وحمل الخدم والعبيد والأجراء الأواني بما تبقى فيها من طعام، ليأكل منها نساء الشيخ وأولاده..

***

كان أعضاء كل فريق من الفرقاء الذين حضروا مجلس التحكيم، يتناجون فيما بينهم، بعد أن خرجوا من المجلس.. وكان رجال القبائل يمتطون الخيل، والضباط الأجانب، ورجال البعثة، يركبون سيارات الجيب العسكرية الخفيفة المغطاة بقماش مشمع ترابي اللون.. وكانت اتجاهاتهم مختلفة، والمسافات متفاوتة.. ومناحي الحديث متباينة..

قال غزوان لأخيه طراد، وهما متجاوران على ظهري فرسيهما، متجهان إلى مضارب قبيلتهما التي تبعد مسافة نصف نهار على ظهور الخيل، أي ما يقارب ست ساعات: أما ترى يا طراد أنك حكيت في المجلس كلاماً غير مناسب، لا يليق بمقامك، ولا بمقام أخيك هواش؟

قال طراد: وأي كلام تعني يا غزوان؟

قال غزوان: كلامك عن انتزاع عقاب لظبية من بيت أبيها والأنوف راغمة..

قال طراد جاداً: كان لا بد من هذا الكلام يا غزوان.. لا بد من أن أرفع من شأن ابني، أمام العارفة ورجال الحكومة والقبائل.. حتى أبين للناس أنه ما هو نذل ولا جبان، حتى يعيره ابن نساف الهشاتي.. وهذا موقف قوة أمام العارفة والخصوم.. حتى ما تطمع فينا القبائل، وتجور علينا العوارف..

قال غزوان: ولكنك في هذا الموقف رفعت شأن ابنك، ووضعت من قدر أخيك وأولاده..

قال طراد بسخرية: وهل حمي أنفك لابن أمك يا غزوان..؟

قال غزوان محتداً: ابن أمي يا طراد ما هو نذل رعديد، حتى يقتحم الناس بيته، ويغتصبوا عرضه.. وأنت أخوه وتعرف من هو.. والله يصنع للرجال مجزرة تأكل منها نسور البوادي سنة، قبل أن يتجرأ أحد على اقتحام بيته واغتصاب عرضه..

قال طراد محاولاً تهدئة أخيه: نعم يا غزوان نعم.. صدقت.. والله إنه رجل ما يدير وجهه عن خصمه، ولا يرضى الدنية.. هو أخي وأنا خابره.. هو أبو منادي أصلب من الصخر الأصم.. لكن يا غزوان، إذا لم يمل الرجل على أخيه في هذه المناسبات فعلى من يميل؟ وبمن يبيض الرجل وجهه ويرفع رأسه بين القبائل، إذا لم يستطع أن يميل على اخوته.. يا غزوان..

قال غزوان: ربما كان معك الحق في هذا.. لكن الرجل خرج من المجلس وهو مكروب، ونفسه غير راضية..

قال طراد: حقه علي يا أبو منادي.. أنا أرضيه إن شاء الله..

نادى طراد على هواش، وكان على بعد خطوات منهما، فاقترب على ظهر فرسه حتى حاذى الرجلين، وصارت فرسه بجانب فرس طراد.. فقال بجفاف: خير إن شاء الله يا طراد.. ألك عندي حاجة..؟

قال طراد مبتسماً، محاولاً التخفيف من تأثر أخيه: أنا ملت عليك يا أبا منادي في حديثي أمام العارفة.. لأني أعلم أنك رجل شهم وتقدر الظروف.. ولو كان غيرك لما تحدثت بهذا الكلام، خشية أن يرد في وجهي أمام الغرباء، ويفشلني، ويضعف موقفنا أمام القبائل.. وأنت لماح يا أبا منادي وتفهم..

وأشار طراد بطرف يده التي يمسك بها لجام الفرس باتجاه مسعود..

قال هواش بهدوء: خير يا طراد خير.. الله يقدرنا على فعل الأمور التي تبيض الوجه وما تسوده.. وترفع الرأس وما تخفضه..

قال طراد محاولاً تغيير مجرى الحديث: والله إن العارفة أنصفنا، وما جار علينا.. ولولا أني هددته، لحملنا حملاً يكسر الظهر.. لكن هذا حمل خفيف.. صحيح أنه ضعف الدية التي دفعناها للهشاتة قبل عشرين سنة، لكن الظروف تغيرت.. والمؤدى القديم ما عاد يساوي دم الرجل في هذه الأيام..

ثم حدثهما طراد عن محاورته المنفردة مع العارفة، بالتفصيل..

وكان مسعود على بعد خطوات منهم، يسمع بعض الكلمات، ويغيب عنه أكثرها.. فاقترب بحصانه حتى حاذاهم، وقال بلا مقدمات: يا طراد.. الذي يأكل الدبس يمسح بشاربه..

التفت إليه طراد منفعلاً وقال: وايش تعني يا مسعود؟

قال مسعود بلهجة حزم وتصميم: الذي أعنيه واضح يا طراد، وما يحتاج إلى تفسير.. عقاب رجل متهور طائش.. ونحن لسنا مستعدين للجري خلفه وخلف جرائمه، من ديوان إلى ديوان، ومن عارفة إلى عارفة.. ولسنا مستعدين لبذل أموالنا من أجل حماقات عقاب ومراجله الكاذبة...

بدأ شاربا طراد يهتزان من الغضب، إلا أنه حاول تطويق الموقف بحكمة وهدوء، فقال لمسعود: دعنا من حماقات عقاب ومراجله يا مسعود.. وأنت تعرف مراجله إن كانت صادقة أم كاذبة.. أنا أريد أن أسألك يا مسعود عن موقفك من الاشتراك في دفع الدية..

قال مسعود بجفاف: نحن يا طراد لا نؤدي مؤداكم، ولا نجلو مجلاكم.. وأنا أتحدث باسم عشيرة المطامير كلها..

قال طراد محاولاً السيطرة على انفعالاته: أما الجلاء فغير وارد يا مسعود، فنحن لا نجلو، ولا تستطيع قبيلة في البادية أن تجلينا.. وإذا كان هناك قوة تستطيع أن تجلينا، فهي قوة الحكومة.. والعرافة الله يجزيه عنا كل خير، ما فرض علينا الجلاء، حتى تضع الحكومة نيرها على رقابنا وترحلنا عن منازلنا.. لكن الدية يا مسعود.. دية الرجل توزع على القبيلة كلها، ولا يحملها بيت واحد أو عشيرة واحدة.. فهل تتنصل أنت والمطامير من دية الهشاتي؟ وهل وجهاء المطامير كلهم على هذا الرأي..؟

قال مسعود بتحد: نعم يا طراد نعم.. كلهم على هذا الرأي.. واسألهم.. معنا الآن خمسة منهم.. اسألهم عن رأيهم في دفع الدية معكم.

قال طراد رافعاً صوتخ يخاطب وجهاء المطامير: يا نشامى.. يا وجوه المطامير.. أنتم سمعتم بمقدار الدية التي فرضتها علينا العارفة.. فماذا تقولون بشأنها؟

قال أحدهم، وهو أكبر سناً: نحن رأينا يا شيخ طراد، عند شيخنا مسعود.. شورنا من شوره، وقولنا من قوله..

قال طراد: مسعود فصلكم عن القبيلة.. ورفض باسمكم دفع الدية، فلا مؤدانا مؤداكم، ولا مجلانا مجلاكم.. فهل أنتم مع هذا الرأي..؟

قال كبيرهم: مسعود شيخنا وزعيمنا.. ونحن ما نخرج عن شوره، ولا نخالف أوامره..

قال طراد بفتور: خير.. خير، لكم أمثالها يا مطامير.. والدهر دولاب.. يوم لك، ويم عليك.. ثم خاطب طراد اخوته الثلاثة الآخرين رافعاً صوته ليسمع الجميع: وأنتم ما رأيكم يا هواش ويا مرهج ويا غزوان؟ كل واحد منكم يبدي رأيه بصراحة، حتى يعرف كل منا من معه ومن عليه.. والقضية ما هي قضية الدية.. القضية قضية القربى والنسب والتلاحم بين الأقارب.. أما دية الهشاتي، فأنا أستطيع أن أدفعها وحدي من فضل الله وكرمه، وما أكلف حتى عشيرة الهبادة بمشاركتي في دفعها.. لكن الدية دين كما تعرفون.. تؤخذ من القبيلة، وترد للقبيلة، لو قتل منها رجل لا سمح الله.. فأبدوا لنا رأيكم الصريح في هذا الأمر..

قال هواش بلهجة واثقة جادة: نحن قبيلة لها وزنها واعتبارها بين القبائل، وما استطعنا أن نفرض وجودنا في البادية إلا بكثرة رجالنا وقوتهم وشدة تلاحمهم.. ولو تنصلت كل عشيرة من جرائر العشاير الأخرى، وتخلت عن مؤازرتها ونصرتها في الشدائد، لأكلتنا عربان البادية، عشيرة بعد الأخرى، حتى يصبح دم الرجل منا عند القبائل، ما يعادل دم البعير الأجرب.. ولو علم الهشاتة أنا متفرقون مختلفون، لما قبلوا أن يأخذوا دية ابنهم، أقل من مئة ناقة حمراء، وألف ليرة إنجليزية من الذهب الأحمر.. وسيجلوننا فوقها، كما جليناهم منذ اثنتي عشرة سنة.. وحتى العارفة كان سيتطاول علينا، ويعتبر دماءنا مثل دماء الهشاتة.. الفرقة ضعف يا قرايبنا.. ضعف للجميع.. صحيح أن بيننا بعض الخلافات، أدت إلى انفصال العشاير بعضها عن بعض.. لكن هذي قضية داخلية بيننا، ويجب ألا تظهر أمام الناس، حتى لا تتجاسر علينا ذؤبان البادية.. نحن يا طراد، نؤدي معكم ولو فرض عليكم الجلاء، فسنجلو معكم، ونهاجم معكم، وندافع معكم.. نحن معكم على الخير والشر، أمام القبائل، لكن قضايانا الخاصة بيننا، نعالجها كل واحد ضمن عشيرته..

قال طراد، وقد سر من حديث هواش: جزاك الله عنا كل خير يا أبا منادي.. وما كنا نتوقع منك غير هذا الموقف الكريم..

قال غزوان: ونحن موقفنا مثل موقف هواش، أمام القبائل.. أما أمام الحكومة، فكل منا مسؤول عن نفسه، إلا إذا فرضت علينا عقوبات عامة، تشمل القبيلة كلها..

قال طراد: جزاك الله كل خير يا غزوان.. نحن مالنا علاقة بالحكومة.. الحكومة تفعل ما تريد.. مالنا قدرة على مواجهتها، لا على عصيان أوامرها..

ثم التفت طراد إلى مرهج الذي ظل صامتاً، وسأله: وأنت ما رأيك يا أبا فداوي؟

كانت يد مرهج اليمنى تمسك برسن الفرس، وكانت إحدى ضفائره اليمنى قد انسدلت على صدره، فحول رسن الدابة إلى يده اليسرى، وأزاح ضفيرته إلى ما وراء ظهره، وقال متردداً: أمهلني يا طراد حتى أشاور رجال العشيرة..

ابتسم طراد، وقال: شاور يا أبا فداوي.. شاور.. الطريق أمامنا طويل..

انتحى مرهج بوجهاء عشيرة الحفايا الخمسة الذين كانوا يرافقونهم وتشاوروا وهم على ظهور خيولهم، دون أن يتوقفوا عن المسير.. وبعد ذلك اقتربوا من خيول الآخرين، وقال مرهج: يا طراد.. نحن رأينا من رأي هواش وغزوان..

قال طراد مبتهجاً: جزاكم الله كل خير يا حفايا..

وهنا أراد الشيخ طراد تغيير الحديث، فقال يخاطب من حوله: والله إن الشيخ مسلط رجل كريم، وصاحب معرفة وفراسة، وخبرة بالرجال..

قال ابن محيدير مؤيداً: والله إنه نعم الرجل.. لكن قل لي يا أبا عقاب.. كم أخذ؟

قال طراد: تقصد حق العرافة؟

قال ابن محيدير: نعم نعم..

قال طراد: والله ما أخذ كثيراً.. عشرين ليرة ذهب.. نصفها منا ونصفها من الهشاتة..

قال ابن محيدير: والله ما تساوي ثمن الرز الذي قدمه لنا..

قال هواش: والله عنده قهواتي يساوي ثقله ذهباً، وسقانا قهوة مثل الدبس..

التفت طراد إلى هواش مبتسماً وقال: ها.. يا هواش..! وأنت انتبهت إلى العبد شوكان!؟ والله إنه ملأ عيني.. والله إنه حر، ما به لاحة من لاحات العبيد، ولا طبع من طباعهم الدنيئة..

قال غزوان: إن لم يخب ظني فإني رأيته، أو رأيت رجلاً يشبهه عند الشيخ بشير السحاح، شيخ مشايخ بني صويجان في العراق، منذ شهور قليلة.

قال طراد: والله يا جماعة، إني من أول ما رأيته ملأ عيني.. وخطر في بالي أن أسأل الشيخ مسلط عنه، لكن شغلتنا قالة الهشاة، وغاب الأمر عن ذهني..

قال غزوان ضاحكاً: والله أنا اشتريه بكل عبيد المداعيس، رجالها ونسائها..

ضحك هواش وقال: حتى جوزة يا غزوان..!؟ جوزة ذات الدم الخفيف واللسان الحلو؟

قال غزوان ضاحكاً: حتى جوزة ولوزة يا هواش.

قال ابن محيدير: لو رأيتم يا جماعة عيون البواحيث وهي تدور في المجلس، من شرقه إلى غربه ومن شماله إلى جنوبه.. مثل عيون كلاب الصيد التي تبحث عن صيد طعين، في أرض مغطاة بالشوك..

قال طراد: لعلهم يتنسمون الأخبار.. أجواء البادية غريبة عليهم، ويحبون أن يتعرفوا على كل شاردة وواردة فيها..

قال هواش: والله يا جماعة، وضع هؤلاء البواحيث غريب..! تركوا أوطانهم وديارهم، وجاؤوا إلى بلادنا، حتى يكتبوا قراطيس، يسمونها "بحث علمي".. ويعيشون على رمال البادية، بين الغبار والعجاج، وحر الصيف وبرد الشتاء.. وبلادهم في حالة حرب، وما يعرفون أخبار أهاليهم، ترى ماتوا أم ما يزالون على قيد الحياة.. كل هذا، حتى يكتبوا قراطيس يملؤونها حكايات وسوالف، يأخذونها إلى بلادهم.. وأيش يستفيدون، ملاعين الوالدين، من هذه السوالف والحكايات!؟ والله إني قلبي يحسسني أن أمرهم مريب..

قال غزوان: صدقت.. أمرهم ما هو طبيعي.. مضى عليهم شهور كثيرة، وما كانت قراطيسهم تمتلئ ولا أقلامهم تتعب عن الكتابة..

قال رجل من وجهاء السواعير يدعى "مشيليع": والله يا جماعة، إني سمعت واحداً منهم، هذا الذي يسمونه "كردوش ثخين العظام" يسأل الدرجمان الذي بجانبه في مجلس العارفة، يقول له: ماذا يقصد الشيخ طراد بقوله "النار ولا العار"؟ فهمس له الدرجمان وهو يقول: "يقصد أن الرجل يفضل أن يغسل عن نفسه عار الدنيا، ولو ارتكب من أجل ذلك جريمة تدخله نار جهنم يوم القيامة.." الله وكيلكم يا جماعة، إني سمعته بأذني هذي، ورأيته بعيني هذه التي سيأكلها الدود.. وأشار مشيليع إلى أذنه اليمنى وعينه اليمنى، ثم استأنف كلامه: ولما سمع كردوش مسبوع الأب كلام الدرجمان، أخرج من جيبه القلم والقرطاس وخربش خربشات والله ما عرفت منها شيئاً.. وبعدها رجع المبطون قلمه إلى جيب سترته، وطوى قرطاسه ووضعه بجيبه الآخر..

قال ابن محيدير، وهو يظهر شيئاً من التعالم على مشيليع: وايش تظن بهم يا مشيليع؟ تظن بهم الخير، روم، عظمهم أزرق.. والمثل يقول:"عود جدك ما يودك".. أما تعرف هذا المثل يا مشيليع؟

قال مشيليع مزهواً: كيف ما أعرفه يا ابن محيدير..؟ أما كان أجداد هؤلاء الروم يحاربون النبي وصحابته؟ وكيف نرجو منهم خيراً لنا ولبلادنا، وهم كفار على ملة آبائهم وأجدادهم..؟

قال طراد: هؤلاء البواحيث ضيوف عندنا يا جماعة.. وما لهم خطر علينا.. لأنهم ضعاف أذلاء مساكين.. وما الذي يخيفنا منهم؟ كلهم ثلاثة رجال غرباء ما يفهمون الحكي.. ومعهم واحد نصراني، مثل اللقلق.. غريب ضعيف. "لا يحك ولا يصك".. نحن رجال بوادي، ما تخوفنا أقلام البواحيث وقراطيسهم.. الرجل الذي ما بيده سلاح يشق الصدر، ما يخاف منه أحد..

قال ابن محيدير: ما تخاف يا أبا عقاب، أن يكون صفر الشوارب هؤلاء جواسيس علينا؟

قال طراد متضاحكاً: وايش عندنا من الأسرار حتى يتجسسوا علينا يا ابن محيدير؟ ما عندنا غير قطع سلاح نحملها بعلم الدولة..

قال هواش ملمحاً: الحكومة ما تخاف من سلاحنا.. لكن..

صمت هواش قليلاً.. وقال طراد:

اتركونا من سيرة الحكومة يا جماعة.. الحكومة حكومتنا، وأمرها على الرأس والعين.. نحن مالنا غرض عند الحكومة..

ثم التفت طراد إلى مشيليع، وهو من أثرياء القبيلة قائلاً: اذكر لنا يا مشيليع كم ناقة ولدت عندك هذا العام، وكم ناقة حايل؟ بدأ مشيليع يعدد النوق التي ولدت عنده، والتي لم تلد، ثم سأله طراد عن الخيل والغنم.. وكم يتوقع أن يربح في هذا الموسم من ثمن السمن والصوف والخراف.. ومشيليع يجيب على أسئلته واحداً بعد الآخر..

كان مشايخ العشائر ووجهاؤها يسيرون جميعاً متقاربين، ويتبادلون أطراف الأحاديث، ما عدا وجهاء قبيلة المطامير وشيخها مسعود، إذ ابتعدوا حوالي عشرة أمتار، وظلوا يتابعون مسيرهم على ظهور خيولهم، حسب سير خيول الآخرين، دون أن يسبقوهم أو يتأخروا عنهم..

كانت الخيل من بعيد، تثير البهجة بألوانها المتنوعة الجميلة، بين أبيض وأشهب وأحمر وأدهم.. وبأشكالها المتناسقة البديعة، من قوائم عالية، وأرجل رفيعة، وبطون ضامرة، ورقاب ممتدة، تعلوها أعراف طويلة منسدلة على صفحاتها الناعمة الملساء.. وذيول مستطيلة ناعمة الشعر، تصل أطرافها إلى مؤخرات حوافر الخيل.. ترتفع حيناً، وتهوي حيناً.. تميل يمنة حيناً.. ويسرة حيناً آخر..

أما من قريب فيشكل وقع حوافر الخيل على رمل الصحراء المعشب، موسيقى رتيبة هادئة، تبعث الأنس في لحظات صمت الرجال، وتثير في أعماق كل منهم أخيلة وذكريات شتى..

*  *  *

همس شوفان في أذن لوفنتال، الذي كان يقود سيارة الجيب الصغيرة، وعلى عينيه نظارة بنية اللون: كيف وجدت غداء مسلط اليوم، أهو أفضل أم غداء عريفج بن دلوان الذي حدثتني عنه؟

تضاحك لوفنتال، وقال: كل منهما أخبث من الآخر.. وأي خير في طعام بلا خمر..!؟

كان لسيارة الجيب مقعد أمامي واحد بجانب السائق، يجلس عليه شوفان بينما يجلس في الخلف الباحثون الثلاثة.. أما ترجمانهم فقد ركب في واحدة من السيارات الثلاث الأخريات، امتطاها بعض الضباط الصغار.. وذلك بأمر من لوفنتال نفسه، كي يبقى الباحثون الثلاثة وحدهم مع الضابطين الكبيرين، ليأخذ الجميع حريتهم في الحديث، دون أن يخشوا رقابة أحد من أبناء البلاد، ولو كان نصراني العقيدة، غربي الهوى..

قال شوفان في محاولة لاستدراج نظيره الفرنسي إلى الحديث: هل لاحظت شيئاً في هذا المجلس؟

قال لوفنتال مداعباً: لاحظت أن شعور الصواهيد أطول من شعور المداعيس بشكل عام، سواء ما كان منها على الرأس أو ما كان في الوجه.. ألم تلاحظ أن الكثيرين من رجال الصواهيد، لهم ضفائر طويلة تصل إلى سرة الواحدة منهم أحياناً..؟ وأن من لم يضفر شعره، كان يسدله على كتفيه، فيصل إلى منتصف ظهره تقريباً..!؟ وأن شوارب بعضهم معقوفة بقوة حتى لو وقف على أحدها نسر عمره ثلاثمئة عام، لما ارتخى أو تهدل.. ألاحظت معي هذا يا عزيزي شوفان؟

ضحك الرجلان، وضحك معهما أعضاء البعثة في المقعد الخلفي.. وقال شوفان: أجل لاحظت ذلك يا عزيزي.. لكن أتدري ما السر؟

قال لوفنتال: هات أخبرني بالسر، إن كان شعر الشوارب يدخل في عالم الأسرار..

قال شوفان: السر يا عزيزي، هو أن الصواهيد قريبون في منازلهم من مستعمرتنا المتاخمة لكم على الحدود الشرقية.. فهم أشد إيغالاً في البداوة.. وبالتالي أشد من جيرانهم اهتماماً بالشعر باعتباره زينة للوجه والرأس.. وأظنك توافقني في أننا نحن الأوروبيين حين كنا متخلفين، في العصور الوسطى وما تلاها.. كنا أكثر اهتماماً بالشعر منا الآن.. أليس كذلك؟

قال لوفنتال: ربما.. لكن من قال لك إنه كلما ابتعد الإنسان نحو الشرق كان أكثر بدائية وأقل تحضراً؟

قال شوفان: وهل أنا بحاجة إلى من يقول لي يا عزيزي؟ إنه أمر بدهي، لا يحتاج إلى تأكيد.. وإلا فما الفرق بين الشرق والغرب، إن ظلت شعورهما متساوية في الطول؟

ضحك الرجلان مرة أخرى، وقال لوفنتال: يبدو أن خراف الشيخ مسلط أسكرتك بلا وسكي يا عزيزي شوفان..

قال شوفان: وأنت..! ألم تسكرك خراف مسلط؟

قال لوفنتال: أنا لا يسكرني في الدنيا إلا شيئان: الخمرة المعتقة، حين أشرب منها لتر فما فوق.. ودماء أعدائي..

قال شوفان: لم تقل لي.. ماذا لحظت أيضاً في مجلس العارفة..؟

قال لوفنتال: لاحظت أموراً مخيفة، لم انتبه إليها من قبل.

قال شوفان: مثل ماذا؟

قال لوفنتال: اولاً: لدى هؤلاء القوم من الحنكة والدهاء ما يعدل حنكة كبار الساسة في بلادنا.. إلا أن هذه الحنكة بدائية، ليس لها ما يصقلها وينميها ويوسع مداها، حتى تصبح ذات طابع وطني عام، أو ذات طابع دولي.. ولو وجدت من المعاهد والمؤسسات الثقافية والعلمية، ما يساعدها على النمو الصحيح، فسترى ماذا تفعل هذه الأدمغة الصحراوية ذات الأذهان الصافية والفراسات الثاقبة..

قال شوفان: هذه واحدة.. ولا أخالفك فيها.. فما الثانية!؟

قال لوفنتال: هذه النفوس الصلبة الجبارة، التي تقتل النفس البشرية كما تشرب كوباً من الماء.. تقتلها من أجل ليرة ذهبية، أو خروف أو قتب بعير.. ومع ذلك تضحي بكل ما تملك من مال الدنيا، من أجل المحافظة على شيء غامض مجهول.. تسميه السمعة أو الشرف أو الناموس.. ولو وجدت هذه النفوس ما يوجهها توجيهاً سليماً، ويستثمر طموحاتها الفردية الهائلة لمصلحة عمل جماعي جاد، لأعادت على مسامع أوروبا سيرة طارق ابن زياد وموسى بن نصير وأمثالهما..

قال شوفان: وهذه الثانية.. أؤيدك فيها.. فما الثالثة؟

قال لوفنتال: لو اجتمعت صلابة الفولاذ كلها، لما عدلت صلابة نفس واحدة من نفوس هؤلاء البداة.. إلا أن صلابتهم أكثرها في الشر وقليل منها في الخير.. واستعدادها للخير كبير، إلا أنه موغل في أعماق النفس، وفوقه طبقة كثيفة هائلة من ضغط البيئة والضرورات والعادات والتقاليد والثارات المتبادلة والأحقاد اليومية.. ولو وجد من ينفض هذه النفوس من أعماقها بقوة، كما ينفض الثوب المغبر، لتفجر فيها من ينابيع الخير ما يفيض على ثلاثة أرباع العالم..

قال شوفان: ولم تركت الربع الآخر؟

قال لوفنتال: ذاك محصن بسور الصين العظيم، لا تؤثر فيه الفيضانات..

ضحك الرجلان، وضحك البواحيث دون أن يشاركوا في الحديث..

قال شوفان: حسن.. فهل لديك رابعة؟

قال لوفنتال: الرابعة يا عزيزي تدعو إلى الأسف، وهي أن جبلة هؤلاء القوم خير من جبلتنا نحن الأوروبيين، وقدراتهم الكامنة، على صنع التاريخ أضخم من قدراتنا بكثير.. وهذا سر بيننا لا نذكره أمام البدو، حتى لا تفسد أخلاقهم..

ضحك الرجال الخمسة، وقال شوفان: أوضح ما تقول يا عزيزي، فقد ملأت صدورنا رهبة من هؤلاء القوم..

قال لوفنتال جاداً: الأمر بسيط يا عزيزي، إلا أنه عل بساطته يحوي زخماً هائلاً من المعاني.. وسأبسطه لك بقدر ما أستطيع.. أنت تعلم يا صديقي أن في كل نفس بشرية نزعتين: إحداهما فردية والأخرى جماعية.. وليس في هذا خلاف عند علماء النفس وعلماء الاجتماع، وليعذرنا الصديقان لوصان وكردوش على هذا التطفل على اختصاصاتهما.. وإذا كان الأمر كذلك، فعلينا أن نبحث بتساؤل جاد: أيهما تسبق الأخرى..؟ وقضية السبق هذه لها أهمية كبيرة في صناعة الحياة عامة، والأحداث الجسام خاصة.. وأقول ببساطة: نحن الأوروبيين نزعتنا الفردية هي الأساس، والنزعة الجماعية وسيلة لتحقيق مطالب الفرد ومصالحه الآنية القريبة.. وبمعنى آخر: نحن نتعاون فيما بيننا تعاوناً وثيقاً، ليحقق كل منا عن طريق هذا التعاون مصلحته الفردية الخاصة الموغلة في الخصوصية والأنانية.. أما هؤلاء القوم فعلى العكس تماماً.. إذ على الرغم من صلابة كل نفس على حدة، تعتبر الجماعة هي الأساس في أعمق أعماق الشعور الفردي للواحد منهم، لذا تذوب هذه الذات الفردية الفذة الصلبة في الجماعة، كما تذوب قطع السكر في الماء الساخن.. ولأضرب مثالاً: الرجل هنا يبذل ماله، لتقول عنه الجماعة: إنه كريم، ويجود بنفسه فيقدمها إلى المهالك، لتقول عنه الجماعة: إنه شجاع.. ويعرض نفسه للموت جوعاً، دون أن يأكل اللقمة الذليلة، لتقول عنه الجماعة: إنه أبي عفيف النفس.. إذن الجماعة تعيش في أعمق نقطة من وجدانه.. فهو لا يعمل عملاً إلا أن يعرف انعكاساته لدى الجماعة، فما استهجنته رفضه باباء، وما استحسنته، أقدم عليه بكل جرأة ولو أهلك نفسه وولده وماله.. وحين تكون كل نفس مهيأة للذوبان في الجماعة بهذا الشكل، وتحافظ في الوقت ذاته على صلابتها الفردية دون الاتكال على الجماعة، فهذا يعني أن كل فرد يستطيع أن يصنع تاريخاً قائماً بذاته.. وذلك بما يملك من صلابة فردية هائلة، ومن استعداد هائل كذلك، للدخول في ضمير الجماعة ووجدانها، ليصبح رمزاً من رموزها في الكرم والبطولة والعفة والإيثار.. ونحو ذلك.. وهذا هو الفرق بيننا وبينهم.. نحن نتخذ الجماعة وسيلة لتساعدنا على أن نرى أنفسنا في أنفسنا.. وهم يتخذونها وسيلة ليروا أنفسهم في مرآة ضميرها الباقية عبر الأجيال.. فهي بهذا المعنى غاية لهم، يذوبون فيها، وإن كانت وسيلة مباشرة لرؤية أنفسهم في مرآة ضميرها.. وعلى هذا، فاستعدادهم للموت من أجل الجماعة أكبر من استعدادنا.. وكذلك استعدادهم للجوع والبرد والفقر.. وغير ذلك.. وما فعله الإسلام بأسلافهم هو أنه حول نزعاتهم وميولهم ورغباتهم، من حرص على نيل إعجاب الجماعة، إلى حرص على نيل رضى الله وإعجابه.. ففعلوا بأجدادنا الأفاعيل.. كما تعلم يا عزيزي شوفان..

ضحك شوفان، وقال: كنت أظنك عسكرياً فقط، فإذا أنت عالم نفس وعالم اجتماع.. فماذا تركت لأصدقائنا أعضاء بعثة الفاتيكان!؟

تضاحك لوفنتال وقال: وما يدريك..؟ لعل هذا التفلسف بركة من بركاتهم، وأثر من آثار مخالطتهم.. أليس كذلك يا عزيزي لوصان.. ويا عزيزي كردوش.. ويا ملا قطيط يا فقيه البادية..!؟

ضحك الرجال ضحكاً خفيفاً، وقال لوصان: الواقع أنك حللت نفسية البدو ونفسيتنا نحن الأوروبيين تحليلاً رائعاً، برغم ما هو ظاهر للعيون الكليلة، من نزعتنا الجماعية ونزعتهم الفردية.. وأنا أوافق على هذا التحليل الفريد، من خلال معرفتي بنفسية كل من الأوروبي والبدوي.. وما أدري ما رأي زميلي العزيزين..!

قال كردوش: وأنا أوافق على هذا التحليل، مع إسنادي كلاً من النزعتين الفردية والجماعية إلى البيئة وتأثيراتها، والمناخ وشروطه..

قال ملا قطيط: وأنا عدتي في هذا المجال لا تسمح لي إلا بالموافقة.. ولا سيما الموافقة على عملية التحويل التي مارسها الإسلام على نفسية البدوي.. إذ حولها من الرغبة الشديدة في نيل إعجاب الجماعة، إلى الرغبة الشديدة في نيل رضى الله وإعجابه.. وفي كلتا الحالتين، يظل استعداد الفرد لتذويب نفسه قائماً.. وعلينا أن نعرف كيف نتلافى الخطرين، أو نختار أخفهما، وهو الذوبان في وثن الجماعة.. لأن إذابة البدوي نفسه في مرآة رضى الله، أمر لا يطاق بالنسبة إلينا نحن الأوروبيين، وكفيل بأن يدفع إلى قلب كل عاصمة أوروبية فاتحين من أمثال خالد بن الوليد، وأبي عبيدة بن الجراح.

قال شوفان: حسن يا عزيزي لوفنتال.. هل بقي في جعبتك خامسة أو سادسة؟

قال لوفنتال متضاحكاً: الخامسة والسادسة.. وحتى العاشرة، هي لعنة الله علي وعلى أبي، إذا أبقيت في بادية الشام كلها مجرماً واحداً من أتباع عباس المدلول.. طبعاً ما عدا أستاذنا الشيخ ملا قطيط..

ضحك الجميع، وظلت السيارة الرشيقة تعلو وتهبط بهم فوق الرمال..

لم يبق في ديوان الشيخ مسلط إلا ثلاثة رجال هم: الشيخ مسلط، وابنه حمود، والعبد القهواتي شوكان الوراد.. وحين رأى الشيخ مجلسه خالياً من الغرباء، نادى ابنه قائلاً: حمود.. تعال اجلس بالقرب مني..

وكان حمود على بعد خطوات من أبيه.. وشوكان بجانب موقد النار.

وحين انتقل حمود إلى جوار أبيه، نهض شوكان، وطلب الإذن بالانصراف قائلاً: اسمح لي يا عمي أن أغيب قليلاً حتى تنهيا حديثكما.

ابتسم مسلط وقال: اجلس يا شوكان.. اجلس.. ليس لدينا أسرار نحجبها عنك.. أنت منا وفينا.. ولو كان كل العبيد مثلك يا شوكان، بحكمتك ونباهتك، لتمنى أحرار البادية أن يكونوا كلهم عبيداً..

قال شوكان بأدب وتواضع: أنت دائماًً تحب أن تطيب خاطري يا عمي.. طيب الله خاطرك..

قال مسلط جاداً: نحن خبرنا عبيداً كثيرين يا شوكان.. وجربنا كثيرين.. فوجدناهم كلهم، ما لهم عمل غير التلصص، وتسمع الأخبار، ونقل السوالف من واحد إلى واحد.. حتى الأخبار الخاصة التي نحرص على كتمانها عنهم، يتعمدون سماعها والثرثرة بها فيما بينهم.. أما أنت يا شوكان فوضعك مختلف عنهم.. أنا والله آمنك على مالي وعرضي، وكل أمر يخصني مهما كان هاماً وخطيراً.. أما الآن فليس عندنا سر نتحدث فيه.. أنا أردت أن أكلم ابني "حمود" في قضية زواج أخيه حامد.. ولعل وجودك بيننا يساعدنا على إنضاج الرأي، من خلال استشارتك وأخذ رأيك..

قال شوكان بتواضع: أنا بالخدمة يا عمي، ومستعد لتنفيذ ما تطلبه مني..

قال مسلط: مجالس العربان كما ترى يا حمود يا ابني، تعتبر مناسبات جيدة للتعارف بين الناس، وسماع بعض أخبار القبائل وأحوالها وشؤونها.. وما أخفي عليك يا ابني، أن مجلس اليوم كان مناسبة طيبة بالنسبة إلي، لما حقق الله فيه من خير على أيدينا، في عملية الإصلاح بين المداعيس والهشاتة، وحقن دماء الناس.. ولأمر آخر خاص بنا، وهو البحث عن بنت الحلال لأخيك حامد، الذي بلغ سن الثلاثين ولم يتزوج بعد، إذ لم تعجبه أية فتاة من بنات القبيلة.. فكلهن في نظره غير صالحات ولا يناسبنه.. هذي خفيفة، وهذي دمها ثقيل، وهذي غبية برغم جمالها، وهذي حمقاء برغم وجاهة أبيها.. وحتى عندما يسمع ببنت حلال، ما فيها عيب في خلقها، ولا في طباعها وأخلاقها، لا يقبل الزواج منها إذا كانت ما تصوم ولا تصلي.. وكأن أخاك يتصور البادية هنا، ساحة من ساحات الجامع الأزهر الذي يتحدث عنه أهل الفهم والدين، من حضران المدن الذين يزوروننا بين الحين والآخر.. والله يا ابني إن أخاك حيرني.. وصرت أتنسم أخبار القبائل لعل الله يهيئ له بنت الحلال التي تناسبه.. واليوم لما سمعت أن المداعيس عندهم بنت متمسكة بالدين، ورفضت ابن عمها لأنه ما هو دين مثلها، وصارت قالة لهذا السبب بين المداعيس والهشاتة، بسبب تعيير فلحان الهشاتي الله يرحمه لابن عم البنت بالنذالة لأن بنت عمه ما تريده.. وأنت سمعت القصة كلها.. أقول: لما سمعت بخبر بنت المداعيس هذي قلت في نفسي: لعل الله يكتب لحامد نصيباً عليها.. لكن لا بد من دراسة الأمر، ومعرفة الجو الذي تعيش فيه البنت.. وأخذ رأي أهلها ورأيها ورأي أمها قبل أن نتقدم إلى خطبتها، ونرجع خائبين..

قال حمود، وهو في الخامسة والثلاثين من عمره، وله زوجتان وسبعة أولاد، ويعد مستشاراً لوالده، لما لديه من الحكمة والاتزان ورجاحة العقل: هذا رأي مناسب يا أبي.. لا بد من دراسة الأوضاع عن قرب.. فما الذي تأمرني به في هذا المجال؟

قال مسلط: أطلب منك أن تذهب وتعرف لي رأي والد البنت بزواجها، ورأي أعمامها في الأمر.. فإذا كان أعمامها يصرون على تزويجها لأحد أبنائهم، فليس لنا فيها نصيب.. وأطلب منك أن تتأكد من مرض البنت، ما هو؟ إذ أني سمعت عمها طراد يقول إنها مريضة.. وأنا أظن أن الشيخ طراد ذكر مرض البنت في هذا المجلس، حتى يرفع من شأن ولده، ويبين أن ابنه هو الزاهد فيها بسبب مرضها، لا سيما بعد أن انتشر الخبر وعلمت به العربان بسبب قتل الهشاتي..

قال حمود، وكيف نتأكد من نوع المرض يا أبي؟ هذا أمر يحتاج للأطباء وأهل الخبرة..

قال الوالد: يكفيك أن تسأل والدها ووالدتها يا حمود عن هذا الأمر.. فالأهل لا يخرجون ابنتهم إلى قبيلة أخرى، إلا إذا كانت تبيض الوجه وترفع الرأس.. وعلى هذا، فلن يغشونا، ويزوجونا ابنتهم إن كانت مريضة فعلاً.. مع أن تجربتي يا ابني، تدلني على أن أكثر أمراض البنات في هذا العمر، إنما هي أنواع من الوساوس والأوهام، لا يبقى منها شيء بعد الزواج..

قال حمود: هل تطلب مني شيئاً آخر يا أبي؟

قال الأب: لا يا حمود.. تدرس الوضع وترجع، فإذا كان الأهل موافقين والظروف مناسبة، ذهبنا أنا وأنت وكبار وجهاء المصاهيد للخطبة ودفع المهر.. وغير ذلك..

قال حمود: متى تأمرني بالذهاب يا أبي؟

قال الأب: غداً صباحاً يا بني، قبل طلوع الشمس، تركب فرسك وتنطلق على بركة الله.. وسيرافقك شوكان.. فالمكان بعيد، والرجل يحتاج إلى من يؤانسه في الطريق، ويتسلى معه في هذي البوادي الشاسعة..

*  *  *

قال مسروب بن نساف الهشاتي لأبيه، بعد أن عاد إلى مضارب القبيلة، هو ومن معه، وجلسوا في ديوان الشيخ شماط بن جازي، شيخ الهشاتة:

وكيف رضيتم يا أبي بالدية على هذا الشكل؟

قال نساف: وايش فيها يا مسروب؟

قال مسروب: أولاً يا أبي الدية قليلة بالنسبة إلى الدية أخذها منا المداعيس من سنوات.. وثانياً لم تطلبوا جلاء المداعيس عن الديار، كما جلونا وشردونا وعشنا في بلاد الغربة مثل الأيتام..

تنهد نساف بحرقة وقال: الله يا ابني أكبر من الجميع.. الله يرضينا بالحق، ويدفع عنا شر الظالمين..

قال مسروب وهو في السابعة والعشرين من عمره: ولكن يا أبي هذا ما هو حق.. هذا عظم مجرود، ما به لحم، رماه أمامنا طراد المنصور حتى يلهينا به عن دم فلحان..

قال نساف: والله يا بني أنا ما رضيت، لكن ما بيدي شيء.. شيوخ القبيلة ما تكلموا.. وأنا اكتفيت بهذا القدر دفعاً للشر.

 قال الشيخ شماط بن جازي جاداً: لا تضع الحق على غيرك يا نساف.. أنت شيخ ابن شيخ.. وهمس في ذهنك مسلط بن سطام العليان كليمات، وتهللت أسارير وجهك من الفرح..

قال نساف: تقول عني يا أبا زماع إني شيخ ابن شيخ.. صحيح يا أبا زماع، لكن أنا شيخ عشيرة، ولست شيخ القبيلة.. أنت يا شيخ شماط شيخ القبيلة.. وكنت حاضراً معنا، وما تكلمت بشيء.

قال شماط متأثراً: وهل تركت لي مجالاً للكلام يا أبا فلحان؟ وهل شاورتني بعد أن همس في أذنك العارفة، وقال لك إنه حصل لك دية مضاعفة؟ أما قبلت منه الدية وسكت، وجرأته على أن ينطق بالحكم، دون أن يستشيرني، أو يستشير أي شيخ من شيوخ عشائر الهشاتة!؟ وهل يحق لنا أن نرفض المبلغ الذي قبلته أنت يا ولي القتيل..؟ وهل تستطع أن نرفضه أمام الحكومة ورجال القبائل، وأنت ولي الأمر قبلته وسكت عليه؟ أنا لو شاورتني يا نساف، ما قبلت من طراد المنصور، إلا أن يدفع لك ثلاثمئة ليرة ذهبية، وثلاثين ناقة حمراء، مع جلاء ثلاث سنين عن الديار.. وإذا لم يقبل فسنستعين عليه بالحكومة، ونبين لرجال الدولة، الدية التي دفعناها للمداعيس قبل سنيات، ونسألهم عن الفرق بين دم رجل ودم رجل.. وهل دم المداعيس من مسك ودم الهشاتة من قطران؟ وإذا لم يفرض العارفة الجلاء، على طراد المنصور وقبيلته، فسوف ننفض العارفة ونطلب عرض القالة أمام الشيخ مرشد بن حازم التوهان..

قال الشيخ طليحي بن مسعف الظلاع، شيخ عشيرة المكاحيل من الهشاتة: يا شيخ شماط.. أنتم لما رضيتم بالشيخ مسلط، كنتم تعرفونه وتعرفون طريقته في الحكم بين القبائل.. الشيخ مسلط ما يجلي إلا الضعيف.. أما القوي، فما يطلب مه الشيخ مسلط الجلاء.. لكن يحاول أن يرضي الضعيف من مال القوي.. وبهذا الأسلوب يرضي الطرفين.. فهو رجل خبير بالبوادي، وبقوة القبائل وضعفها.. وعنده فراسة بالرجال.. يعرف الذي يرضيه العظم وينسيه دم ابنه، والذي لا يرضيه بالمال الدنيا، إلا أن يشرب من دم قاتل ابنه.. الشيخ مسلط عارفة بوادي، وقادر على حل المشاكل على ضوء معرفته بالناس وظروفهم وأحوالهم. أما مرشد ابن حازم التوهان، فما ينظر إلا للحق، ويفرض الجلاء على مستحقه، سواء أكان قوياً أم ضعيفاً.. لكن طريقته هذه عقدت كثيراً من المشاكل بدلاً من أن تحلها.. لأن الأقوياء لا يجلون عن الضعفاء.. وعلى هذا الأساس، كان كثير من القبائل القوية يتمرد على حكم العارفة.. والذي تضغط عليه الحكومة حتى يجلو، كان ينتقم من أخصامه الذين سببوا له الجلاء، فيحتك بهم عمداً، ويستثيرهم قصداً، ليمارس عليهم الجور والإهانة، والقتل أحياناً.. فتجر المشكلة إلى مشكلات أكبر منها، تحتاج إلى وقت وجهد ومال، وتدخلات من جانب الحكومة.. وغير ذلك.. الحق عند مرشد التوهان حق.. لكن تطبيقه على القبائل القوية يجر إلى أنواع كثيرة من الباطل.. لذلك يعتبر الشيخ مرشد برغم نزاهته وإنصافه، عارفة غير ناجح في البوادي.. وأنت خابره يا شيخ شماط..

قال الشيخ شماط بهدوء: صدقت يا شيخ طليحي.. لكن أنا أردت أن أبين لنساف، أن الحق عليه في عدم مشاورتنا، وعدم ترك المجال أمامنا لمصاولة أخصامنا أمام العارفة.. فلا يضع الحق علينا ويحملنا اللوم على خطأ هو ارتكبه، وما لنا فيه يد..

قال نساف بهدوء، وهو يحاول أن يعتذر، وقد اجتمع في أعماقه إحساس بعمق الفاجعة بابنه، وإحساسه بالخطأ الكبير الذي ارتكبه في مجلس العارفة: حصل خير يا شيخ شماط.. حصل خير.. الله ما تضيع عنده الحقوق..