أهل الكتاب

العلامة محمود مشّوح

أهل الكتاب

29 / 9 / 1974

العلامة محمود مشّوح

(أبو طريف)

الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

 فإن الله سبحانه وتعالى بعد أن أبطل بالحجة البالغة والدليل الواضح الأمور التي تعلق بها أهل الكتاب لكي يطعنوا في عقائد الإسلام وشرائعه ، وبعد أن أبطل عليهم ادّعاءهم الألوهية للبشر بقوله ( ما كان لبشر أن يؤتيه الله الكتاب والحكم والنبوة ثم يقول للناس كونوا عباداً لي من دون الله ) وبعد أن أبطل عليهم ادعاءتهم الباطلة فيما يتعلق بالحلال والحرام لقوله ( كل الطعام كان حلاً لبني إسرائيل إلا ما حرّم إسرائيل على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ) وبعد أن أبطل عليهم أخيراً زعمهم بأن البيت الحرام لا يمت إلى إبراهيم بصلة ، وبأنه بالتالي ليس بيتاً يستحق الاستقبال والتعظيم والتقدير بقوله ( إن أول بيت وُضع للناس للذي ببكة مباركاً وهدى للعالمين ، فيه آياتٌ بيناتٌ مقام إبراهيم ) بعد أن قوّض الله جل وعلا دعائم ادعاءاتهم بهذا المنطق الواضح وهذه الحجة القاهرة أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يلتفت إليهم ليسألهم مبكِّةً ومؤنّباً ومعنّفاً ( قل يا أهل الكتاب لِمَ تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون ) وآيات الله جلّ وعلا يمكن أن تكون كل معجزةٍ ظهرت للنبي صلى الله عليه وسلم ، كما ظهرت لأنبيائه من أنبياء بني إسرائيل مما جحده بنو إسرائيل وكفروا به . ولكني أميل للتخصيص في هذا المقام ، فقد يُشبه أن يكون المراد بآيات الله هنا هو ما وضحه الله جلّ وعلا وشرحه حول مزاعمهم في ألوهية بعض العباد ، وفي إدخالهم للتحريم والتحليل في غير المداخل التي أذن الله بها ، وفي رفضهم لبعض شعائر الإسلام .

فقد رأينا أن الله سبحانه إن عرضها وجادل عنها ونافح دونها عرضها بحجةٍ لا يملك أصحاب العقول السليمة إلا أن يخضعوا لها . وهذه هي الآيات فيما يترآى لنا دون أن نمنع أن يكون المراد بالآيات أعم من ذلك .

 ( قل يا أهل الكتاب لِمَ تكفرون بآيات الله والله شهيد على ما تعملون ) والنص على كون الله شهيداً على ما يعملون يفيد من حيث أن الخطاب مع قومٍ يؤمنون بالله وبعلمه وبرقابته على الخلق ، لو كان الخطاب مع المشركين الذين لا يؤمنون بالله ولا يدينون بالرجوع إليه في اليوم الآخر ممن كان يسميهم علماؤنا بالدهريين الذين قالوا ( نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر ) لَما كان لهذه الإشارة معنى . ولكن اليهود والنصارى ـ وهم أهل الكتاب ـ يدينون بعلم الله ويدينون برقابته على أعمال الناس ، ومَن كان يؤمن بأن الله يراقبه وبأن الله يراه فغير سديد منه أن يكفر بآيات الله .

ثم قال له أي قال الله للنبي صلى الله عليه وسلم ( قل يا أهل الكتاب لِمَ تصدون عن سبيل الله مَن آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافل عما تعملون ) وأهل الكتاب منذ بدء الدعوة المحمدية وظهور أول أشعة الإسلام ناصبوا هذه الدعوة العداء ، ونصبوا لها الحبائل والكمائن ، ووقفوا بالمرصاد لكل من يؤمن بالله العظيم ولكل من تؤنس منه رغبة أو ميل إلى الإيمان بالله تعالى . فلقد كانوا يتتبعون الذين يؤمنون بالله يوسوسون لهم ويحاولون أن يشككوهم في الدين ، ومَن كان قد أظهر ميلاً نحو الإسلام لازموه وبذلوا له الوعود أو توعدوه وخفوّه حتى يحولوا بينه وبين الدخول في هـذا الإسـلام ، هم لم يتركوا وسيلةً من الوسـائل ولا طريقةً من الطرق إلا ركبوها لكي يظل هذا الإسـلام متقلصاً لا ينتشر .

والذين يؤمنون بالله واليوم الآخر والذين جعلهم الله شهداء من أهل الأديان يجب أن يفرحوا بما أنزل الله على رسوله صلى الله عليهم وسلم ، ويجب أن يزدادوا سروراً باتساع دائرة الإيمان وتزايد سواد المسلمين ، ولكن الذي يدلك على أن دعوى أهل الكتاب بالإيمان بالله والتزام شرائعه وعقائده ومبادئه .. كل ذلك زيف وتدجيلٌ وتظاهر بغير الحق ، الذي يدلّك على هذا أن أهل الكتاب بدلاً من أن يفرحوا بما أنزل الله على محمد وبدلاً من أن يفرحوا باتساع رقعة المسلمين وتزايد عددهم كانوا يصدون عن سبيل الله من آمن ويبغونها عوجاً ، يعني يريدون لهذه الشريعة الغراء الناصعة البيضاء أن تعوجّ وأن تنحرف ، ولكن هذه الشريعة في ضمان الله جلّ وعلا وسوف تبطل كل محاولات الكتابيين قبل أن تحقق قليلاً أو كثيراً .

 ( قل يا أهل الكتاب لِمَ تصدون عن سبيل الله من آمن تبغونها عوجاً وأنتم شهداء وما الله بغافلٍ عما تعملون ) في هذه الآية وآياتٍ أخرى سبقت فضح الله جلّ وعلا أسرار أهل الكتاب ، وشرح لنا نواياه ، وبيّن لنا أن أهل الكتاب جميعاً لا يريدون للمسلمين إلا الشر ، ولا يهدأون ولا يرضون إلا إذا رأوا المسلمين كفروا كما كفر أهل الكتاب ، لَمّا كان الأمر كذلك وكان نوازع أهل الكتاب وإراداتهم بهذا الشكل المدمّر العدائي بالنسبة للمسلمين كان حقاً أن يحذّر الله جلّ وعلا عباده المؤمنين من كيدهم وأحابيلهم ومؤامراتهم ، وأن يرد المسلمين عن طاعة أهل الكتاب ، قال تعالى ( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ، وكيف تكفرون وأنتم تُتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراطٍ مستقيم ) .

( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) أحب أن تلاحظوا هنا تعبيراً دقيقاً من التعابير القرآنية وهي قول الله ( إن تطيعوا ) لم يذكر الله جلّ وعلا حدود هذه الطاعة ولا نوع هذه الطاعة ، وإنما ذكر طاعة أهل الكتاب مطلقة ، لكي تقع الطاعة في الصغير والكبير من الأمر ، في شؤون الدنيا وفي شؤون الدين ، في كل قضيةٍ من القضايا . أهل الكتاب ينامون ويستيقظون على عداوة المسلمين وبغضائهم وشنآنهم ، فلا يمكن لهم أن ينصحوا لهم في يومٍ من الأيام ولا في موقفٍ من المواقف ، حتى في المواقف التي يبدو أنها بريئة ، على المسلمين أن يرتابوا بأهل الكتاب وأن يشكوا بنواياهم وبابتساماتهم وبمجاملاتهم ، لأن هذه الطيبة البادية في الكلام والابتسامة المنتشرة على الشفاه والحلاوة السارية في الألفاظ ما هي إلا أشراك ينصبها الكتابيون لكي يوقعوا المسلمين فيما وراء ذلك مما يريدون به التشكيك بالإسلام .

ولئن أنصفنا التاريخ وأنصفنا أنفسنا لوجدنا أن هذه الأمة في عهود ازدهارها ورقيها وصمودها في وجه الزعازع والنكبات كانت على أعلى درجةٍ من درجات الريبة في نوايا أهل الكتب وفي مشوراتهم وفي تدبيراتهم ، وأنها يوم بدأت تنحدر وتنهار وبدأت حضارتها تأفل فإنما كان ذلك بعد أن فتحت هذه الأمة آذانها وقلوبها لأهل الكتاب ولكلامهم المعسول حتى استلوهم من قواعدهم وقواعد دينهم شيئاً فشيئاً . وها نحن اليوم نستطيع أن نلمس الشاهد والدليل على ذلك لمس اليد دونما حاجةٍ إلى مداراة ولا إلى تغطية . إن الطرائق التي تسير فيها الأمة طرائق خطط لها أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وإن المناهج والنظم التي تعيش الأمة تحت قهرها وسلطانها مناهج ونظم وضعها أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، وإن مراكز التوجيه والتأثير والفعل والإنجاز معظمها بيد أهل الكتاب من اليهود والنصارى . ولست مبالغاً إذا قلت لكم إن وزارات التربية ووزارات الإعلام ووزارات الثقافة والإرشاد في العالم العربي والإسلامي من غير استثناء هي مباءات ومقرّاتٌ لأهل الكتاب من اليهود والنصارى ، هم الذين يشكلون عقلية الأمة ، وهم الذين يخططون لها نظمها ومناهجها ، وهم الذين يخرّجون لها قادتها وزعماءها ، فهذه نتائج طاعة أهل الكتاب ، طاعتهم جعلت أهل الكتاب أسياداً للمسلمين ، مَن لم يكن منهم سيداً بالفعل فهو سيدٌ لهم بصورة غير مباشرة بطاعتهم من وراء ستار .

( يا أيها الذين آمنوا إن تطيعوا فريقاً من الذين أوتوا الكتاب يردوكم بعد إيمانكم كافرين ) وأي كفر أدهى وأمر وأفتك من هذه الردة الواضحة في صفوف الشباب ممن لا يرجون لله وقاراً وممن لا يقيمون للإسلام وزناً وممن لا تسكن قلوبهم ذرة احترام لمحمد صلى الله عليه وسلم . ( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراطٍ مستقيم ) هذا الكلام كان الله يقوله لمن كان مع محمد صلى الله عليه وسلم على شرطٍ واضحٍ بيّن . وتعجّبَ الله جلّ وعلا أي يُعجّبُ الناس من وقوع المسلمين في الكفر مع وجود الضمانات ( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ) رسول الله صلى الله عليه وسلم حيٌ بين أظهر المسلمين وآيات الله تتلى على المسلمين ، والمسلمون بعدُ معتصمون بحبل الله ( ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراطٍ مستقيم ) . ذلك كان في السابق فكان كفر المسلمين مستحيلاً آنذاك ، أما اليوم فرسـول الله صلى الله عليه وسلّم غاب شخصه الكريم ، لكن بقيت سننه تنوب منابه ، وكتاب الله موجود ، هل مجردّ وجود الكتاب ووجود السنة في أيدي المسلمين دون قراءة ودون فهم ودون تطبيق ودون رعاية ودون احترام يكفي لكي يشكل ضماناً دون كفر المسلمين ؟ نقول : لا . فالواضح الذي لا يحتاج إلى مكابرة أن الأجيال الطالعة في هذه الأمة تحفظ ما لا يحصى من أشعار الشعراء ، وتحفظ ما لا يحصى من قصائد وأغاني الخلعاء والخليعات ، وتحفظ ما لا يحصى من وقائع التاريخ الغربي والشرقي ، ولكنها لا تكاد تحفظ فاتحة الكتاب من القرآن الكريم ، أما السنة فقليلاً ما تجد من بينهم أحداً قرأ ـ لا أقول حفظ ـ قرأ حديثاً من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلّم . إن القرآن وإن السنة يشكلان عاصماً وضامناً ضد الكفر والارتداد يوم يسكنان القلوب والعقول والرؤوس ، ويوم يكونان حيين في واقع الحياة ، أما حين يعطلان كما هو الواقع اليوم فهما لا يُجديان شيئاً ولا يقدمان ولا يؤخران ( وكيف تكفرون وأنتم تتلى عليكم آيات الله وفيكم رسوله ومن يعتصم بالله فقد هُدي إلى صراطٍ مستقيم ) كان ذلك في الماضي وقد هُديت الأمة إلى صراطٍ مستقيمٍ صراط الله الذي له ملك السموات والأرض . ثم هجرت ذلك فهُديت إلى صراط الجحيم ، وهي اليوم تتدافع في الجحيم .

ثم يلتفت السياق إلى المسلمين ليحدد لهم معالم شخصيتهم حتى يتمسكوا بها ويدوروا من حولها ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) ( اتقوا الله حقّ تقاته ) قال ابن مسعود : تقوى الله حقّ تقاته أن يُذكر ولا يُنسى وأن يطاع ولا يُعصى وأن يُشكر ولا يُكفر ، فمن أطاع الله فلم يعصه ومن ذكر الله فلن ينسى ومن شكر الله فلم يكفره في نعمةٍ من النعم ، فقد اتقى الله حقّ تقواه ( يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حقّ تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) يحذّر الله جلّ وعلا أحداً من عباده المؤمنين أن يموت إلا على هذا الإسلام ، سلوا أنفسكم : كم من عشرات الألوف من المسلمين مَن يموت على دين زيد وعبيد ولا يموت على دين الله الواحد الأحد ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ) لماذا ؟ لأن الإنسان يموت على ما عاش عليه ويُبعث على ما مات عليه ، مَن عاش مسلماً مات مسـلماً ، ومَن مات مسـلماً بُعث يوم القيامة مسـلماً ، مَن كان آخر كلامه ( لا إله إلا الله ) دخل الجنة . ومَن عاش غير ذلك أراد الشهادة حين الغرغرة فلم تتيسـر له ، ثم حُشر يوم يُحشر مع فرعون وهامان وقارون وبقية عباد الله الضالين . من هنا كان هذا التحذير ( ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، واعتصموا بحبل الله جميعاً ) وحبل الله وإن ذهبت طوائف من المفسرين إلى أنه القرآن فهذا لا يتنافى مع التفسير الذي يكاد يكون مجمَعاً عليه وهو أن حبل الله هو الإسلام ، والاعتصام بحبل الله هو التزام أوامر الإسلام واجتناب نواهيه ، مَن فرّق في الأمر والنهي ذهب العصام الذي كان يربطه بهذا الإسلام الذي يشكل بالنسبة إليه حبل النجاة ( واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا ) هذا الإسلام يوم جاء جاء ليوحد الناس ، وبالفعل لقد وحدهم ، ثم الله جلّ وعلا يحذر في المستقبل من التفرق ، قال ( ولا تفرقوا ) ولا يكتفي ربنا جلّ وعلا بهذا النهي المجرد ( ولا تفرقوا ) بل يلفت أنظار المسلمين إلى واقعٍ عايشوه وشهدوه ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً ) هذا الكلام وُجّه لمن ؟ وُجّه للأوس والخزرج ، للأنصار الذين جاءهم النبي صلى الله عليه وسلم يوم جاءهم وقد كانت بينهم حروبٌ وفتن دامت أكثر من مائتي سنة ، ولم تنتهِ هذه الفرقة ولم تنطفأ نار الحرب إلا ببركة محمدٍ صلى الله عليه وسلم وبفضل هذا الإسلام .

هذا الكلام قيل أيضاً للمهاجرين ، ثم قيل لبقية العرب الذين أسلموا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقد كانت حياتهم سلسلةً متصلة من الحروب والفتن والمذابح ، ومن تقطيع الأواصر والأرحام ، هم يعرفون سوء ما كانوا عليه ، يعرفون فساد الحياة التي كانوا يحيونها ، ثم يعرفون بعد ذلك بركة هذا الإسلام وأمن الإسلام وطمأنينة هذا الإسلام . يلفت الله جلّ وعلا نظرهم إلى هذه الحالة التي عاشوها وشهدوا نقيضها ( واذكروا نعمة الله عليكم إذ كنتم أعداءً فأصبحتم بنعمته إخواناً وكنتم على شفا حفرةٍ من النار فأنقذكم منها ) لو لم ينزل الله القرآن ولو لم يبعث محمداً صلى الله عليه وسلم لتهافتت هذه الأمة في النار ، كانت على شفا حفرةٍ من النار فأنقذها الله بهذا الإسـلام ( كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تهتدون ) والآية التي أبانها الله جلّ وعلا في هذا الموطن لفت نظر العرب إلى سوء ما كانوا عليه وإلى حسن الحالة التي خرجوا إليها بفضل الإسلام وبركة محمدٍ صلى الله عليه وسلم . ولهذا كان عمر رضي الله عنه يقول : إنما تُنتقض عرى الإسلام عروةً عروة إذا نشأ في الإسلام مَن لا يعرف الجاهلية . الذي يعرف الجاهلية ويعرف الإسلام يتمسك بالإسلام ويرفض أن يعود إلى الكفر كما يرفض أن يقذف في النار ، ولكن الذي لا يعرف الجاهلية لا يعرف فضل الإسـلام ، فما بالكم بالذي تزين في عينيه الجاهلية ، بحجة القومية وبحجة العروبة التي لا تساوي معنى بغير الإسلام ، يُقال حين المدح فلان الجاهلي كأنما هو وسام يوضع على الصدر ، مع العلم أن الجاهلية عار وشنار وقذارة وسبة يتبرأ منها العرب الأشراف والعرب الآماثل ، ويتمسك بها الأعاجم والمفاليك من أعداء الأمة الذين ليسوا عرباً وليسوا مسلمين . العرب بغير الإسلام لا شيء ، بشهادة العرب من محمدٍ فمن دونه ، والعرب بالإسلام كل شيء ، والإسلام كل شيء ، سواء تمسكت به العرب أم تخلّت به العرب . ولكن يجب أن نعلم أن هذا الإسلام يتمسك به مَن يعرف فساد الجاهلية ، وتتراخى قبضة مَن لا يعرف الجاهلية عن هذا الإسلام ، ولهذا لفت الله جلّ وعلا أنظار المسلمين لحقيقة ما كانوا عليه ، كانوا أعداءً متفرقين ، كانوا ينتهكون المحارم ويأكل القوي الضعيف ويتعدون على بعضهم ولا يعرفون ساعة أمن ولا راحة ، حتى جاء الإسلام ، فإذا العدل بينهم قائم ، وإذا الأخوة أعلامها مرفوعة فوق رؤوسهم ، وإذا هم يخرجون من الفوضى إلى النظام ، ومن الخوف إلى الأمان . ولهذا لفت الله أنظار المسلمين إلى هذا .

ثم قال الله لهم ـ يعني للمسلمين ـ ( ولتكن منكم أمة ) الخطاب لمن ؟ للمسلمين ، لكي يبين لهم طريقة الحفاظ على وحدة الأمة وسلامتها ( ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر وأولئك هم المفلحون ) ها هنا أمور ثلاثة ذكرتها الآية الكريمة تشـكل ضمانة الوحدة في الأمة : الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر . الدعوة إلى الخير ما هي ؟ الدعوة إلى هذا الإسلام . والأمر بالمعروف حضّ الناس على التمسك بالفضائل . والنهي عن المنكر مطاردة الرذائل ، فقد ينبغي أن نعلم أن فاعل الخير يحتاج إلى تشجيع ، وتشجيعه يكون بالأمر بالمعروف ، وسيادة معسكر الآمرين بالمعروف يكون بهذا التشجيع أيضاً ، وأن الرذيلة تحتاج إلى المطاردة ، كلما سكت الناس عن رذيلة ولدت بعد ذلك رذائل ، والسكوت عن الرذائل علامة انهيار ، إن النبي صلوات الله عليه يقول : إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل أن العالم منهم كان يمر بالقوم فيجد الواحد منهم على المعصية ، فيقول : يا فلان اتقِ الله ودع ما أنت عليه فإنه لا يحل لك ، ثم إذا كان من الغد لم يمنعه ذلك ـ يعني إقامة صاحبه على المعصية ـ أن يكون أكيله وشريبه وجليسه حتى ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ، ذلك بما عصوا وكانوا يعتدون ، كانوا لا يتناهون عن منكرٍ فعلوه .

هذه حالة توجد منها مشابه في مجتمعنا ، تصوّر أنك تمر فتجد إنساناً مفطراً يدخن أو يأكل أو يشرب في السوق ، تحاول أن تنكر هذا المنكر ، وهذا منكر عظيم ، تجد واحداً إلى جنبك يمسك بك ويقول : اتركه يا أخي . هذه الطريقة طريقة الناس الذين لا ينكرون المنكر ولا يعرفون المعروف ، وليست طريقة المسلمين ، لا بد من أجل الحفاظ على نقاوة الأمة وشخصية الأمة ووحدة الأمة وسلامة الأمة من وجود أمةٍ أو طائفةٍ من الناس ، جماعةٍ من الناس ، تنذر نفسها لما يلي : الدعوة إلى الإسلام الذي هو الخير كل الخير ، الأمر بالمعروف ، النهي عن المنكر . إن تحققت هذه الأمور الثلاثة فالإسلام في خيرٍ كبير ، وإن عدمت هذه الأمور من واقع حياة الأمة فقد تودّع من الإسلام لا سمح الله .

ثم يلتفت السياق إلى ضرب المثل وإقامة الموازنة ( ولا تكونوا ) الخطاب ما يزال للمؤمنين ( ولا تكونوا كالذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءهم البينات ) من هم ؟ أهل الكتاب بعد أن جاءتهم البينات وجاءتهم رسلهم بالحجج الواضحات تفرقوا واختلفوا بغياً بينهم وحسداً وتقاتلاً وتكالباً على المطامع وعلى الدنيا . فالله جلّ وعلا ينهى عباده المؤمنين أن يكونوا كهؤلاء الناس الذين تفرقوا واختلفوا من بعد ما جاءتهم البينات وقامت عليهم حجة الله تماماً ( وأولئك ) يعني هؤلاء الذين تفرقوا واختلفوا وهم أهل الكتاب ( لهم عذابٌ عظيم ) متى يكون هذا العذاب العظيم ؟ ( يوم تبيض وجوه وتسود وجوه ، فأما الذين اسودّت وجوههم ) يعني هؤلاء المتفرقين ( أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ) تعرفون ماذا يدل عليه هذا السياق ؟ يدل على أن أهل الكتاب الذين تفرقوا كفروا بسبب هذا التفرق ، أي أن الفرقة تعادل الكفر ، ولهذا يجب على المؤمن ، يجب على المسـلم ، أن يحافظ بكل طاقته على الوحدة بين المسلمين ولا يبذر بينهم بذور الشقاق والنزاع ولا يُلقي بذور العداوة والبغضاء .

( فأما الذين اسودت وجوههم أكفرتم بعد إيمانكم فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون ، وأما الذين ابيضت وجوههم ففي رحمة الله هم فيها خالدون ، تلك آيات الله نتلوها عليك ) يا محمد ( بالحق وما الله يريد ظلماً للعالمين ) الله جلّ وعلا إنما أنزل الكتب وأرسل الرسل وظاهر الحجج ونصب الدلائل في الكون وفي الآفاق لكي تجزى كل نفسٍ بما كسبت ، ولكي لا يكون هناك أي ظلم ، أنا أظلمك حينما لا أقيم الحجة عليك ، أما بعد أن أقيم الحجة عليك فلست لك بظالم إن عاقبتك على السيئات وأثبتك على الحسنات . فالله جلّ وعلا ذكر كل الدلائل وأوضح كل المناهج والسبل لكي لا يكون ظالماً لعباده الفاسقين يوم القيامة إذ يعاقبكم .

( ولله ما في السماوات وما في الأرض وما بينهما وإلى الله ترجع الأمور ) لولا أن الله جلّ وعلا كتب في اللوح المحفوظ أن يرحم عباده المؤمنين من بني آدم ، ما اعتنى بهم هذه العناية ، هؤلاء الناس لا يشكلون في كون الله الواسع العليم ما تشكله ذرةٌ في فلاة ، ومع ذلك فالله جلّ وعلا يرحم هؤلاء الناس ، ومن مظاهر رحمته أن بعث لهم من أنفسهم وبألسنتهم أنبياء أقاموا لهم الأدلة على وحدانية الله وبينوا لهم المناهج التي يرضاها الله وأمروهم بأن يتمسكوا بها ، فإن تمسكوا بها فلأنفسهم يمهدون ، وإن أعرضوا فإن لله ما في السموات والأرض وإلى الله ترجع الأمور .

وبقيت بهذه السلسلة بقايا من الآيات نحن نحاول إن شاء الله إيرادها غداً وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين.