الغيمة الباكية(2)

عبد الله عيسى السلامة

الغيمة الباكية

عبد الله عيسى السلامة

الفصل الثاني

أحزان الظباء

قالت ظبية، وفي عينيها السوداوين الواسعتين حزن عميق، وعلى شفتيها ابتسامة ندية: الحمد لله.. لقد اكتمل عددنا..

كان موعد الفتيات الأربع، بعد صلاة العصر، في بيت هواش والد ظبية، في إحدى الحجرات التي صنعت بشكل خاص، داخل بيت الشعر الكبير.. كانت آخر الداخلات إلى الحجرة ريحانة بنت العبد طواف، عبد الشيخ مسعود.. وبدخولها اكتمل مجلس الفتيات، مريدات الشيخ عباس..

كانت ثلاث منهن بنات عبيد.. إحداهن \"جوزة\" بنت العبد زناد عبد الشيخ مرهج، والثانية \"دوحة\" بنت العبد رحيل، عبد الشيخ غزوان، والثالثة \"ريحانة\" بنت طواف، وكانت ظبية بنت الشيخ هواش هي رابعة الفتيات، وهي المسؤولة عن مجلسهن هذا، الذي اعتدن حضوره بشكل غير دوري، لقراءة القرآن، وسماع بعض الأحاديث النبوية القصيرة والحكم.. وتقصي أخبار الشيخ عباس، والحديث عن الأوراد اليومية المكلفة بها كل منهن.. فضلاً عن أحاديث أخرى، مما تهتم به الفتيات من أخبار القبيلة..

كانت الفتيات الحاضرات جميعاً، قد تعلمن القراءة والكتابة وقراءة القرآن في صغرهن على يد الشيخ \"ملوح\" شيخ الكتاب، الذي اتفقت معه القبيلة على تعليم أولادها وبناتها، لقاء مبلغ معين يتلقاه عن كل من يتعلم القرآن والقراءة والكتابة على يديه، سواء أكان المتعلم فتى أو فتاة، إلا أن بعض الفتيات كان أنبه من بعض، فمنهن من اهتمت بالأمر وأجادته، ومنهن من كانت أقل نباهة أو اهتماماً من غيرها، أو أقل توفيقاً، فحفظت أشياء ونسيت أخرى..

وكانت الفتيات هؤلاء يعترفن لظبية بالسبق والفضل والتقدم عليهن، لا لأنها أذكاهن وحسب، بل لأنها بنت شيخ من شيوخ القبيلة، وهن بنات عبيد، والمثل يقول \"العين ما تعلى على الحاجب\".. فمهما كانت العبدة ذكية ونبيهة، فستظل دون بنات السادة والمشايخ والوجهاء.. هذا هو قانون القبيلة.. وهذا هو بالتالي قانون الحياة في ظل القبيلة..

قرأت ظبية بعض الآيات من كتاب الله، ثم طلبت من كل واحدة من البنات الأخريات قراءة شيء من القرآن، حسب مواقع جلوسهن عن يمينها.. وبعد الانتهاء من التلاوة، قبلت ظبية القرآن ورفعته فوق رف صغير قريب منها..

سادت فترة صمت قصيرة، قالت ظبية بعدها وهي تبتسم: عندي لكم بشارة يا بنات.. بل لك أنت يا ريحانة بشكل خاص.

نظرت إليها الفتيات الثلاث بشغف، وعيونهن تستعجل فمها لينطق بالبشارة إلا أنها سألت بابتسامة خجول: ها.. ما رأيك يا ريحانة! هل تستطيعين أن تخمني نوع هذه البشارة!؟

قالت ريحانة بأدب وحياء: ومن أين لي أن أعرف يا عمتي.. وهل أنا ولية مثل شيخنا عباس قدس الله سراه!؟

قالت ظبية بجدية هادئة: الأمر لا يحتاج إلى ولاية يا ريحانة.. ولا علاقة لشيخنا عباس به، وإن كان له فضل في الموضوع.. الأمر يخصك أنت.. هل نسيت \"عطاس\"..؟

قالت ريحانة، وقد أحست بجفاف في حلقها: عطاس يا عمتي.. عطاس.. لا.. لا يا عمتي ما نسيته.. لكن ما علاقتي به؟ لقد خطبني من أبي فوافق على تزويجه إياي.. و.. و.. ولكن حين استشرتك في الأمر نصحتني بعدم الزواج منه، لأنه ليس له دين.. لا يصلي.. لا يصوم.. يقتل.. ينهب ينفذ كل الجرائم التي يأمره بها أعمامه الشيوخ.. وقد اتبعت نصيحتك يا عمتي يومها، ورفضت الزواج منه.. ألا تذكرين يا عمتي.. ألا تذكرين..؟

قالت ظبية وقد لاحظت مظاهر الارتباك في وجه ريحانة وفي حديثها:

بلى أذكر يا ريحانة.. أذكر ذلك جيداً.. لقد اتبعت نصيحتي في حينها، وطلبت مني أن أكلم والدي، ليقنع والدك بالعدول عن تزويجك لعطاس.. كما يقنع \"عطاس\" بالعدول عن خطبتك، والبحث عن فتاة أخرى تناسبه.. وكانت مهمة إقناع \"عطاس\" سهلة، لأنه عبد لأبي ولا يعصي أوامره.. وقد صرف نظره عن الموضوع، وهو يعاني من غصة وألم.. إذ ليس من السهل أن يحظى عطاس بمثلك يا ريحانة..

قالت ريحانة برصانة وأدب: طول الله عمرك يا عمتي.. ولكن كيف استطاع والدك أن يقنع والدي، وهو –كما تعلمين- عبد لعمك الشيخ مسعود.. والجفاء بين أبيك وعمك مسعود يزداد يوماً بعد يوم.. منذ رفض أبوك وعمك غزوان زعامة الشيخ طراد..!؟

قالت ظبية وهي تبتسم ابتسامة المعلمة الوقور: أولاً يا ريحانة الجفاء بين أبي وعمي غزوان من ناحية، وبين أعمامي طراد ومسعود ومرهج من ناحية أخرى، ليس قوياً جداً، فهو لا يشكل بينهم عداوة ولا خصومة، والعلاقات بينهم ما تزال قائمة برغم فتور الوداد والمحبة الأخوية.. فليس بينهم ولله الحمد، دماء أو ثارات.. بل هو خلاف حول الزعامة.. عمي طراد يرى أن القبيلة يجب أن تطيعه في كل ما يقول ويفعل، ولو جرها إلى معارك دامية مع القبائل الأخرى.. أو جمع بعض أموال القبيلة وبذرها في أمور لا تقنع أحداً سواه.. وقد سايره عمي مسعود وعمي مرهج لأنه شيخ القبيلة وكبير إخوته من ناحية.. ولأن شيوخ القبائل كلها تفعل مثلما يفعل.. فكل شيخ له حق في جمع المال من قبيلته لأجل أمور تنفع القبيلة وله حق بمحاربة القبائل الأخرى التي تعادي قبيلته..

صمتت ظبية قليلاً، فاستغلت \"دوحة\" فترة الصمت هذه وسألتها: ولم يا عمتي إذن لم يقبل عمي هواش وعمي غزوان، أفعال عمي الشيخ طراد، فاستقل الأول بزعامة عشيرة السواعير، والثاني بزعامة عشيرة البشارات، فتقسمت القبيلة إلى ثلاثة أقسام!؟

قالت ظبية وهي تتنهد: لقد ذكرت قبل قليل يا دوحة حجة والدي وعمي غزوان، وهي أن عمي الشيخ طراد لا يرضى إلا أن ينفذ كل أمر يريده.. يحارب، يصالح، يجمع أموالاً ولا يرضى أن يخالفه أحد في الرأي أو المشورة.. وحياة القبيلة لا يمكن أن تقوم على هذا الشكل.. إيه.. الله يسامح الجميع..

قالت \"جوزة\" وهي ذات دعابة مؤدبة، وذكاء فطري، إلا أن اهتمامها بالقراءة والكتابة وشؤون القبيلة ضعيف:

ونحن أيش أوصلنا إلى هذا الحديث يا عمتي ظبية؟ وأيش الذي يهمنا منه؟ أما كانت بشارتك لريحانة أهم لنا من هذه السوالف!؟

ضحكت الفتيات ضحكة خفيفة، وقالت ظبية مداعبة: سامحك الله يا جوزة ما تكفين عن مداعباتك.. ثم استطردت ظبية تقول: صحيح يا جوزة أن بشارة ريحانة تبل قلبها، ويبل قلبك إن شاء الله قريباً أيضاً.. إلا أن الحديث عن آبائنا وأعمامنا وأهلنا يهمنا أيضاً.. ثم هل نسيت يا جوزة أن بشارة ريحانة هي التي جرتنا إلى هذه السوالف!؟

قالت جوزة: لا والله يا عمتي ما نسيت.. وبالعلامة أنك وقفت عند مسعى والدك عمي هواش في إقناع والد ريحانة بعدم تزويجها من عطاس.. ثم تركنا هذا الكلام الطري لندخل في سوالف الشيخة والشيوخ.. ضحكت الفتيات مرة أخرى وقالت ظبية: الحق معك يا جوزة، إن الكلام عن الزواج طري يسر الخاطر.. وها نحن نعود إليه...

قالت جوزة: وهل اقتنع طواف بعدم تزويج ريحانة لعطاس يا عمتي؟

قالت ظبية باسمة: أجل اقتنع يا جوزة.. اقتنع بعد أن أمر أبي \"عطاس\" بالعدول عن خطبته.. ولقد تألم طواف لهذا العدول، الذي لم يعرف سببه حتى الآن..

قالت دوحة مستفهمة: ولم تألم يا عمتي طواف؟

قالت ظبية: كان بحاجة إلى المال يا دوحة.. وطلب من عطاس أن يدفع له مهراً عالياً، فقبل عطاس دفع المهر لأجل عيون ريحانة.

قالت جوزة: وكم كان المهر المطلوب ياعمتي؟

قالت ظبية: طلب والد ريحانة خمسين ليرة ذهب رشادية وخمسين شاةً يا جوزة..

قالت جوزة مداعبة وهي تنظر إلى ريحانة: ريحانة تستأهل هذا وأكثر منه يا عمتي.. وهل شم الريحان هين!؟

ضحكت الفتيات وقالت ظبية:

وماذا كان سينوب ريحانة المسكينة من هذا المهر يا جوزة.. وهل سيعطيها أبوها شيئاً منه!؟

قالت جوزة: ألا يكفي ريحانة فخراً أنت تملأ بيت أبيها بالغنم وجيوبه بالذهب يا عمتي؟

قالت ظبية: أهذا هو حق البنت على أبيها يا جوزة؛ ألا تستحق شيئاً من مهرها، تصنع منه حلية لنفسها، أو تضع بعض الدواب في بيتها، تحلبها لها ولزوجها!؟ سامحك الله يا جوزة.

قالت دوحة بشيء من الجرأة الأدبية: أترين يا عمتي إلى جوزة؟ تطالبنا بالعودة إلى بشارة ريحانة، ثم تبعدنا عنها بين حين وآخر.

قالت ظبية باسمة: صدقت يا دوحة.. أعاننا الله على جوزة وعلى خفة دمها..

قال جوزة مداعبة: قولي يا عمتي قولي.. بشري ريحانة.. ولن أتكلم حتى تنتهي البشارة، فإما أن أزغرد وإما أن أولول..

قالت ظبية: وهل هناك بشائر تقابل بالولاويل يا جوزة؟

قالت جوزة: طبعاً يا عمتي طبعاً.. ما رأيك لو بشرتني الآن في أن أتزوج مصيعان الذي عمره سبعون سنة وله ثلاث نساء  وتسعة عشر ولداً، وتمر عليه أحياناً أيام طويلة لا يجد في جيبه من المال ما يملأ كيسه بالتتن.. فهو في كل مجلس يطلب كيس التتن من زيد أو عبيد، ليحشو سبيله الأسود، هذا الذي يسميه بعضهم الغليون.. فإذا حشا السبيل طلب قداحة ليشعله بها من أحد جيرانه.. فما رأيك يا عمتي لو بشرتني بالزواج من مصيعان! أترينني يجب أن أزغرد!؟

ضحكت ظبية وقالت: استعنت عليك بالله يا جوزة.. من أين تأتين بهذه الحكايا!؟

قالت دوحة مازحة: ما رأيك يا عمتي في أن تفرضي على جوزة عقوبة، إذا ظلت تشغلنا بأحاديثها الجانبية!؟

قالت ظبية باسمة: هذا اقتراح جيد يا دوحة، فما العقوبة المناسبة في رأيك؟

قالت دوحة: أن تمنعيها من الكلام فترة من الزمن.

قالت ظبية: وكم تقدرين هذه الفترة يا دوحة؟

قالت دوحة: بقدر ما يحشو مصيعان سبيله بالتتن ثم يقدح زناده ليشعله، ثم يدخنه ويفرغ رماده في موقد القهوة، فيحظى بشتيمة هامسة من نهار بن لافي..

ضحكت الفتيات جميعاً لهذا الاقتراح اللطيف.. وقالت جوزة بدعابة حازمة: لا يجوز يا عمتي مثل هذا الأمر لأنه مخالف للدين.. أما قال شيخنا عباس: قتل المسلم حرام..؟

ضحكت الفتيات مرة أخرى، وقالت ظبية: وهل تموتين إذا سكت طول هذه المدة يا جوزة!؟

قالت جوزة: نعم يا عمتي.. أموت عند أول قدحة من زناد مصيعان..

قالت ظبية: إذن دعينا نبشر ريحانة يا جوزة.

قالت جوزة بحسرة مفتعلة: بشريها يا عمتي بشريها.. وأنا أصمت وأمري لله.. بشارة ريحانة ولا سبيل مصيعان.

قالت ظبية موجهة كلامها إلى ريحانة: أبشرك بخطبة عطاس يا ريحانة!

قالت ريحانة في دهشة: هه.. ماذا تقولين يا عمتي؟ خطبة عطاس.. عطاس مرة ثانية يا عمتي؟ أنت تقولين هذا يا عمتي!؟

قالت ظبية باسمة: نعم يا ريحانة.. نعم عطاس.. عطاس مرة ثانية.. لكن عطاس الثاني هذا، غير عطاس الأول يا ريحانة، لقد انصلح أمر عطاس، وبدأ يصلي يا ريحانة.. لا يضيع وقت صلاة.. وقد أخذ منه أخي منادي عهداً على ألا يرتكب محرماً، لا يسلب، لا ينهب، لا يكذب.. ويصوم رمضان، وإذا اجتمع له مال يستحق منه دفع الزكاة دفعها.. وإذا استطاع أن يؤدي فريضة الحج أداها.. نعم يا ريحانة.. نعم.. عطاس اليوم غير عطاس الأمس..

قالت ريحانة مستغربة: ومنذ متى حصل هذا التبدل في حياة عطاس يا عمتي؟

قالت ظبية: منذ خمسة أيام يا ريحانة.. وهو ينتظر قدوم شيخنا عباس حتى يأخذ على يديه عهداً.. ويعطيه أوراداً خاصة به.. لعل الله يغفر له ذنوبه ويمحو سيئاته..

قالت ريحانة بارتباك: وهل خط..

ولم تكمل جملتها فقد حبسها الحياء عن الكلام..

فبادرت ظبية قائلة:

أجل يا ريحانة.. أجل خطبك.. ولكنه لم يخطبك هذه المرة من أبيك بل خطبك من نفسك.. خطبك عن طريق أخي منادي، الذي طلب مني أن أخبرك وأن أنصحك بالموافقة على الزواج بعد أن تبدلت أحوال عطاس بهذا الشكل.. وبعد أن توافقي يطلب يدك من أبيك.. فما رأيك يا ريحانة؟

قالت ريحانة بأدب وارتباك: وما رأيك أنت يا عمتي! فرأيي من رأيك.

قالت ظبية: أنا موافقة، بل مسرورة يا ريحانة.. إنه نعم الزواج إن شاء الله..

قالت ريحانة بحياء: وهل يوافق أبي يا عمتي بعد أن نكل معه عطاس في المرة الأولى!؟

قالت ظبية: إن أباك سيوافق يا ريحانة، ما دام بيته سيمتلئ غنماً، وجيبه يمتلئ ذهباً.. وما دام سيرسلك إلى بيت زوجك وأنت لا تملكين من متاع الدنيا إلا الثوب الذي يغطي جسدك.

قالت جوزة: هل أزغرد يا عمتي

قالت ظبية: لا يا جوزة.. ولولي

قالت جوزة مستغربة: أولول يا عمتي!؟ على أي شيء؟ على زواج ريحانة من عطاس!؟

قالت ظبية بابتسامة وعليها سماء الجد: لا يا جوزة.. على العقوبة التي ستنالينها.

قالت جوزة مستفهمة: وهل خالفت أوامرك يا عمتي..؟ أعني هل قاطعتك في الحديث، بعد أن هددتني ذلك التهديد القاسي؟

ظبية: أجل يا جوزة.. لقد خالفت أوامري.. لكن مخالفة من نوع آخر غير مقاطعة الحديث.

جوزة: وما هذه المخالفة يا عمتي؟

ظبية: نسيانك المستمر للدروس التي تعلمناها سوية من شيخنا عباس.

قالت جوزة وهي تبلع ريقها: وما الدرس الذي نسيته يا عمتي؟

قالت ظبية: ألم يقرأ علينا الشيخ عباس منذ شهور طويلة حديث النبي (صلى الله عليه وسلم): أيها الناس كلكم لآدم وآدم من تراب.. لا فضل لعربي على عجمي، ولا لأبيض على أسود إلا بالتقوى؟ ألم تسمعي هذا الحديث من الشيخ يا جوزة حين كان يحدث به الرجال هنا في هذا البيت، ونحن نستمع إليه من وراء جدار هذه الحجرة التي نحن فيها الآن؟

قالت جوزة بارتباك: بلى.. بلى.. سمعته يا عمتي.. سمعته من الشيخ.. من فم الشيخ بالذات.. وأعرف معناه.. صحيح أني لا أحفظ كلماته كلها، لكني أعرف معناه وأحفظه.. و.. ومن قال لك إني نسيته يا عمتي!؟.. و.. وكيف أنساه يا عمتي.. إني أتذكره.. أتذكره جيداً.. يا عمتي..

لاحظت ظبية الارتباك الشديد الذي طغى على ملامح جوزة، وعلى ذهنها، فجعلها تكرر كلامها بحيرة وقلق.. فأرادت التلطيف من حدة العبارات التي تخاطبها بها، فابتسمت ابتسامة عريضة، وقالت بمداعبة حانية: صحيح يا عزيزتي أنك تعرفين معنى الحديث.. ولكن هل يكفي حفظ الحديث، أو معرفة معناه!؟

قالت جوزة مستفهمة: ما.. ماذا تقصدين يا عمتي؟

قالت ظبية: أقصد أننا لا نحفظ الآيات والأحاديث لمجرد الحفظ يا جوزة.. بل نحفظها لنطبقها في حياتنا، وفي معاملاتنا، وفي أحاديثنا..

قالت جوزة والحيرة ما تزال مسيطرة عليها: وهل.. وهل قصرت في شيء يا عمتي؟

قالت ظبية: أجل يا جوزة.. إنك في كل ساعة تقصرين في تطبيق الحديث النبوي.. بل إنك خالفت معناه في هذا المجلس مرات كثيرة..

قالت جوزة مستغربة: وكيف يا عمتي حصل هذا؟

قالت ظبية: لقد كررت يا جوزة كلمة \"يا عمتي\" عشرات المرات في مجلسك هذا.. ولقد نبهتك من قبل مرات كثيرة، إلى وجوب التعامل بالكلمات التي يحبها الله ورسوله، ويأمرنا بها ديننا.. وطلبت منك أن تناديني \"يا أختي\".. فنحن أخوات في الله يا جوزة.. وليس بيننا عمة وعبدة.. أنت أختي وأنا أختك.. ألم يأمرنا الشيخ عباس بهذا!؟

قالت جوزة مرتبكة: بلى.. بلى.. يا عمـ.. يا أخ.. يا أختي.. بلى قد أمرنا.. لكن لساني آخذ على هذا الكلام يا عمـ.. يا أختي.. ولكن.. قولي أرجوك: هل النداء بكلمة \"عمتي\" حرام!؟

قالت ظبية باسمة: ليست حراماً يا جوزة حين تنادين بها عمتك الحقيقية، أو امرأة كبيرة في مقام عمتك.. لكن حين تنادينني بها وأنا في مثل سنك، فهذا معناه أنك تشعرين بأن قيمتي أكبر من قيمتك.. أو أنك من طينة حقيرة وأنا من طينة عظيمة.. وهذا لا يصح يا جوزة.. فهو عودة إلى عهد السادة والعبيد، حين كان العبد ينادي مالك رقبته: يا سيدي.. ولقد مضى ذلك العهد.. عهد العبيد، فلم يعد أحد يملك أحداً الآن.. لكن كلمة \"عمي.. وعمتي\" تدل على هذا المعنى.. على أنك تحسين بأنك عبدة وبأني سيدة لك، أي أن كلمة عمتي هذه، هي بديل عن كلمة سيدتي القديمة.. حين كانت العبدة، ملكاً لسيدتها.. فهل أنت الآن ملك لي يا جوزة!؟

بلعت جوزة ريقها وارتبكت واحمر وجهها، وقالت بعد تردد:

لا.. لا يا عمـ.. يا.. يا أختي.. أنا.. أنا.. لست ملكاً لك..

قالت ظبية: وهل أستطيع الآن أن أبيعك وأشتريك؟

قالت جوزة مرتبكة: لا.. لا.. البيع والشراء للـ.. للدواب..

قالت ظبية: إذن فما معنى أن تعتبري نفسك عبدة وتعتبريني سيدة لك؟

قالت جوزة: إنها.. إنها العادة.. يا.. يا أختي.. العادة.. كلنا اعتدنا على ذلك.. أنا وأمي وأبي.. وإخوتي وأخواتي.. وجميع أقاربي.. وقد ورثنا هذه العادة عن آبائنا وأجدادنا وأجداد أجدادنا.. إننا نحن العبيد كلنا معتادون على ذلك.. ولا أعرف السبب.. ولا أعرف من أين جاءتنا هذه العادة..

قالت ظبية بهدوء: لا يهمني يا جوزة أن أعرف، ولا يهمك أن تعرفي من أين جاءت هذه العادة.. وإنما يهمنا أن نعرف أنا وأنت أنها عادة ذميمة، نهى عنها ديننا.. ونبهنا شيخنا عباس إلى تجنبها ما استطعنا.. مفهوم يا جوزة..؟

قالت جوزة: مفهوم.. مفهوم.. يا عمـ.. يا أختي.. يجب.. يجب أن أتعلم كيف أدير لساني على كلمة \"يا أختي\".. وأخشى ألا يطاوعني دائماً.

قالت ظبية: سيطاوعك إن شاء الله.. ويطاوع كل الأخوات الأخريات. أليس كذلك يا دوحة وريحانة.

قالت هذا والتفتت إليهما..

قالت الفتاتان بصوت واحد: بلى.. بلى.. يا عمـ.. يا أختي.. رددت الفتاتان المقاطع ذاتها في وقت واحد وكأنهما في جوقة موسيقية، مما أحدث في نفوسهن جميعاً أثراً لطيفاً.. استعادت جوزة من جرائه قدرتها على الدعابة فقالت:

ما هذا العدل يا أختي.. جوزة تنال التوبيخ، وريحانة ودوحة تتمتعان بالسماع، مع أن الجريمة واحدة.. بل ربما كررتا الكلمة الممنوعة أكثر مني..

قالت ظبية باسمة: ما دام الأمر في حدود التنبيه، فهو لكنً جميعاً، لأن آذانكن جميعاً تسمع وعقولكن تعي.. فالتنبيه لواحدة هو تنبيه للأخريات.. لذا فإن العدل هنا متحقق.. لكن لو تحركت العصا، فلن يكون من العدل أن تبقى عين تضحك، بينما صاحبتها تدمع.. فلا بد من أن تنال العيون جميعاً حظها من الدموع..

ضحكت الفتيات ضحكة خفيفة.. سمع على أثرها نداء رجل.. فأرهفن السمع، فإذا هو هواش يخاطب ابنته:

ظبية.. ظبية..

قالت ظبية: نعم يا أبي

قال هواش: بعد أن ينتهي عملك مع البنات أحب أن أراك قليلاً..

قالت ظبية: أمرك يا أبي.. نحن قد انتهينا يا أبي..

قالت هذا لأبيها، وأشارت للبنات بالانصراف.. وبعد أن انصرفت البنات الثلاث، دخل هواش على ابنته، في الحجرة وقال: مساك الله بالخير يا ابنتي..

قالت ظبية بأدب واحترام شديدين: مساك الله بالنور يا أبت..

قال الأب بحنان: اجلسي يا ابنتي بجانبي، فلك عندي حديث خاص.. جلست بجانبه وهي تتوجس من أمر ما، لا تعرف ما هو..

قال الأب بهدوء: أريد أن أبشرك ببشارة يا ابنتي.. لكن حافظي على توازنك ورجاحة عقلك.

قالت وهي مرتكبة: خير يا أبي.. خير إن شاء الله.. لن تراني إلا عاقلة هادئة بإذن الله.

قال بهدوء حازم: لقد خطبت اليوم يا ابنتي.. خطبك مني زناد لابنه بارع.. فوافقت وحددنا المهر واتكلنا على الله، فما رأيك؟

قالت ظبية، وقد احمر وجهها، وأحست بدوار في رأسها: زناد يا أبي؟ زناد العبد..؟ عبد عمي مرهج؟

قال الأب بحزم وهدوء: أجل يا ابنتي.. أجل.. زناد.. عبد عمك مرهج، خطبك لابنه بارع..

اضطرب صوتها، وجف حلقها، وأحست بما يشبه الغثيان.. ضربات قلبها تتسارع.. أطرافها تتشنج.. وما تزال متماسكة.. كررت عليه السؤال بصوت مخنوق: زناد يا أبي؟ زناد.. العبد.. عبد عمي مرهج.. لابنه بارع.. بارع بن زناد.. ابن زناد العبد؟ لم تعد تملك نفسها من السقوط.. وهي حالة تشبه الإغماء.. فاستلقت على ظهرها، وهي تردد بصوت مخنوق! زناد..؟ العبد..؟ عبد عمي مرهج..؟ يخطبني لابنه.. لابنه بارع.. بارع.. العبد.. ابن العبد.. ابن العبد زناد..!؟

أسرع أبوها فجلب إليها شيئاً من الماء، وحين عاد وجدها قد كفت عن هذيانها، لأنها كانت فاقدة الوعي، ووجهها كوجوه الأموات صفرة..

رش على وجهها وجسمها بعض الماء فانتبهت إلى نفسها، ونهضت بمساعدة أبيها، وعادت إلى جلستها بجانب والدها صامتة، وعلى وجهها صفرة كصفرة الموت.

كان أبوها قد سمع طرفاً من حديثها الأخير مع الفتيات حول السادة والعبيد، فأراد أن يلقنها درساً بليغاً في هذا المجال.. وحين وصل بها الأمر إلى الحالة الأخيرة، التي كان يتوقعها.. نهض واقفاً، وقال لها: شاوري نفسك يا ظبية، واستشيري من تحبين صديقاتك.. وردي لي الجواب، فأنا بانتظارك.. صحيح أني أعطيت جواباً مبدئياً لزناد بتزويجك لبارع، إلا أني لم أبت في الأمر تماماً، وعلقت الجواب النهائي على رضاك، وأنت بالخيار بين الرفض والقبول..

قال هذا وخرج، وظلت ظبية ساهمة شاردة، ذاهلة عن نفسها وعما حولها..

لم تكن ظبية كاذبة مخادعة، حين كانت تحدث الفتيات عن الأخوة بين الأحرار والعبيد، وعن نفي أسباب التفاضل بينهم، وإثبات التقوى وحدها سبباً لهذا التفاضل.. لقد كانت جادة كل الجد فيما تقول، صادقة كل الصدق فيما تتحدث به، مقتنعة تماماً بأفكارها التي تطرحها على مسامع الفتيات.. فما الذي أحدث لها هذا الاضطراب العنيف، حين سمعت أنها ستتزوج عبداً من عبيد أهلها؟ أهو الانفصام الغامض في أعماقها بين أفكارها النظرية النبيلة السامية التي تلقتها عن الشيخ عباس المدلول، والمشاعر النبيلة المثالية، التي ارتبطت بهذه الأفكار، وبين مكونات شخصيتها الأخرى الأساسية الموغلة في أعماقها من مشاعر وقيم وأخلاق وأفكار وتصورات تراكمت في أعماقها عبر عشرين سنة من التربية في أجواء قبلية مشحونة بقيم خاصة وبتصورات خاصة لمعنى الحر ومعنى العبد، ومعنى العز والرفعة، ومعنى الذلة والهوان....!؟

لقد كان عقلها مدركاً ومستوعباً أبعاد المفارقة، بين فهم القبيلة لمعاني التفاضل وأسبابه، وبين الفهم الإسلامي الصحيح لمعنى التفاضل وأسبابه.. وكان هذا جلياً في أحاديثها مع الفتيات بنات العبيد، فهل كان عقلها نفسه قاصراً، عاجزاً عن تمثل المعاني العميقة التي يوحي بها كل مصطلح من مصطلحي العبد والحر، وفقاً لمعايير القبيلة من جهة ومعايير الإسلام من جهة أخرى!؟ ونهل كان لضحالة ثقافتها دور في هذا القصور العقلي، أدى إلى نوع من الفصام الخفي، بين الآثار العميقة لتصورات القبيلة، وبين الآثار البسيطة التي لم تجد في حياة ظبية ما يعمقها، فظلت طافية على السطح، ثم انحسرت لدى أول مفاجأة لتبرز الشخصية الحقيقية من تحت القشرة السطحية؛ شخصية الزعيمة سليلة الزعامة، في مواجهة شخصية العبد سليل العبودية..!؟

وهل كانت الأحلام المثالية النظرية، التي يحلم بها الناس جميعاً، ولا يستطيعون تحقيقها في واقع حياتهم –عدا الأنبياء- هي التي كانت تصوغ لهم أفكارها النبيلة العليا، وتوجه مشاعرها النبيلة العليا، حتى إذا دعيت هذه الأفكار والمشاعر إلى التطبيق على أرض الواقع، اهتزت واضطربت، لاستنادها إلى ركائز واهية ضعيفة هي مجرد أحلام..!؟

لقد دخلت ظبية في حوارات كثيرة مع أمها الحصيفة المتزنة المجربة، حول هذا الموضوع؛ إذ كثيراً ما كانت الأم تنبه ابنتها إلى أن للقبيلة عادات وأعرافاً، وقيماً متأصلة فيها من مئات السنين، ولا يمكن إلغاء هذا كله بين ليلة وضحاها، وبمجرد كلمات يقولها الشيخ عباس أو غيره.. كما كانت الأم تنصح ابنتها، بألا تلح على بنات العبيد لتدفعهن إلى الإحساس بالسيادة، لأن مساعيها لن تجدي شيئاً في هذا السبيل.. وحتى لو استطاعت أن تغرس مشاعر السيادة في بعض البنات، فإن هذا لن يؤدي إلا إلى الضرر، إذ سينجم عنه تمرد بعض بنات العبيد على أوامر آبائهن، الذين رضوا بقيم القبيلة وعاداتها.. وإذا اتسعت هذه الموجة فستؤدي إلى خلخلة في طبقة العبيد نفسها، فتدور الدائرة على رؤوس العبادين –كما تقول الأم-..

وصحيح أن الأم كانت تسلم بما تقول ابنتها، من أن الناس أبناء لأب واحد وأم واحدة، وأن أكرم الناس عند الله هو أتقاهم وأحسنهم أعمالاً.. إلا أنها كانت ترد عليها ببساطة، بأن الحياة بين القبائل تختلف عن الحياة بين العلماء وأصحاب الدين \"نحن يا بنتي نعيش بين القبائل والعشائر في البادية، ما نعيش في المدن بين الملالي وأهل الدين.. الله يعفو عنا يا بنتي.. أين نحن يا بنتي من الناس الطيبين الطاهرين، الذين لا يقتلون ولا ينهبون، ولا هم لهم إلا الصوم والصلاة وذكر الله!؟ الله يعفو عنا يا بنتي.. الله يعفو عنا..\"

وقد كان والد ظبية يحضر أحياناً بعض الحوارات بين البنت وأمها، وكانت الأم، برغم رضاها عن سلوك ابنتها المستقيم، تستنجد بزوجها ضد ابنتها من قبيل الدعابة والحنان قائلة: \"اسمع يا هواش.. بنتك ظبية هذي تريد أن تمرد علينا العبيد..\" فيضحك الأب ضحكة حانية مسروراً بصلاح ابنته وتقواها.. وقد ينتصر لها أحياناً مخاطباً زوجته: \"إياك أن تغضبني ظبية يا نجدية.. ظبية صالحة طاهرة.. ولو كان عندنا مئة بنت مثل ظبية لكانت القبيلة بعد جيل أو جيلين من الزمن صارت مثل الملائكة.. الله يرضى عنك يا شيخ عباس..\" كما كان أحياناً يحاول إقناع ابنته بأن مساعيها في سبيل المساواة بين العبيد والأحرار عبث لا جدوى منه، قائلاً: \"يا بنتي يا ظبية لا تضيعي وقتك مع بنات العبيد، تحاولين أن تغرسي فيهن السيادة.. فالعبد يا بنتي يظل عبداً.. هؤلاء الناس نفوسهم ميتة لا خير فيها.. ولو كان فيهم خير ما تطوعوا من تلقاء أنفسهم لأن يكونوا عبيداً.. لقد كان العبيد فيما مضى يباعون ويشترون.. فكانوا مجبرين على العبودية.. أما عبيد اليوم فهم متطوعون للعبودية تطوعاً، ولا يستطيع أحد أن يلزمهم بها، ومع ذلك يركضون إليها بأيديهم وأرجلهم.. فماذا ترجين منهم يا بنتي.. إنك تنفخين في رماد..\" وقال لها مرة في لحظة صفاء، وكانت قد فرغت تواً من تلاوة القرآن، فقبلته ووضعته على الرف:

تعالي يا ظبية، تعالي اجلسي بالقرب مني حتى أسألك واستفيد من علمك الذي تعلمته من الشيخ عباس..

وحين جلست، قال لها أريد أن أسألك يا بنتي بعض الأسئلة، فأنت قارئة كاتبة، آخذة عهداً على الشيخ المدلول، وأنا أمي لا أقرأ ولا أكتب، وليس عندي وقت أضيعه مع الشيخ المدلول..

قالت مبتسمة بحياء: وهل تعتبر سماعك لأقوال الشيخ المدلول ضياع وقت يا أبت!؟

قال مستدركاً: ما أقصد هذا المعنى.. لكن أقصد أن مشغول بأمور كثيرة، تمنعني من الاهتمام بسوالف المدلول.. حياة البادية يا بنتي قاسية.. لكن اتركينا الآن من هذا الموضوع وأجيبي على أسئلتي..

قالت بحياء: تفضل يا أبي..

قال: هل سوى الله بين الناس يا بنتي؟

ارتبكت وأخذتها الحيرة.. حاولت أن تجيب إجابة سريعة مباشرة فلم تستطع.. فقالت بعد تردد:

طبعاً.. طبعاً يا أبي.. لقد خلق الله الناس متساوين.. لقد.. لقد.. سوى الله بين عباده.

تبسم وقال لها: وهل سمعت هذا الكلام من الشيخ عباس يا ظبية؟

قالت بعد تردد: لا.. لا.. لا أذكر أني سمعته من الشيخ.. لكن.. لكن.. الرسول (صلى الله عليه وسلم) قال: كلكم لآدم وآدم من تراب.. وما دمنا من أبناء لأب واحد وأم واحدة فيجب أن نكون متساوين يا أبي.. أليس كذلك؟

قال الأب باسماً: وهل كان أبناء أب واحد وأم واحدة متساوون يا ظبية؟ أعني: أليس هناك فرق بين أبناء الأب الواحد في الصحة والمرض، والطول والقصر، والعلم والجهل، والغنى والفقر، والاتزان والحماقة.. وغير ذلك من الأمور..!؟

قالت ظبية مرتبكة: بلى يا أبي.. بلى.. هناك فروق كثيرة بني الإخوة.. في هذه الأمور..

قال الأب: أو ليس هناك يا ظبية فروق بين الأخ والرجل وأخته المرأة.. وبين الأخوات فيما بينهن، وبين الأخ الشجاع والجبان، والأخ الكريم والبخيل، والأخ الصالح والمجرم.. وغير ذلك من الفروق..!؟

قالت ظبية: بلى يا أبت بلى..

قال باسماً: فكيف تقولين يا ظبية إن الله سوى بين عباده!؟

قالت مترددة: أقصد.. أقصد يا أبت أن الله سوى بينهم في الحقوق.. حقوق الآدمية.. فكلهم أبناء آدم، ولهم حقوق مشتركة.. كما.. كما سوى بينهم في الواجبات.. فكلهم عليهم واجبات مشتركة..

قال الشيخ المحنك مبتسماً: أنا أعترف يا ظبية بأني أمي لا أقرأ ولا أكتب، ولا أعرف شيئاً من القرآن ولا من أحاديث الرسول، لكن دعيني أسألك يا بنتي مرة أخرى:

هل حق البنت في الإسلام مثل حق الرجل، أقصد من حيث الميراث والدية ومن حيث العلاقة بين الرجل وزوجته مثل واجبات الطاعة وغيرها..

ظبية: لا يا أبي..

الأب: وهل حق المجرم قاطع الطريق في الإسلام، مثل حق النقي الصالح الذي يبذل روحه للدفاع عن الدين؟

ظبية: لا يا أبي.. لا يمكن أن يكون هذا مثل ذاك في الحقوق..

الأب: وهل واجبات النصراني في دولة الإسلام يا ظبية مثل واجبات المسلم ابن الملة؟

ظبية: لا يا أبي.. المسلم واجباته أكبر من واجبات النصراني..

الأب: وهل واجبات الأعمى في الدفاع عن بلاد المسلمين مثل واجبات البصير.. يا ظبية..؟

ظبية: لا.. لا.. لا يا أبي، الأعمى لا يستطيع القتال، وقد عذره الله وما جعل عليه حرجاً..

قال الأب باسماً: وإذا داهمتنا قبلة معادية يا ظبية، ونهبت أموالنا وخيلنا وإبلنا.. وسبت نساءنا.. وقام رجال قبيلتنا يدافعون عن حريمهم وأموالهم، وتخلف عن القتال رجلان.. أنا أبوك هواش المنصور، والعبد \"رحيل\" عبد عمك \"غزوان\"، فهل تلومين أباك هواش المنصور على تخلفه، أم تلومين العبد (رحيل)؟

ظبية باسمة: ما عرفناك تترك الدفاع عن حريمك ومالك يا أبت.. وما تفعلها إن شاء الله.. ولا أحد يسوي بينك وبين العبد رحيل، ولا حتى بينك وبين صناديد القبيلة.. أنت الشيخ هواش المنصور.. معروف بين كل القبائل.. لكن يا أبي لماذا كل هذه الأسئلة.. ولماذا هذا السؤال الأخير بالذات؟ هل هناك غارة لا سمح الله، تشنها علينا إحدى القبائل!؟

هواش باسماً: عندي سؤال أخير يا ظبية، أجيبيني عليه، وبعدها أجيبك على سؤالك.

ظبية: تفضل يا أبي.. سل ما بدا لك.

هواش: لو زارتنا مجموعة من النساء الغريبات وليس في البيت إلا أنت وواحدة من بنات العبيد.. ثم خرجت الضيفات من البيت جائعات، لم يقدهم لهن أحد طعاماً.. فمن منكما سيلحقها العار، ويصفها الناس بالبخل، ويلومونها على التفريط بحق الضيوف.. أنت يا ظبية، أم العبدة!؟

ظبية باسمة: بل.. بل أنا يا أبي.. ولن يلوم العبد أحد.. لكن يا أبي أنت تعرف أن ابنتك لا تفعلها إن شاء الله..

ضحك هواش، وهو ينظر إلى ابنته بحنان وقال:

أنا أعرفك يا ابنتي.. كريمة العم والخال.. لا تفعلين الناقصة.. والآن.. هل تعيدين علي سؤالك!؟

قالت ظبية باسمة، وقد أدركت المقصود من الحوار برمته:

لا يا أبي لقد تلقيت الجواب..

قال الأب باسماً: أعرفك لماحة.. تفهمين على الطاير.. وهذا مما يجعلني أعتز بك، وأحمد الله على أن منحني بنتاً ذكية صالحة مثلك..

ثم استطرد: وفقك الله يا ظبية.. وبإمكانك أن تأخذي حريتك في الانصراف إذا أحببت.. وأرجو أن استريح قليلاً.. وأوصيك للمرة الأخيرة: حافظي على دروسك مع بنات العبيد، لكن لا تثقلي عليهن في حكاية الأحرار والعبيد.. هوناً هوناً.. يا ظبية، هوناً هوناً.. الله سخر الناس للناس يا بنتي.. سخر العبيد حتى يخدمونا، وسخرنا حتى نطعمهم ونكسوهم ونحميهم.. يا بنتي.. كان هذا منذ شهور طويلة.. وقد نسيت ظبية كثيراً من هذه الحوارات بينها وبين أمها وأبيها.. ولم  يبق منها في ذاكرتها إلى آثار باهتة ضعيفة.. كان يطغى عليها باستمرار الحديث الذي كان يكرره الشيخ المدلول: \"كلكم لآدم، وآدم من تراب..\"، فتكرره على مسامع الفتيات بفطرة سليمة، دون وعي كامل لمدلوله، وتشرحه لهن بمثالية نبيلة سامية، قاصدة إحياء المشاعر الإنسانية الميتة في أعماقهن.. حتى جاء الدرس الأخير من والدها.. فوضعها وجهاً لوجه أمام مثاليتها السامية، وطموحاتها الإنسانية الرائعة..

ولقد كان لفطرتها النقية السليمة، أثر هام في عجزها عن مواجهة هذا الموقف العصيب، الذي وضعها فيه أبوها.. إذ لم يتبادر إلى ذهنها قط، أن أباها، في حديثه عن خطبتها للعبد، يمكن أن يطرح الموضوع لمجرد امتحانها، أو تلقينها درساً، أو حتى لمداعبتها.. ولو فكرت قليلاً عند سماع الخبر، لتأكدت من استحالته، فأبوها الذي يضن بها على كثير من كرام أبناء القبيلة وسادتها وفرسانها، لا يمكن أن يزوجها لعبد، لو اهتزت الأرض ومادت بمن فيها.. وحتى لو طلبت ظبية نفسها منه الزواج من العبد وألحت عليه في الطلب، فإنه يفضل أن يدفنها وهي حية، برغم محبته لها، على أن يزوجها لعبد، فيلطخ بالعار سمعته وسمعة أهل بيته إلى الأبد.. إلا إذا وجد أن للعبد مزايا رفيعة جداً لا يملكها أحرار القبيلة، مما يجعل سمة العبودية قشرة رقيقة واهية، يمكن التغاضي عنها ضمن ظروف معينة.. وهذا يكاد يكون مستحيلاً في دنيا البادية.