أهل الكتاب

العلامة محمود مشّوح

تكملة عن أهل الكتاب

30 / 9 / 1974

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

 الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

 لقد قلنا في درس البارحة أن الله سبحانه وتعالى حدد لهذه الأمة سماتها الأساسية ، وبين لها الشروط التي يجب أن تتوفر فيها لكي تظل محافظةً على معالم هذه الشخصية ، وإن رعاية هذه الشروط والمحافظة على هذه السمات الرئيسية للشخصية المسلمة هي التي تمنح الأمة مكانتها الممتازة بين الأمم . لا نقاش في أن الناس من حيث هم ناس ، وأن الأمم من حيث هي أمم ، لا امتياز بينها ولا تفاضل ، والامتياز والتفاضل إنما يكونان تبعاً للرسالة التي تطّلع الأمة لأدائها ، وأداء الرسالات ليست دعوة هينة ، ولكنها إعداد واستعداد ، فما كل إنسانٍ يملك أن يحمل رسالة ، وإذا حمل الرسالة فما كل حامل رسالةٍ يملك أداءها والدفاع عنها . وكذلك فلا كل أمةٍ تملك أن تحمل الرسالة كما تملك أن تؤدي الرسالة ، لا بد من شروط ولا بد من حالات يجب أن تتوفر في الأمة لتكون ذات رسالة قائمةً عليها مؤديةً لها .

 وأي ناظرٍ في تاريخ هذه الأمة يعرف أنها على الأقل في المراحل الأولى من تكوّنها كانت من الأمم التي حرفت المدنية وأدّتها إلى الإنسانية بعد أن هذّبتها وأضافت عليها . وخدمات هذه الأمة للإنسانية يعرفها القاصي والداني ، ويعرفها العدو والصديق ، ولم يأتها هذا المكان اعتباطاً ، ولم تنل هذه القيمة بين الناس من غير استحقاق . فالحقيقة أن هذه الأمة مع ملاحظة أنني ما أزال أتحدث عن الأمة في مراحلها الأولى وما يسبق عليها لا يسبق علينا الآن بكل أسف . هذه الأمة كانت بالنسبة للناس مناراً أضاء للناس سُبل الحياة الدنيا ، واستحق من الجهد الموصول والتعب الدائم ، واستحق بالتطبيق المستمر والتمثيل الجاد لأوامر الله جلّ وعلا ، استحق بذلك كله أن يخاطبه الله تبارك وتعالى بقوله ( كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس ) ونلاحظ أن التعبير هنا جاء بصيغة الماضي ( كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس ) والتعبير بصيغة الماضي أسلوب مألوف من أساليب العرب ، يُراد به الدلالة على ثبوت الوصف ، فهذه الخيرية حين يُعبّر عنها بصيغة المضي تُشعر بالثبوت لهذه الأمة والاسـتقرار لها ، والتأويل : أنتم خير أمة أُخرجت للناس .

 ولقد كان بعض السـلف يرى أن المراد بهذا الكلام : أنتم خير الناس للناس ، ويفسرون ذلك بأن هذه الأمة إنما قامت على أمر الله ودافعت عنه وقاتلت من أجله ، كانت تدعو الناس إلى الإسلام حتى تدخلهم فيه ، فبهذا العمل قدمت للناس أعظم الخدمات ، لأنه لا خير فوق الإسلام . لا شك أن اللفظ يحتمل ذلك ، ولكن الأقرب إلى روح الآية أن يكون المراد إثبات الخيرية لهذه الأمة ، فهذه الأمة ( خير أمةٍ أخرجت للناس ) يعني خير أمةٍ أُخرجت بين الناس . أما لماذا جاء حرف الجر وهو اللام فقال ( للناس ) ؟ فالمتبادر أن المراد بهذا الحرف أن يدل على القدوة ، يعني : كنتم خير أمةٍ أُخرجت للناس ليقتدوا بها ويتأسّـوا بسلوكها .

 لكن لماذا كانت هذه الأمة خير أمةٍ أُخرجت للناس ؟ لأن ثمة شروطاً توفرت فيها ، قال ( تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله ) هذه الأمور الثلاثة هي التي جعلت هذه الأمة خير الأمم التي أُخرجت للناس . أمرها بالمعروف ، نهيها عن المنكر ، إيمانها بالله ، فإذا عرفنا أن الإيمان بالله في استعمالات القرآن وفي استعمالات السنة وعلى ألسنة السلف لا يكون إلا بالتطبيق والعمل أدركنا أن معنى قول الله جلّ وعلا ( وتؤمنون بالله ) أي تنفذون أوامر الله جلّ وعلا وتنتهون عما نهى عنه تبارك وتعالى ، وذلك هو لب الشريعة ولب الإسلام . إلا أن ذلك كما قلنا أمس لا يكفي وحده ، فمع الزمن يدرك الإنسان نوع من الفتور ، كما يدركه بعض النسيان ، فتتعرض الحقائق للتزوير وتتعرض للنقص ، لا بد مع هذا من حراسة ، لا بد مع هذا من حياطة ، ولهذا وجدنا ربنا تبارك وتعالى يقول في الآيات التي تلوناها أمس ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ) فمع الإيمان لا بد من أن يؤمر بالمعروف ولا بد من أن يُنهى عن المنكر . بقي أن نقول : إن المعروف في عُرف الشرع هو كل ما عُرف صلاحه وصوابه من دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، والمنكر هو كل ما عُرف فساده من دين محمدٍ صلى الله عليه وسلم ، وهذا يعني أن اختلاف العقول أمر لا يدخل في المنكر والمعروف حسبما حددته السنة ، فالمعروف هو ما عرفه الإسلام ، والمنكر هو ما أنكره الإسلام ، والذي تعرفه العقول أو تنكره العقول قد يكون معروفاً وقد لا يكون ، وقد يكون منكراً وقد لا يكون ، ورُبَّ إنسانٍ فاسق يتصور عقله أن الفجور معروف وأن الفسق معروف ، وهذا لا يُدخل هذه الأشياء في باب المعروف ، فلا بد في المعروف أن تقرّه قواعد الشريعة ، ولا بد في المنكر أن ترفضه قواعد الشريعة ، إذا عُرف هذا تبيّن أن الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر هم حراس الشريعة والأقوياء على تمثيلها وحراستها .

 بهذا كانت هذه الأمة خير أمةٍ أُخرجت للناس ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : أنتم توفّون سبعين أمة ، أنتم خيرها وأكرمها على الله عز وجل . أنتم توفون سبعين أمة يعني تكملون سبعين أمة من الأمم التي خلقها الله ، أنتم خيرها ، يعني خير هذه الأمم وأكرمها على الله جلّ وعلا ، فكرامتها على الخالق تبارك وتعالى بوقوفها مع أمر الله جلّ وعلا ، وإلا فربنا تبارك وتعالى لا يحابي أحداً ولا يجامل أحداً ، والناس يتفاضلون عنده بالتقوى قال الله تعالى ( إن أكرمكم عند الله أتقاكم ) ( كنتم خير أمةٍ أخرجت للناس تأمرون بالمعـروف وتنهون عن المنكر ، ولو آمن أهل الكتاب لكن خيراً لكم ) طبعاً لو أنهم آمنوا بمثل ما آمن بهم المسلمون لكانوا في عباد المؤمنين وكانوا من هذه الأمة التي ثبتت لها الخيرية بنص القرآن وبنص حديث محمدٍ صلى الله عليه وسلم .

 ( ولو آمن أهل الكتاب لكن خيراً لهم منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) الذين آمنوا منهم كعبد الله بن سلام وأمثاله هم كالمؤمنين كالمسلمين ثبت لهم ما ثبت للمسلمين من صفات المدح والكرامة على الله تعالى . والله جلّ وعلا يعرّض بأهل الكتاب ( منهم المؤمنون وأكثرهم الفاسقون ) هؤلاء الفاسقون لهم مع الإسلام مواقف معينة هي مواقف الخشونة ومواقف العنف ومواقف القتال ، والله جلّ وعلا الذي أخذ على نفسه عهداً أن لا يثني هذه الأمة مما يشد أزرها ويثبت يقينها هوّن عليها شأن أهل الكتاب فقال ( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ثم لا يُنصرون ) . ( لن يضروكم ) يعني أهل الكتاب بكل دعايتهم وبكل إساءتهم لن يبلغوا من الإضرار بكم الحد الذي تجدون أنفسكم معه عاجزين عن الحركة . ولكـن لا بد مـن أن يلحقكم منهم أذى ، هـؤلاء خصوم وأعداء ، قال الله تعالى ( لتُبلوّن في أموالكم وأنفسكم ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً ) ( وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ) لا بد من أن يصل المسلمين من خصومهم أذى حتى أن يبلغ هذا الأذى حد الإضرار ( لن يضروكم إلا أذى وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ) الله جلّ وعلا قبل أن يتورط أهل الكتاب في خوض المعارك مع المؤمنين ، قبل وقائع قريظة والنضير وخيبر وبنو قينقاع ، قبل فتوح الشام ، كان الله جلّ وعلا يطمئن المسلمين إلى العاقبة ( وإن يقاتلوكم يولوكم الأدبار ) يعني ينهزمون من أمامكم ( ثم لا ينصرون ) لماذا ؟ هم رجال ونحن رجال ، هم بشر ونحن بشر ، هم يملكون عدة ونحن نملك عدة ، هم يجهزون جيشاً ونحن نجهز جيشاً ، لماذا هذا الحكم عليهم بالهزيمة مسبقاً ؟ قال الله تعالى ( ضُربت عليهم الذلة أينما ثُقفوا ) أينما أخذهم المسلمون فإن ثوب الذل لاحق بهم ومزينٌ إياهم ( ضُربت عليهم الذلة أينما ثقفوا وباؤوا بغضب من الله وضُربت عليهم المسكنة ) لماذا ؟ ( ذلك بأنهم كان يقتلون الأنبياء بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) الاعتداء على أوامر الله ، الكفر بآيات الله ، معاداة المسلمين والمؤمنين والذين يأمرون بالقسط من الناس ليست أمراً هيناً ، وهذه قضية يجب أن يعلمها العدو والصديق على الدوام ، يجب أن يعلمها العدو ليعلم أنه سيخفف عضده ، وأنه وجدناه في ميزان الله فوجدناه لا شيء ، ويجب أن يعلمها الصديق ليعلم أنه على وعدٍ من الله ، وأنه إذ يلقى أعداء الله فإنما يلقى خشباً مسندة ولا يلقى رجالاً شجعاناً ، يلقى دجاجاً خواراً يهرب من أول صدام ، فهؤلاء الذين ترونهم من أعداء الله هنا وهناك وهنالك يقومون ويجولون ، هؤلاء برغم الفخفخة والمظاهر الكاذبة خشبٌ مسندة ، ليسوا رجالاً ولا يصلحون للصعاب والقتال والصدام ، قوم جاؤوا في فتن مظلمة كقطع الليل فوجدوا أنفسهم في مراكز وقيادات وضباط ، نزلت الأمة مأخوذةً بوهلة هذا الأمر حين تصحو ستصفي الحساب مع هؤلاء الأمّعاء . كل إنسان يعادي الله جلّ وعلا فالذل كامنٌ في قلبه مهما بدا لك عزيزاً فهو ذليل ، ومهما بدا لك عظيماً فهو صغير ( ضُربت عليهم الذلة أينما ثقفوا وباؤوا بغضب من الله وضُربت عليهم المسـكنة ) لأي سـبب ؟ ( ذلك بأنهم كانوا يقتلون الأنبياء بغير الحق ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ) .

 هذا وصف عام لكن القرآن كلام الله ، والله جلّ وعلا عادل ، لا يريد الله تبارك وتعالى أن يسحب الحكم على الصالح والطالح ، بل يقول ( ليسوا سواءً ) أهل الكتاب بالرغم من أن هذا هو الوصف العام لهم لكنهم ليسوا على درجةٍ واحدة ( ليسوا سواء من أهل الكتاب أمةٌ قائمة ) والأمة القائمة هي الأمة المصلية المخلصة لله جلّ وعلا ( يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ) من هم ؟ هم اليهود والنصارى الذين أسلموا مع النبي صلى الله عليه وسلم ( يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحين ، وما يفعلوا من خيرٍ فلن يُكفروه والله عليم بالمتقين ) هذه الأمة أو الطائفة من أهل الكتاب التي لحقت بالمسلمين من حيث وصف الخيرية كان لها ذلك لأنها كانت قائمةً لله جلّ وعلا ، تتلوا آياته آناء الليل وتسجد له وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر ، وصفة أخرى : وتسارع في الخيرات . ما معنى المسارعة في الخيرات ؟ كل عملٍ يقرّب إلى الجنة ويباعد من النار فواجب المسلم العاقل أن يسارع ويؤديه ، ولهذا كان وصف المؤمنين أنهم سراع نحو الطاعة بطاء عن المعصية ، عند المعصية تراهم يبطئون ، وعند الطاعة يسرعون.

 ( ويسارعون في الخيرات وأولئك من الصالحيين ، وما يفعلوا من خيرٍ فلن يُكفروه والله عليم بالمتقين ) لن يُذهب على أحدٍ ثواب عمل ، لأن الله جلّ وعلا يعطي للناس أعمالهم ثم يوفيهم أجورهم ( ليسوا سواءً من أهل الكتاب أمةٌ قائمة يتلون آيات الله آناء الليل وهم يسجدون ، يؤمنون بالله واليوم الآخر ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويسارعون في الخيارات وأولئك من الصالحين ، وما يفعلوا من خيرٍ فلن يُكفروه والله عليم بالمتقين ) هؤلاء ناس حُفظت لهم أجورهم .

 ثم يعود السياق ليلتفت إلى الطائفة التي ظلت على سوئها وفسادها ( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً ) في هذه الدنيا تستطيع أن ترشي الناس بمالك ، كما تستطيع أن تخيف الناس بأولادك وأقاربك وأتباعك ، ولكن هذه الوسائل باطلة عند الله يوم القيامة ( إن الذين كفروا لن تغني عنهم أموالهم ولا أولادهم من الله شيئاً وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ، مثل ما ينفقون في هذه الدنيا ) من هم ؟ الكافرون ( كمثل ريح فيها صر ) والصر هو شدة البرد ( أصابت حرث قومٍ ظلموا أنفسهم ) والحرث هو الزرع ، أصابت زرع قومٍ ظلموا أنفسهم بمعصية الله ( فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون ) هؤلاء الكافرون لا شك أنهم يعملون أعمالاً هي في ظاهر الأمر تشبه أعمال المؤمنين من حيث أنها تحمل معنى الخير ومعنى البر ومعنى القربة ، ولكن الله جلّ وعلا أبان في هذه الآية وآيات أخرى أن الشرط في قبول الأعمال الإيمان ، إذا انعدم الإيمان لا يمكن أن يُقبل عمل ، فلو أن الكافر أنفق ملأ الأرض ذهباً ما تُقبّل منه يوم القيامة . ولهذا نجد أن عائشة رضي الله تعالى عنها تسأل النبي صلى الله عليه وآله وسلم : يا رسول الله أرأيت أعمالاً كان يصنعها عبد الله بن جدعان ، وهو من سادات العرب في الجاهلية وأجوادهم وممن أدركهم النبي صلى الله عليه وسلم ، من قرى الضيف وإطعام الطعام وفك الأسير وقضاء الديون عن الناس ، أتنفعه عند الله شيئاً ؟ قال رسـول الله صلى الله عليه وسلم : لا ، إنه لم يقل يوماً من الدهر : ربي اغفر لي خطيئتي يوم الدين . فمهما يعمل الإنسان من عمل ما لم يكن مؤمناً بالله فعمله كهذا المثل الذي ضربه الله جلّ وعلا ( كمثل ريحٍ فيها صرٌ أصابت حرث قومٍ ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون ) .

 ويبدو أنه في المراحل الأولى من حياة المسلمين كانت العلائق بين المسلمين وبين غيرهم من المشركين ومن أهل الكتاب علائق وطيدة ، وليس من مصلحة القضية ، ليس من مصلحة الإسلام أن يأتي الأمر الجازم سلفاً فيقول للمسلمين : اقطعوا ما بينكم وما بين المشركين واقطعوا ما بينكم وبين النصارى واليهود ، لا ، ربما والشيطان يجري منه مجرى الدم ، ربما يخطر في بال المسلم أن الأمر الإلهي فيه تعنّت ، لا ، إن الله جلّ وعلا أمهل المسلمين وأبقى على علائقهم مع غيرهم ، والنبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة مهاجراً كتب كتاب معاهدة بينه وبين المشركين من الأوس والخزرج ، واليهود وبين المسلمين ، وآخى بين الجميع ، ونظم العلاقات . ومع الزمن ومن خلال التجربة بدأ يتبين شيئاً فشيئاً أن المناقضة بين الإسلام باعتباره ديناً ومنهجاً وبين ما عليه المشركون وما عليه اليهود وما عليه النصارى لا تسمح بأن تكون العلاقة سليمة ، كانت تحدث في بعض الأحيان مشاكل ، كانت تحدث صدامات ، ومع هذه المشاكل ومع هذه الصدمات بدأ المسلمون يدركون أن علاقتهم مع المشركين ومع اليهود ومع النصارى ليست قائمة على أساسٍ سليم ، حتى إذا بدأت دائرة الصدام تتسع وأخذت وتيرتها تتسع تبيّن أن كل هذه العلاقات ، الصداقة والقرابة وعلاقات التجارة والمصلحة ، كل هذه العلاقات لم تعصم المسلمين من أذى المشركين ومن أذى أهل الكتاب ، حين جاء أمر الله ليقطع هذه العلائق كانت القناعة متوفرة في نفوس المسلمين أن هذه العلاقات لا تساوي جناح بعوضة ، وأنه من الخير أن تقطع طالما أنه لا مجال للتفاهم بين المسلمين وبين غير المسلمين .

 هنا نجد الله جلّ علا يقول مخاطباً المسلمين ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم ) يعني من غيركم ، وبطانة الرجل هم أهله وخاصته الذين يطلعون على مداخله ومخارجه وعلى أسراره وحركاته وسكناته ، وهم الذين يشيرون عليه وينصحونه ، هؤلاء هم البطالة . فالله جلّ وعلا ينهى أن نتخذ بطانةً من دوننا ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا بطانةً من دونكم ) يعني من غيركم ( لا يألونكم خبالاً ) يعني لا يقصرون في إلحاق الخبال بكم ، والخبال هو أشد الاضطراب وأشد الحيرة ( ودّوا ما عنتم ) يعني هذه البطانة ترغب في أن يشق الله عليكم في أن تتحملوا المكاره ، في أن تعيشوا أضنك عيش وأسوأ عيش ( قد بدت البغضاء من أفواههم ) انظروا هذا التعبير المعجز الجميل ( قد بدت البغضاء من أفواههم ) الفم لا يُخرج إلا الكلام ، والله سبحانه وتعالى يقول إن هذه البغضاء ظهرت من أفواه هؤلاء ، فكيف ظهرت ؟ تأويل ذلك أنهم حتى وهم يتكلمون مع المسلمين باللطف واللين والطيبة فإن هؤلاء البطانة من دوننا ومن غيرنا تفوح من كلامها ومـن خلال طيبتها رائحة البغضاء المدمرة ( قد بدت البغضاء من أفواههم ) أنتم تشـعرون حتى وهـم يظهرون أمامكم بالطيبة أنهم لكم عدو ، لكن ( وما تخفي صدورهم أكبر ) ما في قلوبهم من الغيظ الذي يعتمل عليكم أكبر من هذه العداوة وهذه البغضاء التي تبدو من أفواههم ( قد بدت البغضاء من أفواههم وما تخفي صدورهم أكبر قد بينا لكم الآيات إن كنتم تعقلون ) أظهر الله كل شيء وبقي على الأمة أن تعقل . هؤلاء ( ها أنتم أولاء تحبونهم ولا يحبونكم ) أنتم معاشر المسلمين تحبون اليهود والنصارى والمشركين والمنافقين ، ولكن هؤلاء الناس لا يحبونكم ( وتؤمنون بالكتاب كله ) أنتم تؤمنون بالقرآن والتوراة والإنجيل والزبور وبكل كتابٍ أنزله الله ، وهؤلاء لا يؤمنون بقرآنكم ( وتؤمنون بالكتاب كله وإذا خلوا ) يعني فارقوكم ( عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ) قطعوا أصابعهم عليكم من الغيظ من دون أن تحين الفرصة وأن تسمح الفرصة ليقضوا عليكم القضاء المبرم . ( قل موتوا بغيظكم ) قل لهم يا محمد ( موتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور ، إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها ) لاحظوا هذا التعبير الجميل أيضاً ، بالنسبة للحسنة فالله جلّ وعلا يقول ( إن تمسسكم ) بمجرد أن تمسك الحسنة يغضب ويستاء ( وإن تصبكم سيئة ) والإصابة بالسيئة فيها معنى العنف ومعنى الشدة ( يفرحوا بها ) أقل خيرٍ ينالكم يدخل عليهم الحزن ومهما ينلكم من الشدة والمصيبة فهم يفرحون بها أكثر كلما كانت المصيبة أكبر ( إن تمسسكم حسنة تسؤهم وإن تصبكم سيئة يفرحوا بها وإن تصبروا وتتقوا لا يضركم كيدهم شيئاً ) هذه المظاهر لا تلهكم عن عواقب الصبر وتقوى الله جلّ وعلا ، أنتم على منهج ، اثبتوا عليه صابرين متقين خائفين الله جلّ وعلا أن تذل أقدامكم بعد ثبوتها ، ثم ثقوا بأن كيدهم لا يضركم شـيئاً ( إن الله بما يعملون محيط ) ليس معناه أنه بما يعملون عليم فهو أمر مفروغ منه أن الله عليم بما يفعل الناس ، ولكن معنى ( إن الله بما يعلمون محيط ) أي أنه أحاط بأعمالهم وحصرها وأبطلها ، فذلك معنى إحاطة الله بأعمالهم .

 بعد هذا كله وبعد هذا الاستعراض وهذه الملهمات والموحيات من الآيات يأتي السياق ليعرج على لب هذه السورة وعلى دروسها العظيمة ، على الستين آية من هذه السورة التي تحدثت عن غزوة أحد ، لتطبق المقاييس التي مضت من أول السورة إلى الآية مائة وعشرين أو اثنين وعشرين من هذه السورة ، فتتحدث في ستين آية عن وقائع غزوة أحد وعن النكسات التي حصلت أثناءها ، وعن التوجيهات التي أبداها الله جلّ وعلا للمؤمنين ، وعن الدروس المستفادة من هذه الغزوة الخالدة التي ينبغي على كل مسـلمٍ أن يعيَها كي لا يخرقها وهو يقابل أعداءه ، سوف نرى ذلك حينما نستعرض قول الله جلّ وعلا ( وإذ غدوت من أهلك تبوء المؤمنين مقاعد للقتال والله سميع عليم ) إلى أن يكون ذلك سوف أريح نفسي قليلاً لأهيئ لأخي أبي محمود حقه من ثواب الله جلّ وعلا ، سوف أترك المجال له إلى يوم الجمعة ، لأبدأ في الكلام على بقية السورة آملاً أن أنتهي منها في هذا الشهر المبارك ، مصلياً على النبي صلى الله عليه وسلم ، راجياً من ربنا تبارك وتعالى أن يكتب لنا كامل الأجر والثواب إنه نعم المولى ونعم المصير .