دروس عن غزوة أُحد

العلامة محمود مشّوح

7 / 10 / 1974

( 2 )

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

يقول الله تعالى ( إذ تقول للمؤمنين ألن يكفيكم أن يمدكم ربكم بثلاثة آلاف من الملائكة منزلين ، بلى إن تصبروا وتتقوا ويأتوكم من فورهم هذا يمددكم ربكم بخمسة آلاف من الملائكة مسومين ، وما جعله الله إلا بشرى لكم ولتطمئن قلوبكم به وما النصر إلا من عند الله العزيز الحكيم ، ليقطع طرفاً من الذين كفروا أو يكبتهم فينقلبوا خائبين ، ليس لك من الأمر شيء أو يتوب عليهم أو يعذبهم فإنهم ظالمون ، ولله ما في السماوات وما في الأرض يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء والله غفور رحيم ) هذه هي الآيات التي تحدثنا عنها نهار أمس ، وهي كما ترون آيات تتحدث عن أجواء المعركة ، معركة أُحد . بعد هذه الآيات يأتي قول الله تعالـى ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ، واتقوا النار التي أُعدّت للكافرين ، وأطيعوا الله والرسـول لعلكم ترحمون ، وسارعوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها السماوات والأرض أُعدت للمتقين ، الذين ينفقون في السراء والضراء والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين ، والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصرّوا علـى ما فعلوا وهم يعلمون ، أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين ) قد يبدو لقارئ القرآن الذي يتعجل النظر فيه ولا يدقق في خفايا السياق القرآني أنه لا علاقة بين المقطع الذي تلوناه الآن وبين المقطع الذي تلوناه بالأمس ، فأين الحديث عن المعركة والاستعداد لها والإعداد ؟ وأين الحديث عن القتل والقتلى والشهادة والشهداء من الحديث عن الربا وتوعد آكليه وعن ضرورة حسن الخلق وكرم الغيظ وما أشبه ذلك من خصال النفوس ؟ لكن شيئاً قليلاً من التمعن وإمعان النظر يكشـف لنا عن أن الصلة بين مقاطع هذه الآيات هي أشد وأعمق مما نتصوّر ، فهذه الآيات الستون من سورة آل عمران لم تقص قصة المعركة فحسب ، فالمعركة سُردت أحداثها ورُوت وقائعها في كتب الحديث وكتب السير والتاريخ ، ووظيفة القرآن ليس أن يسجل الحدث وحسب ، بل أن يبرز الحدث الذي يكون أكثر خدمةً للغرض العام ، وأن يعلّق عليه بما يجعل الدرس منه كاملاً مستوفى .

 وهذه الآيات تعرضت في سياقها كله إلى عدد من الظواهر السلبية التي كانت في الصف المسـلم ، كما تحدثت عن ظواهر إيجابية كانت في الصف المسلم ، وليس من شأن القرآن أن يضرب صفحاً عن الأخطاء ، فالقرآن يقف عند الأخطاء يشبعها درساً ويقتلها تمحيصاً ، ولا يتركها حتى يجعلها عاريةً معروفة العلل والأسباب . ومن هذا الباب ما كان من حديثٍ عن غزوة أُحد ، فالتركيب الذي خرج المسلمون به لملاقاة عدوهم تركيب كان يرزح تحت نواقص ، وهذه النواقص يجب أن تُستكمل ، وكانت فيه أخطاء ، وهذه الأخطاء ينبغي أن تُسـتدرك . وأي جيش يتحرك ليلقى عدو الله وعدو المؤمنين فأول واجبٍ عليه هو أن يتحرى مبلغ إرضائه لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، إن رضوان الله جلّ وعلا لا يُلتمس ولا يُطلب بمعصية الله ولا بسخط الله ، وما عند الله من سميّ الأجر وعظيم المثوبة ورفيع المنزلة لا يُنال بمعصية الله تبارك وتعالى . ولذلك كان حرص المؤمنين بالغاً على أن تكون تقوى الله جلّ وعلا هي الطابع المميز الذي يميز جند الله من جند الشيطان . ويبدو أن شيئاً من إرادة الدنيا كان يجول في بعض النفوس ، وآية ذلك أن الذين أمرهم النبي صلى الله عليه وآله أن يلزَموا أماكنهم لا يتزحزحوا عنها قد تركوا أماكنهم حينما شارفت المعركة على الانتهاء ، وحينما امتدت أيدي المسلمين تجمع أسـلاب المعركة والغنائم التي تركها المشركون .. فلو لم تكن إرادة الدنيا أغلب من واجب الطاعة لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ما ترك الرماة مواقعهم على فتحة الجبل لكي يتسرّب منها المشركون فيكرّوا على المسلمين وتقع الكسرة في جيش المسلمين . ويبدو أن شيئاً أكثر من هذا خالج بعض النفوس ولو بصورة خفية غير ظاهرة ، ولكن القرآن كما قلنا مراراً لا يجامل في الأخطاء ، بل يعرّيها ويبرزها ، ما ندري لعل بعضاً من النفوس راودها أن النبي صلى الله عليه وسلم ربما جامل ناساً وحاباهم حين قسمة الغنيمة ، وربما فضّل بعض الناس في العطاء على غير استحقاق وعلى غير بلاءٍ في المعركة ، وقد تكون بعض النفوس استشعرت إمكانية لونٍ من الخيانة في القسمة وفي الغنيمة يقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم . هل رحم القرآن هؤلاء الناس فلم يُظهر خبأ نفوسـهم ؟ لا . في آيات المعركة قال الله لهم ( وما كان لنبي أن يغلّ ) يعني ما كان لنبي أن يخون ، وكأن هذا الكلام يؤمئ من طرفٍ بعيد إلى هواجس خطيرة وشريرة تسربت إلى بعض النفوس ( وما كان لنبيٍ أن يغلّ ومن يغلل يأتِ بما غلّ يوم القيامة ) كل هذه الأشياء لاحظها سياق الآيات ، ولاحظ شيئاً آخر هو بناء النفس وبناء المجتمع . نحن حينما ندخل المعركة نلقي إليها بجنودٍ أخلصوا لله قلوبهم واستقامت على أمر الله ظواهرهم وسرائرهم ، ولم تحدثهم نفوسهم بمعصية أو فسوق ، وبغير هذا فلا سبيل إلى نصر ولا إلى تأييد . ذات مرة كان المسلمون في معركةٍ من المعارك ، كان ذلك في فتوح العراق وفي معارك القادسية على وجه الخصوص ، خاض المسلمون عدداً من المعارك ، كانوا قرابة عشرين ألفاً ، كتبوا يستمدون أمير المؤمنين عمر فأمدّهم بالقعقاع بن عمرو ، وقال لهم : إني ممدكم بالقعقاع وحسبكم به . أعتقد أننا لو ذكرنا هذه الوقائع لأبناء هذا اليوم من الذين تلمع شعورهم وتتهدّل سوالفهم وتعرض سراويلتهم وتنتفخ أجسامهم لضحكوا من هذا الكلام . جيش في أشد المآزق وأعظم المخاطر يطلب المدد فيُرسل إليه شخص واحد ، ولكن الناس كما كان يقول ابن دريد رحمه الله تعالى :

والناس ألفٌ منهم كواحدٍ ... وواحد كالألف إن أمر عرض

وليست القضية قضية ضخامة ولا فراهة ولا طراوة جسم ، ولكنها قضية قلوب وقضية عزائم ، والمسلمون خاضوا عدداً من المعارك ، هم أنفسهم استغربوا ، إن جيوش فارس لا تكاد تقف أمامهم ، قلما باتت المعركة إلى الغد ، كانت تنجلي دائماً عن نصر المؤمنين ، قال راوي الخبر : قلنا نقدر أن يبطئ علينا النصر ، فقد كنا نظن أن أربعةً من هذا الجيش في قلوبهم شيء ، أربعة من جيش كثير ، لاحظوا إلى أي حدٍ بلغ التدقيق في اختيار المقاتلين ، أن جيشاً لجباً كثيفاً لا يخفى عليه أمر أربعة أشخاص ، بأي شيء ؟ خيانة ، غلول ، جبن ؟ لا ، ولكن في القلوب ، ظنوا أن الإيمان ليس كما يجب ، وهم كانوا حريصين على أن يخرجوا وقد استكملوا عدة الإيمان لكي يستكملوا عدة الصف ، قالوا : فتشنا أمرهم ، رصدوهم في الليل والناس نيام أثناء التهجد ، قالوا : فوجدناهم من خير الناس . ولهذا وجدوا أنه من غير المستغرب أن لا يبطئ عليهم النصر .

 حادثة معاسكة أيضاً نقولها ليضحك الساخرون الذين لا يرجون أيام الله .. في إحدى المعارك حاصر المسلمون حصناً من الحصون ، فأبطأ عليهم الحصن ، كل يومٍ من الصباح يضربون الحصار حوله ثم يفكون الحصار في المساء ، لأن الحصن لم تُفتح أبوابه ، وبعد أيام جلسوا يتساءلون : لماذا لم يُفتح الحصن حتى الآن ؟ هل هنالك من شيءٍ يحول دون إتمام النصر ؟ استعرضوا كل صغيرة وكل كبيرة ، أين وجدوا التقصير ؟ قالوا : إنا معاشر المسلمين في هذا الجيش قد أغفلنا سنةً من سنن النبي صلى الله عليه وسلم وهي سنة السواك عند الوضوء وعند القيام إلى الصلاة وعند إرادة النوم وعند الاسـتيقاظ من النوم ، أتضحكون من هذا ؟ لكنهم استقاكوا من الغد وأرضوا الله وأرضوا رسوله وفُتح الحصن من ساعتها . كذلك كانت تعمل وتُبنى جيوش المسلمين ، لا على الوجه الذي تحشد فيه عشرات الألوف ومئات الألوف من الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يرجون لله وقاراً ولا يعرفون له متجهاً ولا قبلة ثم يمدّون أيديهم إلى الله طالبين منهم النصر، إن نصر الله وتأييده أبعد منالاً من أن ينزل على أكفٍ وسخة .

 إن النبي صلى الله عليه وسلم وعظ الناس ذات يوم وأبلغ في الموعظة ، وذكر الرجل أشعث أغبر من كثرة السعي والحركة يُطيل الصلاة ويُطيل الدعاء ويمد يديه إلى السماء يقول : يا رب ، ومطعه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغُذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك . النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إن الله لن يستجيب الدعاء إلا من قلبٍ تائبٍ عابدٍ منيب . من قلبٍ مخلصٍ آواب ، أما أن نحشد في معاركنا أعداداً كثيفة بقلوب ونفوس ملوثة فما كان ذلك شأن المسلمين ولا هو النهج الذي جرى عليه القرآن وكشفته هؤلاء الآيات . لا بد إذاً أن يكون العنصر الذي يُزجّ به في المعركة مستقيماً على أمر الله طاهر اليد طاهر القلب طاهر اللسان ، على الخلق النبوي وعلى الأمر الإلهي ، ولا بد أيضاً أن يسلم المجتمع من التشتت والتفرق ، كما سلمت النفس من التوزع بالمعصية كذلك لا بد أن يكون المجتمع سليماً وبريئاً من التشتت والانقسام ، هنا اِلفتوا أنظاركم إلى حكمة ذكر هؤلاء الآيات في معرض الحديث عن معركةٍ لا ترتفع فيها إلا قعقعة السلاح وهدير الخيل ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ) خطاب فيه تحبب ( يا أيها الذين آمنوا ) سمّاهم بأحب الأسماء إليهم ووصفهم بأحب الأوصاف إليه جلّ وعلا ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ، واتقوا النار التي أُعدت للكافرين ) مما يشعر أن أكل الربا قرين الكفر وأن جزاءه النار .

 واسمعوا ما يقول الله جلّ وعلا في سورة البقرة ( الذين يأكلون الربا لا يقومون إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس ذلك بأنهم قالوا إنما البيع مثل الربا وأحل الله البيع وحرم الربا فمن جاءه موعظة من ربه فانتهى فله ما سلف وأمره إلى الله ومن عاد ) يعني إلى أكل الربا ( فأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، يمحق الله الربا ويُربي الصدقات والله لا يحب كل كفّارٍ أثيم ) وهنا أيضاً في آل عمران كما هنالك في البقرة توعّد الله آكل الربا بهذا الجزاء المخيف النار التي يخلد فيها آكل الربا إن لم يحدث توبة وإن لم يراجع ربه بالندم والاستغفار .

 ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة ) لماذا كل هذا التشـديد ؟ أمن أجل دريهمات يكتسبها آكل الربا من أخيه يكون الجزاء ناراً تلظى وخلوداً في هذه النار ؟ نقول : نعم . انظروا إلى نفسية المُربي ونفسية الذي يأخذ الربا ، إن المرابي يعطي بالطريق الأسوء ويترك الطريق الأحسن ، إن الطريق الأحسن هو أن تجيش في نفسك عوامل الأُخوّة والمرحمة والشفقة على عباد الله ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : الراحمون يرحمهم الرحمن . ويقول : إنما يرحم الله من عباده الرحماء . فعوامل الرحمة والشفقة ودواعي الأُخوّة توجب عليك أن تعطي أخاك صدقة أو قرضاً على الأقل وقد ضمن الله لك جزاء القرض أن يكون كجزاء الصدقة سواءً بسواء . ولكن المُرابي يترك هذا الطريق الأحسن ليسلك الطريق الأسوء ، طريق الاستغلال والجشع وعدم النظر إلى عوامل الشفقة والرحمة والأُخوّة ، فيسلكها ويعطي غير ناظرٍ إلى حاجة المُحتاج وغير ناظرٍ إلى عوز المعوز ، غير ناظرٍ إلا إلى شيء واحد هو مصلحته الذاتية ، أن يزداد ماله وتتكدس بضاعته وما أشبه ذلك . فشتان بين هذا وهذا ، شتان بين المُربي وبين المتصدق ، المتصدق إنسانٌ تتفجر عوامل الرحمة في قلبه ، والمُرابي وحش تتنزى عوامل الحيوانية في صدره ، فرق هائل بين الاثنين . لكن الأمر عند التحليل له زيول خطيرة ، هذا المُرابي مع الزمن حينما يرى حاجة الناس إليه وحينما يخفّ استنكار المجتمع لجريمته ، مع الزمن وتطاوله ومع تكاثر أرباب الحاجات وكثرة الذين يطرقون عليه بابه يرى أن له في المجتمع مكاناً ممتازاً ، وأن له على هذا المجتمع حقوقاً مقررة ، يرى أنه سيد وأنه أكثر من ذلك ، حلاّل المشاكل الذي بيده المفاتيح التي تُفرج عن المكروب والمهموم وذي الغم ، فترى نفسه تمتلئ غروراً . أكثر من ذلك أيضاً ، ما يزال به الأمر حتى يخرج من هذه الحالة البشعة إلى ما هو أبشع ، ينسلخ من إنسانيته بالمرة ، فيبدأ يُسيطر على عملائه وزبائنه ، يستخدمهم ويقبل منهم الرشوة والهدايا ، وقد يخرج الأمر إلى العدوان على أعراض زبائنه ، في الجاهلية كان هذا ، لا تستغربوا شيئاً ، في الجاهلية كان هذا ، كان طريقهم في الربا أن الرجل يأتي إلى المرابي فيستقرض منه مالاً أو إبلاً أو غنماً إلى الحول برباً معلوم ، فإذا جاء الحول ولم يكن عنده أداء يقول له المرابي صاحب المال : أتقضي أم تربي ، يعني أتدفع الذي عليك أم نحسب الحسبة من جديد ونضيف إليها الفوائد ، فإذا لم يكن عنده قضاء للدين لجأ إلى الإرباء ، وهكذا بعد عدد قليل من السنوات يكون لصاحب المال للمرابي في ذمة زبونه وعميله أكثر من ماله بعدة مرات ، فهذا هو الربا أضعافاً مضاعفة ، يعني الربا الذي يتضاعف فيه رأس المال أضعافاًً مضاعفة . هذه مرحلة أولى ، لكن المرحلة الثانية كانت أن المَدين إذا عجز عن الأداء فإن للمرابي صاحب المال أن يطلب إليه بيع زوجته وبناته وأولاده ليسد له حقه ، وإذاً فطريق الربا طريق معلوم ، طريق يُحوّل المرلبي من إنسانٍ إلى وحش فاقد لكل معاني الإنسانية والشرف والشهامة والرجولة وكل معنى نبيل يعيش عليه ومن أجله الإنسان في هذه الأرض . لكنه أيضاً بالنسـبة لآكل الربا ، بالنسبة للآخذ لا للمعطي شيء مدمر ، هذا الإنسان المحتاج يشعر أولاً بالذلة والمهانة ، ربما ألجأتك الحاجة أيها المسلم أيها الأخ إلى أن تطرق باب إنسان ، في الحالة العادية لا تسمح له بأن ينفض الغبار عن قدمك ، ولكن حاجتك تجعلك تطرق الباب تطلب منه معونة ، أي ذل وأي هوان يشعر به الإنسان ، إن كرامة الإنسان في هذه الحالة تُصاب بالصميم .

 وليت الأمر يقف عند هذا الحد ، لكن هذا الذي يرى أن الظلم يقع عليه ، وأن أمواله وثمرة جهوده تذهب إلى إنسانٍ رافه ناعم لم يضرب فيها مِعولاً ولم يعقد فيه صفقةً ولم يعرق له فيها جبين ، تذهب إلى هذا الإنسان يمتلئ عليه قلبه حقداً وكراهية ، هذا الشيء هو الذي جعل القرآن الكريم حريصاً على أن يطرد من صفوف المسلمين آفة الربا كما طرد الشرك من صفوفهم ، لأن الربا قرين الشرك بدون ريب . فالمشرك مهما يكن شأنه لا يفعل أكثر مما يفعل آكل الربا ولا يمزق الشرك عرى المجتمع أكثر مما يمزقها فعل الربا .

 فالأمة التي تدخل معاركها نفوس ذليلة تقابلها نفوس جشعة مستغلة ومستعلية ومتكبرة وطاغية بغير الحق ، ومجتمع ممزق يحقد بعض أفراده على بعض ، هذه الأمة التي تكون على هذه الصورة لا يمكن أن تكسب معركةً بحالٍ من الأحوال . لا بد أن ندخل مسلمين ولا بد أن ندخل متحدين ، ومن هنا كان الموقف المبدئي من الربا ، موقفاً لا مساومة فيه ولا مجاملة بحال من الأحوال . الله جلّ وعلا صوّر آكل الربا بأنه كالذي مسه الشيطان وتخبطه ، كلما قام ليقف خبطه الشيطان على الأرض ، لا يستطيع أن يستمسك قائماً بحالٍ من الأحوال ، ثم توعده بالحرب قال ( فأذنوا بحربٍ من الله ورسوله ) ومن ذا الذي يثبت على حرب الله وحرب رسوله ، لقد نفّر الناس ، لقد نفرهم جداً من هذا الربا ، قال لهم النبي عليه السلام : الربا ست وثلاثون باباً ، أدناها ـ يعني أيسرها ـ مثل أن يأتي الرجل أمه . أرأيتم إلى أي حد يكون فعل الربا منّفراً منه ، لأنه شيء خطير شيء لا يمكن أن تستقيم عليه الحياة ، ولا يمكن أن تُربح عليه المعارك ، ولهذا كانت حملة الإسلام على الربا حملةً لا تبقي ولا تذر . وفي الوقت الذي كان يُنفّر فيه من الربا ويفضح المربين كان ينمي عوامل الخير والمرحمة في القلوب والصدور ، كان يُبيّن لهم أن الأزكى والأقبل عند الله أن يسارع الإنسان إلى تفريج هم أخيه وإلى تنفيس كربة أخيه : مَن نفّس عن مؤمن كربةً من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربةً من كُرب يوم القيامة . والذين يُنفقون أموالهم في السراء والضراء وفي اليل والنهار هم الذين يُنظر إليهم على أنهم الرجال الذين يبنون ولا يهدمون ويربحون المعارك ولا يخسرون ولا ينهزمون . والنبي عليه الصلاة والسلام ندب ورغّب ، ندب على الإنفاق ورغب في الصدقات وذكر فيما ذكر في الحديث المشتهر الذي يقول فيه عليه السلام : سبعة يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله ـ يوم تدنو الشمس من الرؤوس ويُلجم الناس من العرق يوم القيامة ـ ذكر منهم : ورجل تصدق بصدقته فأخفاها لا حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه . أين هذه الصور الوضيئة المحببة الجميلة من صورة أولئك المرابين الذين يمثّلون الوحوش الكواسر ؟ كيف يمكن أن يغفل الإسلام وهو يمهد إلى درسٍ كبير من دروسه الخطيرة .. كيف يغفل ذكر هذه الآفة آفة الربا ؟ وكيف يتركها تعمل في نفوس الأفراد تحطيماً ؟ وكيف يتركها لتعمل في جسم الأمة تمزيقاً ؟ لا بد من فضحها ، ولهذا قال ( يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا الربا أضعافاً مضاعفة واتقوا الله لعلكم تفلحون ، واتقوا النار التي أُعدت للكافرين ) .

 نحن اليوم كان مقرراً أن نسير في الآيات مسيراً سريعاً ، ولكن موضوع الربا كما يعلم كل واحد منكم موضوع خطير وعواقبه سيئة ، ولا يمكن أن يخلو منه زمان ولا سيما الأزمنة المتأخرة ، والنبي عليه السلام يقول : يأتي على الناس زمانٌ مَن لم يأكل الربا أصابه غباره . فنعوذ بالله سبحانه وتعالى من ذلك ، ولخطورة الموضوع وجدنا أنفسنا مضطرين إلى تفصيل هذا الأمر شيئاً ما ، فعسى أن لا نكون قد أثقلنا عليكم في هذا ، ونستمهل إلى الغد لنواصل الحديث ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .