تفسير سورة النساء

العلامة محمود مشّوح

2 / 6 / 1978

( 8 )

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين ، وأفضل الصلاة وأتم التسليم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

ففي الكلام على أوائل سورة النساء مشكلات تستدعي النظر وتستحق الاهتمام ، لقد كان الإسلام وهو يرسي دعائم المجتمع المسلم على أنقاض المجتمع الجاهلي المهزوم يُعالج مشكلات راهنة عينية قائمة في المجتمع ، والمتأمل لطريقة الإسلام في مواجهة المشكلات أياً كان وصفها ، ومهما يكن من نوعها ، يلاحظ أن الإسلام يعادج المشكلات بروح عقلانية صرفة ، أعني أنه لا يتطرّف كما يتطرّف البشر بدافع العواطف التي لا تقبل الانضباط في العادة . في الوقت الذي لا يتجاهل معه أية ضرورة من الضرورات الملازمة للطبع البشري . أيضاً في الوقت الذي لا يهمل فيه الضرورات الموقوتة أي المحكومة بطابع مؤقت خضوعاً له طارئ .. تبينّا هذه السمة من سمات الإسـلام ونحن نتحدث عن قول الله تعالى ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانحكوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع ) .

ورأينا طريقة الإسلام في المواجهة الصريحة المكشوفة لضرورات الطبع البشري والتكوين الإنساني ، وفي تحليلنا لهذه القضية تبيّنت لنا الآثار الضارة المدمرة التي تنتج عن تجاهل مقتضيات الطبع البشري تحت عنوان التمدّن أو التقدم ، أو الشعور الإنسان المرهف الرقيق . فالإسلام لا يفهم ولا يقبل هذه التذويقات الباطلة ، وإنما يتعامل مع طبيعة بشرية لها احتياجاتها التي لا يمكن تجاهلها أو القفز من فوقها .

وفي هذا الدرس إن شاء الله تعالى سنواجه طريقة أخرى أو وجهاً آخر من طريقة الإسلام في مواجهة المشكلات ، وهذه المشكلة التي نتعرّض لها الآن والمتضمنة في قوله تعالى ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ) سوف نرى كيف يواجه الإسلام مشكلة لها طابع مؤقت ، لا يرضاها الإسلام بطبيعة الحال ، لكن الظروف لها أحكامها التي تفرض نفسها على مسيرة التشريع وهو يخطط لينسف هذه الأوضاع الضارة مع الزمن . ففي كثير من المشكلات لا نستطيع أن نهمل عنصر الزمن ، لأن الزمن في مشكلات من هذا القبيل عنصر أساسي من عناصر العلاج . في كثير من المشكلات نحن لا نستطيع أن نتحكم بجميع جوانب المشكلة ، فهناك أنواع من المشكلات متعددة ولها جوانب مختلفة ، ليست كل هذه الجوانب في يدك ، قد تكون بعض هذه الجوانب خارج نطاق تأثيرك ، في هذه الحالة لا بد من موقف محدد لكن له طابع التوقيت ، ليس علاجاً أبدياً ، وإنما هو علاج مؤقت في سياق تخطيط إجمالي يؤدي من حيث النتيجة وبالتطبيق السليم إلى نسف الوضع الذي لا يرضاه الإسلام .

هذه المقدمة طبعاً فيها شيء من الإجمال الشديد ، لكنها ضرورية على العموم لفهم ما نحن بصدده .. لاحظوا الآية الكريمة مجدداً ، فربنا جلّ وعلا يخاطب المسلمين وهو يوجههم نحو البناء الجديد المؤسس على قواعد الإسلام وركائز الشريعة المنزلة من عند الله تعالى ، والمبينة والمشروحة بقول وفعل النبي صلى الله عليه وسلم ، يقول ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى ) أي إذا غلب على ظنكم أنكم لو تزوجتم من اليتيمات اللواتي هن تحت كفالتكم ووصايتكم إن خفتم أن لا تحققوا العدل المطلوب في الصداق والمهر فحينئذٍ ليس ضرورياً أن تتزوجوا من هؤلاء اليتيمات بدافع الحرص على أن لا تذهب ثروة هذه اليتيمات بعيداً عنكم ، وبدافع الحرص على أن تظل اليتيمة ومالها تحت سلطتكم وبين أيديكم ، سابقاً بحكم الوصاية ولاحقاً بحكم الزوجية ، فليس هذا ضرورياً ، لأنه ما دام المقصود الأصلي من الزواج هو إعفاف النفس أولاً حتى لا تقع في الحرام ، ولا تشره إلى مالا يحل لها شرعاً ، ولا يليق بها مروءة وشرفاً ، فإن الأمر إذا كان بهذا الشكل وكان أيضاً بقصد إنشاء الأُسر التي تضمن استمرار الجنس البشري ، لتقدم المواد اللازمة للقيام على رسالة الله تعالى ، فهذان المقصدان ـ مقصد إعفاف النفس ومقصد الإنجاب واستمرار الجنس البشري ـ يمكن تحقيقهما خارج نطاق الزواج من هؤلاء اليتيمات .

ولهذا فالله جل وعلا في هذه الآية يوجه المسلمين حين خوفهم من الإخلال بقاعدة العدل إلى التزوج من غير اليتيمات ، مع فتح المجال لهم من أجل الإشباع والإرواء أن ينكحوا اثنتين وثلاثاً وأربعاً ، حتى لا يبقى لدى الإنسان أي عذر يسوّغ له الطمع فيما لا ينبغي الطمع فيه ، والشره إلى ما لا يحل الشره إليه .

 ( فإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانحكوا ما طاب لكم من النساء ) يعني ما حلّ لكم من النساء اللواتي يحلّ النكاح منهم شرعاً ( مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا ) يعني ألا تحققوا العدل الظاهر الواقع تحت مقدور الإنسان ، غير الخارج عن طاقة الإنسان كالعدل في ميل القلب وهوى النفس ، وإنما العدل هو تحقيق العدل في المعاملات الظاهرة من حيث المبيت والسكنى ومن حيث الملبس والغذاء وما أشبه ذلك مما يدخل تحت طاقة الإنسان ويقدر الرجل على تحقيقه بين نسائه .

هذا أيضاً حينما يجنف الزوج ، ربما يكون غير مقدور ، ربما يستحكم النفور عندك من زوجتك إلى الحد الذي يدفعك إلى أن تظلمها حقوقاً قررها لها الله سبحانه وتعالى ، فتبيت عن ضارتها أكثر مما تبيت عندها ، مع أنك تملك وتستطيع أن تحقق هذا العدل الظاهر لأنه مقدور وميسور ، ومع ذلك فلما كان هذا ربما يقع فإن الله سبحانه قال ( فإن خفتم ) يعني إذا خفتم أنه لن يتيسر لكم تحقيق هـذا العدل الذي يقع تحت القدرة والإمكان فما هـو التوجيه الذي ينصح به القرآن ( فواحدة ) أي اقتصروا في نكاحكم على امرأة واحدة لماذا ؟ لأن نكاح امرأة واحدة يحقق أمرين رئيسين وضرورين : موضوع العدل وعدم العدل ينتفي في حالة الزواج من واحدة ، لأن العدل لا يكون وارداً إلا إذا كانت تحت عصمتك أكثر من امرأة ، أما حينما تكون في عصمتك امرأة واحدة فالعدل متوفر ، لأنه ليست هنالك ضرة أخرى يمكن أن تحابيها ويمكن أن تمنحها أكثر مما تمنح شريكتها فيك ، فهذا أدنى إلى العدل .

كذلك إن الزواج في أكثر من امرأة واحدة مظنة أن يقع شيئان ، كلاهما خطر على الحياة البيتية ، الأول هو الظلم المتوقع ، وحينما يقع الظلم داخل البيت بسبب التمييز والتفريق بين الأمهات ، والتمييز والتفريق تبعاً بين الأولاد ، فالمقصود من الحياة الزوجية يتعرّض للدمار ، ولهذا يوجه القرآن الكريم حين الخوف من الوقوع في هذه إلى ضرورة الاقتصار على واحدة . كذلك يمكن أن يقع شيء آخر وهو الوقوع في الحاجة والفقر ، وهذان المعنيان : الوقوع في الجور والظلم ، والوقوع في الحاجة والفقر ، هما المعبّر عنهما بهذه الكلمة الفاذة المعجزة ( ذلك أدنى ألا تعودوا ) كما سوف نشرح بعد قليل .

لكني أريد الآن أن أقف معكم مع مشكلة واجهها الإسلام حينما كان القرآن ينزل على الرسول صلى الله عليه وسلم وآله ، بهدف تغيير المجتمع الجاهلي وإقامة مجتمع إسلامي نظيف مبرأ من الشوائب والمعايب . هنا كلمة يقول الله جلّ وعلا ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) لاحظوا أن كلمة ( أو ) حرف عطف ، ومعنى حرف العطف هو أن تعطف قضية على قضية بداع الاشتراك بين قضيتين ، مسائل العطف مفهومة ، القضية التي عُرضت قبل ( أو ) ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) القضية المعروضة قبلُ هي ضرورة الحرص على العدالة ، حينما يخاف الإنسان المسلم أن ينسف قاعدة العدالة وأساس العدالة فأمامه لذلك مخرجان : الأول هو الاقتصار على زوجة واحدة ، لأن الاقتصار على زوجة واحدة كما قلنا يجعل موضوع العدل المطلوب في الحياة الزوجية غير ذي موضوع ، لأنه لا مورد له في الحالة بتاتاً ، لا يوجد طرفان نعدل بينهما وإنما طرف واحد فقط .

فهذا شيء وهذا مقدم لأنه هو الأصل ، ومع هذا فليس كل الناس قادرين في تلك الأزمان على أن يتزوجوا الحرائر لما يتضمن أو يستتبع الزواج من الحرائر من كُلَف ونفقات قد لا يطيقها بعض الناس ، هذا واحد . الشيء الثاني أن عندنا نتوءً في المجتمع وهو نتوء مرضي ، ورم في المجتمع ، ورم مرضي ،  هناك إماء ، نساء واقعات تحت ملك اليمين ، فإذاً نحن أمام مشكلة ، المرأة سواء كانت حرة أو كانت أمة مملوكة رقيقاً ، فهي في كل الأحوال امرأة ، مخلوق بشري ذات احتياجات جسدية وروحية ككل امرأة أخرى بقطع النظر عن وصف الحرية والرق ، فإذاً نحن أمام مشكلة ، كيف وجّه الإسلام المسلمين نحو معالجة هذه القضية ؟ لاحظوا أن الإسلام لم يحاول مطلقاً أن يتجاهل هذه القضية أبداً ، طالما هي قضية قائمة في المجتمع فلا بد من علاجها . ولاحظوا أولاً أن الإسلام تحدث عنها حديث المقرّ بها والمصبغ عليها ثوب الشرعية لماذا ؟ لأن موضوع الإماء وموضوع الرقيق بعامة ليس مشكلة يملك الإسلام حلها منفرداً ، لو كانت مشكلة حلها بيد الإسلام ليست لها علائق خارج نطاق الإسلام ، ليست لها ارتباطات خارج نطاق الإسلام ، لقضى عليها الإسلام بالتشريع مبتدأً ، لكنها معضلة لا يمكن أن يعطي الإسلام لها حلاً نهائياً ، لأن أطرافاً من أطراف المشكلة واقعة بالفعل خارج نطاق الإسلام ، هذا واحدة .

الشيء الثاني أن هذه المشكلة القائمة في المجتمع في ذلك الوقت لا يعد الإسلام مسؤولاً عن إنشائها ، فالواقع أن الإسلام نزل وهذه المشكلة قائمة ، وحين جاء الإسلام كانت أسلوباً من أساليب التعامل بين الأمم والشعوب وبين الدول والحكومة ، ومشكلة من هذا القبيل يكون من السفاهة حينما يبادر الإسلام مثلاً ـ وهذه ليست طريقته كما قلت لكم ـ إلى إعطاء حل منفرد لها ، لأنه لا يملك هذا الحل ، مشكلات من هذا القبيل قائمة على قانون التعامل بالمثل ، حينما جاء الإسلام كانت الحروب في العادة وكعرف غير مكتوب لدى العرب وقانون مكتوب لدى الرومان ، أنّ الحرب إذا انجلت تنجلي عن قتلى وعن سبايا وعن عبيد ، فريقان يقتتلان ، وفي كل قتال لا بد من جراح تقع بين الفريقين ، ولا بد من قتلى تسقط من الفريقين ، ولا بد من أسرى تقع بين الفريقين ، فلا بد أن يقوم علاج مشكلات من هـذا القبيل على قانون المعاملة بالمثل ، تصوّر لو جاء الإسلام وقال : أنا أقضي على الرق وأن أحرّم الرق . وكلما وقع بين يدي المسلمين عبيد من الكفار نتيجة لحرب إسلامية مشروعة قال لهم الإسلام : مع السلامة . ولكن في المقابل خصمك حينما يقع الرجال بين يديه يجعلهم عبيداً ، وحينما تقع النساء المسلمات بين يديه يتخذهن سبايا وإماء ، فأي تصرف هذا ؟ أليس هذا هو الجنون بعينه ؟ أليس هذا تعريضاً لكرامة المسلمين ولأعراض المسلمين ولحريات المسلمين للخطر ؟ لا يمكن لحالات متشابكة دولياً من هذا القبيل أن يكون القانون قائماً على غير قاعدة التعامل بالمثل .

لهذا لم يستطع الإسلام ، ولم يكن ممكناً بحال من الأحوال إلا من خلال اتفاقٍ دولي أن يُلغى موضوع الرق باستمرار وعلى طول . في ذلك الوقت لم يكن الأمر ميسوراً ، وإذاً فنحن أمام مشكلة ، ماذا نفعل ؟ نحن الآن أمام مشكلة ملك اليمين من النساء ، قلنا إن المرأة كائن بشري فيها من الاحتياجات والرغبات والأشواق الجنسية والروحية ما في الحرة سواء بسواء ، وحقها في الإشباع ثابت كحق الحرة سواء بسواء ، وإذا تجوهل هذا فإن أخطاراً لا حد لها لا بد أن تقع في المجتمع البشري المسلم فتؤدي من حيث النتيجة إلى فساده ثم انهياره ، فإن واجه الإسلام هذه المشكلة ؟ إن مواجهة الإسلام لهذه المشكلة مواجهة فذة ، أولاً : الإسلام لم يجهل أن هناك فرقاً بين الحرة وبين الرقيق ملك اليمين ، إن الحصانة التي تتمتع بها الحرة مسلوبة من ملك اليمين ، لأن الأهلية الكاملة لدى الحرة هي أهلية ناقصة لدى ملك اليمين بسبب الرق ، لأن الرق قيد طارئ على التصرفات البشرية يجعلها تصرفات ناقصة لا بد أن تحدَد ضمن نطاق معين . هذا أساس لا بد أن ننظر منه حينما نعالج فكرة الإسلام عن هذه القضية .

نرى أن الإسلام أو القرآن حين قال ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ) مفهوم من هذا الكلام أن الرجل إذا خشي أن يقع في الظلم وهو يتعامل مع نسائه اللواتي هن أكثر من واحدة فعليه أن يقتصر على واحدة لكي لا يقع في الظلم ، أو أن يعاشر ما ملكت يمينه ، ما هي القضية المشتركة بين الطرفين ؟ قلنا إن القضية المطروحة قبل ( أو ) هـي قضية ضرورة تحقيق العدل ، فإذا لم نتمكن من تحقيق العدل فلا بد من البحث عن مخرج ، وجدنا المخرج في أمرين ، الأول الزواج من واحدة ، الثاني معاشرة ملك اليمين ، ففُهم من هذا أن العدل بين ملك اليمين غير واجب على الرجل ، معنى ذلك ـ بالجبيسي ـ يعني الإنسان إذا كان عنده عشر نساء هن في ملك يمينه فليس مفروضاً عليه أن يعدل بين هؤلاء العشر ، شرعاً ليس مطالباً بهذا وإن كان مطالباً بهذا أدباً ومروءة وشهامة وقياماً بحق الزمام هذا الذي يربط الذكر من الأنثى ، لكنه شرعاً كقانون غير مطالب بتحقيق العدل بين النساء اللواتي هن واقعات تحت ملك اليمين . فكلمة ( أو ) شرّكت بين الواحدة وبين ملك اليمين في أن هذه وهذه لا يطالب الزوج معهما بالعدل ، لأن العدل هنا غير مطلوب .

ثم يأتيك متحذلق فيقول لك : ولماذا يا محترم ؟ أليس هذا كائناً إنسانياً ؟ نقول له : نعم وحباً وكرامة ، نحن نعتقد أنه كائن إنساني وهذا واضح ، لكنا كما قلنا لا نستطيع أن نسوي من حيث الأهلية بين المرأة المرتبطة بزوج بموجب عقد شرعي تترتب عليه آثاره الشرعية المعروفة وبين امرأة أخرى الرابطة بينها وبين الزوج هي ملك اليمين فقط ، لماذا ؟ لأنها ناقصة الأهلية ، الإسلام مع أنه أباح للرجل إذا كان يملك امرأة أو يملك رجلاً أن يبيعه وأن يشتري وأن يهب وأن وأن إلخ ... لكن في موضوع النساء له وضع خاص ، قلنا هنا مشكلة أو ورم في المجتمع ، نحن أمام حالة مفروضة علينا لم ننشئها ولم نساهم في إنشائها ، ونحن نفتح إسلامياً جميع السبل في وجه إلغاء الرق بكل صوره وألوانه ، لكنا كما قلت لا نملك إلغاءه ابتدائاً ومن طرف واحد ، لأن هذه سفاهة لا يقع فيها إلا المغفلون . فماذا نفعل ؟ نحن أمام احتمالين ، هؤلاء أسرى من أسرى الحرب رجال ونساء ، والكلام هنا ينصب على النساء وإلى أن يأتي الكلام على الرجال نوجه الحديث عنه .. هؤلاء نساء ، طاقة جنسية ، وليكن كلامنا صريحاً كمواجهة القرآن للقضية بشكل صريح . هذه طاقة جنسية ملتهبة مدمرة ، إما أن توضع لها ضوابط وحدود وقيود ، وإما أن تطلق في المجتمع لتذهب يميناً أو شمالاً ، وراءً أو أماماً كيفما اتفق ، فهل يُعقل أن الإسلام الذي ضبط بموازين دقيقة كل ما يتعلق بالإنسان بدءاً من الولادة إلى أن يوسّد في اللحد يغفل هذا الشيء ؟ لا يمكن ، الإسلام لا بد أن ينظر بدقة إلى هذه الناحية الإسلام .

الإسلام حينما نظر ، هذه امرأة مملوكة ملك اليمين ، أمامك احتمالان : إما أن تتركها كما كانت الجاهلية تفعل حينما تكون لدى الرجل الجاهلي امرأة أو عدة نساء هن واقعات تحت ملك اليمين يتخذهن تجارة ، وعبد الله بن أبي بن سلول حينما جاء الإسلام كانت لديه عدة جواري ، وكان يشغلهن بالزنا ، ويأخذ ثمرة أتعابهن وكد فروجهن ، وثروة هذا المنافق أبي المنافقين متحصلة من هذه السوق الوسخة . إما أن نفعل هذا الشيء أو أن نحدد علاقة كريمة تضمن لهذه المرأة وضعاً معيناً في هذا المجتمع ، وتضمن بالتالي ثمرات هذه العلاقة ، فأنت مباح لك أن تعاشر المرأة التي تملكها ملك يمين معاشرة الأزواج ، وطالما لم تحمل منك ولم تلد فأنت حر تستطيع بعد أن تستبرأها ـ كما ورد في مظان الفقه ـ أن تبيعها ، أن تهبها ، أن تتصدق بها ، أن تفعل أي شيء يخرجها من ملكك ، لكنها لمجرد أن تحمل منك وتلد فإن هذه الحرية الواسعة التي تتمتع بها تجاه ملك اليمين تتحدد وتتقيد ، تنقلب هذه الأمة لتصبح أم ولد ، لا تباع ولا تشرى ، ولا توهب ولا تورث ، لماذا لأنها حملت منك وولدت منك ، وأصبحت تتمتع بمكانة خاصة ليست هي منزلة الحرائر ، لا ولكنها دون ذلك بقليل ، المهم المنظور إليه أكثر ماذا ؟ هو أننا ضمنا نتائج هذه العلاقة الجنسية بين الرجل وبين ملك اليمين ، فالولد الناتج عن هذه العلاقة يُعترَف به كولد شرعي لسيد هذه الأمَة ، يُنسب إليه ويجري التوارث بينه وبين أبيه ، بهذه الصورة اللطيفة ولكن الدقيقة حمى الإسلام المجتمع من النتائج الوبيلة المدمرة الناتجة أو التي كان ينتظر أن تنتج عن انتشار الإماء في المجتمع انتشاراً غير منضبط يؤدي إلى اختلاف الأنساب وإلى الفوضى الجنسية وإلى الفساد الخلقي ، ومن ثم الدمار الاجتماعي .

فهذه هي المشكلة كما واجهها الإسلام ، لكنه وجدها واقعاً قائماً مطروحاً أمامه لا سبيل له إلى تجاهلها ولا إلى القفز من فوقها ، فاستدعى الأمر أن يوضع لها تشريع معين ، وُضعت المرأة المسبية في حرب شرعية وفاقاً لقاعدة التعامل بالمثل في العلاقات الدولية تحت ضمانة رجل ، يؤويها وينفق عليها ويكسوها ويشبعها جنسياً ، كما يشبعها جسدياً وروحياً ، ثم يعترف المجتمع والرجل بالأبوّة والبنوّة والتوراث بين الرجل وثمرات هذه العلاقة ، ولا يمكن أن يوجد كحل مؤقت أفضل ولا أكرم ولا أضمن ولا أكثر حيطة للمستقبل من تحديدٍ للعلاقة بهذا الشكل الذي جاء به الإسلام بانتظار أن يفيء المجتمع الدولي كله إلى قاعدة تجعل موضوع الأسرى موضوعاً منظوراً إليه ، لا على أنه موضوع رقيق مسبى ونساء يمتهن ، وإنما هو موضوع أسرى يقعون في الأسر لضرورات حربية ، ويُطلق سراحهم وفاقاً لاتفاقات دولياً .

لا يظنن أحد على سبيل التمدح في العصر الحاضر أن هذا الموضوع انتهى ، لا ، فالواقع أن الأسرى يعاملون اليوم في الحروب معاملةً هي أسوأ بكثير من المعاملة التي كان يعامل بها الأسرى في الماضي ، فالأسير في الماضي يقع في ملك رجل يُنفق عليه ويرعاه ويحميه ، والمجتمع المسلم أعطاه ضمانات سنتحدث في حينها ، بينما أسير اليوم ربما تصدر قائمة تقول لك هذا في عداد المفقودين ، وهو إما في المناجم وإما في الحقول وإما تحت سياط الارهاب والتعذيب . لا يقولن أحد : إن النســاء حينما يسبين هذه الأيام يعاملن معاملةً كريمة ، فالواقع أن النساء خارج نطاق الإسلام الذي ما يزال يتميز بوجود بعض الفضائل حتى الآن يعشن في حالة فوضى جنسية كاملة ، فالنساء في الحروب لا يوجد ما يضبط العلاقة بينهن وبين الرجال في حال من الأحوال ، والجيش الفاتح في أي بلد من بلاد الدنيا لا ينتظر أن تُستبرأ الأرحام ، ولا ينتظر من الخصم أن يعامله بالمثل ، وإنما هو بحق القوة وبحق الغلبة يعتدي على البيوت ويفض الأبكار ويعيش في الأرض فساداً دون أن يخشى رقيباً ولا حسيباً .

في الواقع ما يزال المجتمع الإنساني بعد هذه المسيرة الطويلة البالغة في العمر ألفاً وخمسمائة سنة تقريباً ما يزال دون المستوى الذي حدده القرآن في هذه الآية بكثير وبكثير جداً .

هذه هي القضية التي أردت أن أتحدث عنها اليوم ، لأبين لكم سمة من سمات الإسلام في تعرّفه على المشاكل وطريقة معالجته لهذه المشاكل ، وشجاعته وصراحته في مواجهة الواقع دون مواربة ودون لفت ولا دوران ..

وإلى الدرس القادم إن شاء الله سنحاول أن نسير مزيداً من الخطى في طريق التعرّف على أحكام سورة النساء وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصاحبه أجمعين والحمد لله رب العالمين .