تفسير سورة النساء 3

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة النساء

5 / 5 / 1978

(3)

العلامة محمود مشّوح

 (أبو طريف)

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين ، أما بعد :

الدخول الحقيقي في سورة النساء بدأ في الدرس الماضي ، ونحن نسأل الله تعالى أن يعيننا على تمام القول في هذه السورة الجليلة ، ونذكّر بما قلناه من أن القرآن الكريم آيات بينات كانت تعالج واقعاً محدد المعالم معروف السمات ، وتعالجه لتهدم عالماً لا خير فيه ، وتبني عالماً آخر يقوم على الحق والخير والعدل والقسط بين الناس ، وليس عجباً من الأمر أن يكون القرآن قد حوى في آياته الكريمة سورة كاملة للمجتمع الجاهلي بما فيه من أنماط في النظام والسلوك ، وبما فيه من سبل ومناهج في الاعتقاد والتفكير ، ولهذا فإن من التقصير في فهم القرآن الكريم أن يقف القارئ عند أدنى ما يمكن فهمه من ظاهر كتاب الله ، وعليه أن يعلم أنه حين يسمع الأمر والنهي فثمة حالة يُراد لها أن تزول ، وأخرى يُراد لها أن تثبت وتستقر .

 وفيما يتصل بهذا السورة الكريمة أي سورة النساء فقد قرأنا لكم فواتحها من قبل ، ونكرر بعض هذه الفواتح ( بسم الله الرحمن الرحيم : يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيباً ، وآتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً ، وإن خفتم أن لا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم أن لا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى أن لا تعولوا وآتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً ) .

 وفي الدرس الماضي تحدثت إليكم عن قسم من الآية الأولى ، عن قوله تعالى ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساءً ) وبيّنت لكم أن هذا التوجيه الحكيم كان لازماً في مجتمع كذلك المجتمع الذي خاطبته هذه الآية ، لأن الإسلام دين ذو أهداف واضحة ، لكنك لو ذهبتَ تلخصها وتختزلها لوجدتها تنحل إلى أمر واحد وهو توفير السعادة والطمأنينة للناس في الدنيا ، ومساعدتهم على بلوغ مرضاة الله في الآخرة ، وإذا عرفنا أن للإسلام وجهة نظر محددة فيما يتعلق في أساس البناء الاجتماعي في أصول التكوين البشري وهو أن ادّعاءات التمايز العرقي والطائفي والبيئي والمالي والعلمي وما أشبه ذلك كلها ادّعاءات غير مبررة من الواقع ولا سند لها من عالم الحقيقة ، ثم هي من جهة أخرى ضارة في المجتمع البشري حالاً ومآلاً ، فسوف نعرف إذا عرفنا هذا لماذا اتجه الخطاب بهذا الشكل في ذلك الوقت إلى المجتمع الجاهلي ؟ فنحن من خلال اللفظ أن المجتمع الجاهلي الذي يتميز قومياً ويتميز قبلياً والذي يتميز بحسب البيوت هذا المجتمع كان بحاجة ماسة إلى إصلاح سريع لكي يستعد لحمل الرسالة الإنسانية الكاملة إلى الناس كافة .

 ولكن الأمر هذا صيغ كما ترون بهذا الأسلوب الذي هو من خصائص القرآن الكريم ، ولعلنا لا نعدو الحقيقة إذا قلنا إن الأسلوب المباشر يُعد أفشل الأساليب ، وخير الأساليب التي تسوق بها أمرك ونهيك إلا في ظروف خاصة هو أن تُخرج هذا الأمر أوهذا النهي بأسلوب يلفت النظر إلى جذور القضايا وأصول المشاكل ، فقد كان ممكناً أن يتوجه الخطاب إلى الجاهليين بصياغة تشعر بالأمر بالالتزام المساواة المطلقة بين الناس ، ولكنه يظل أمراً يحتاج إلى أسانيد ، فلما عرض القرآن لهذه القضية لم يزد على أن لفت النظر إلى الحقيقة الراهنة القائمة وهو أن هذه البشرية الكثيرة المبثوثة على الأرض مع اختلاف الألسنة ومع اختلاف الألوان ومع اختلاف الأماكن ومع اختلاف المراكز الاجتماعية ومع اختلاف الزمن أيضاً لا تعدو أن تكون ذرية جاءت مـن طريق أب واحد وأم واحدة ، وإذا كان الفخار يستقيم بين إنسانيين متباعدين فالفخار في الأسرة الواحدة من الإخوة بعضهم على بعض يُعدّ سخفاً ولغواً من القول ، وإذا كانت هذه البشرية بمجموعها ترجع لأب واحد وأم واحدة فإذاً لا معنى ولا مبرر أن يعلو بعض الناس على بعض ، وأن يشعر بعض الناس بالامتياز على بعض ، ولا يمكن لا نظرياً ولا عملياً أن نباشر بوضع أساس اجتماعي سليم على قاعدة بشرية متمايزة لا يتكافأ أفرادها ولا يتساوون ، بهذه الصياغة وبلفت النظر هذا قُررت هذه القضية لتلغي كل امر جهلي ولتضع تحت قدمي الرسول عليه الصلاة والسلام ما كان من مفاخر الجاهلية ولتعلمهم على لسان النبي المكرم صلى الله عليه وسلم أن أنسابهم هذه التي يتفاخرون بها ليست لمنسب وأنه من الخير لهم أن يكفوا عن التفاخر وعن التعظم بالآباء والأجداد أو ليكونن أهون على الله من الجعلان تدوس القذر بأنوفها .

 لكن الذي يلفت النظر في هذا الموطن هو بعض مواقع اللفظ في سياق الكلام الرباني ، فالآية تقول ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفـس واحدة ) وكان يمكن أن تكون الآية : يا أيها الناس اتقوا الله الذي خلقكم من نفس واحدة . لاسيما أن صيغة : اتقوا الله . واردة ومتكررة في القرآن في مواطن عديدة ، إلا أن اللفظ الكريم والنسق المعجر عدل عن هذا ليختار كلمة الرب ويضعها في هذا الموطن ، فإذا سألتَ عن معنى الرب فعرفتَ أن الرب هو المنشئ وهو الكالئ وهو الحافظ وهو المربي وهو الحامي فقد تبيّن لك أن كامة الرب في هذا الموطن لا يمكن يغني غناءها لفظ آخر ، لأن القرآن بهذا اللفظ اللطيف يُشعرك بأن هذه البشرية ماضيها وحاضرها ومستقبلها والمنبثة على ظهر الأرض والمختلفة الأجناس والألوان لم يكن لتكون هكذا لولا عناية الله ولولا حياطة الله ولولا لطف الله ولولا تدبير الله ، فكلمة الرب هنا تشير إلى كمال العناية بالجنس البشري لغايات أظهر الله منها ما أظهر وأبهم منها ما أبهم ، وسوف نقف إن شاء الله مع ما أظهر منها .

 فهذه قضية ، وقضية أخرى في قول الله تعالى بعد ذلك ( يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء واتقوا الله ) قال هناك ( اتقوا ربكم ) وقال هنا ( واتقوا الله ) والوصية متماثلة في تقوى الله ، في الأولى وفي الثانية ، والتكرار هنا حكمته زيادة التنبيه والإشعار بضرورة مراعاة جناب الله واستحضار خشيته على الدوام كي لا يفلت الإنسان من هذه الرقابة الربانية النافذة المحيطة المحكمة .

 ( واتقوا الله ) لكـن عرّف الله هنـا بأنه ( الذي تسـاءلون بـه ) ومعنى ( تســاءلون بـه ) أي تطلبون حقوقكم بعضكم قِبل بعض بالله تعالى ، فأنت تقول : أسـألك بالله أن تفعل كذا وأن تفعل كذا ، فهذا معنى ( تسـاءلون به ) لأن ( تساءلون ) أصلها ( تتساءلون ) والعرب إذا توالت الأحرف المتماثلة في الكلمة تعمد إلى حذف الزائد كي لا يثقل الكلام ، لأن العرب في عادتها في خطابها أنها تميل إلى التخفيف ، فبدلاً من أن تقول ( تتساءلون ) فتتوالى تاءان فتثقلان على اللسان وتنبوان في السمع ، ولذا حُذفت التاء الزائدة وأُبقيت الأخرى ، وكان اللفظ ( تساءلون ) والمعنى ( تتسائلون ) أي يسأل بعضكم بعضاً بالله .

 ( والأرحام ) أما الأرحام فهي القرابات ، والأرحام قسمان : رحم مَحرَم ، ورحم غير مَحرَم ، فالرحم المَحرَم الأصل ، يعني الأب وأخ الأب والإبن وابن الإبن وإن سفل ، والإخوة والأخوات ، وهم الجناحان ، فهؤلاء هم الرحم المَحرَم . والرحم غير المحرم هم القرابات عامة ، الأعمام وأبناء الأعمام ، والعمات وأبناء العمات ، والخالات وأبناء الخالات ، وما أشبه ذلك . وقد أجمعت الأمة سلفاً وخلفاً على أن صلة الرحم واجبة ، وعلى أن قطيعة الرحم مُحرّمة ، الله يقول في الحديث القدسي : أنا الرحمن ، خلقت الرحم ، وشققت لها اسماً من اسمي ، فمن وصلها وصلته ومن قطعها قطعته . والنبي عليه الصلاة والسلام يقول : الرحم سجنة من الرحمن ، أي علاقة ووصلة من الله سبحانه وتعالى . فالإجماع بحمد الله منعقد على وجوب صلة الرحم ، لا يختلف في ذلك المسلمون في حال من الأحوال .

 وتسأل : هل كان في الحياة الجاهلية تأسيساً على ما قلناه من طريقة القرآن في سياقة الأوامر والنواهي ما يستدعي التأكيد والتشديد على صلة الأرحام ؟ فنقول : نعم . إن الجاهلية كانت تقطع الأرحام بشهادة أعرب العرب وبشهادة خيار الناس الذين لا يُشك في عروبتهم وانتسابهم إلى أفضل الأرومات في المجتمع العربي ، ففي حديث الهجرة إلى الحبشة حينما تقدم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أمام النجاشي ليُسأل عما أقدمه من الجزيرة على الحبشة ؟ فكان مما قال له ـ وهو جعفر بن أبي طالب بن عبد المطلب ـ يعني في الذؤابة من قريش التي هي الذؤابة من العرب ، والتي لا يُزاود عليها أحد في العروبة ، قال له : أيها الملك إنا كنا قوماً من وصف كيت وكيت ، وكان مما قال : وكنا نقطع الأرحام . فالحياة الجاهلية كانت فيها قطيعة رحم ، كيف ؟ نحن نعرف من الأخبار التي وصلت إلينا عن المجتمع الجاهلي أن القمار وشرب الخمر كان من عوائد الجاهليين المتفشية ومن خلائقهم المحببة إليهم ، وربما قامر الرجل منهم فخسر ماله ، ثم يريد أن يستمر في المقامرة فيقامر على زوجته ويقامر على ابنته ويقامر على ولده ، فإذا خسر أصبحت الزوجة ملكاً للرابح في المقامرة ، وإذا أعوزه ثمن الخمر وزق الخمر باع الزوجة أو باع البنت ، طبعاً هذه العوائد ليست متفشية عند كل القبائل ولكنها ليست بالعوائد المجهولة وإنما هي معروفة .

 كذلك فنحن نعرف أن الرجل من القبيلة المعينة إذا كثر منه العبث وجرّ الجرائر على القلبيلة اختلعته والقبيلة وتبرّأت منه ، وفي تاريخ العرب ولاسيما تاريخ آداب العرب يُعرف طائفة من الناس بأنهم الخلعاء ، أي الذين رفضت قبائلهم أن تتعرّف وأن تتحمّل مسؤوليتهم ، فهؤلاء ذوو أرحام ، رجالاص كانوا أو نساءً ، طبعاً لعوائد بالية جاهلية مخربة حمقاء ، كان يتورّط الجاهلي في هذه القطيعة ، فجاء الإسلام ليؤكد ضرورة مراعاة الأرحام أن توصل وأن لا تُقطع بحال من الأحوال ، وكثيراً ما وُجّه إلي سؤال من عدد كبير من الناس : ما قولك إذا كان ذو رحمي يسيئ إلي ويتحدث عني بما لا يليق ويسعى في إضراري ؟ وكنت أقول دائماً : لا بد من صلة الرحم ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرنا أن خير الصلة هي صلة بالرحم الكاشح ، ومعنى الرحم الكاشح هو قريبك الذي يتحدث عنك بالسوء والذي يبغيك الغوائل والذي يسعى في إيصال المضرة والأذية إليك ، فصلة هذا الإنسان أفضل الصلات .

 وصلة الرحم واجبة أكثر مع اختلاف الدين ، ففي حديث النبي صلى الله عليه وسلم أن أسماء جاءت إلى النبي عليه الصلاة والسلام تقوله له : إن أمي جاءتني راغبة ـ يعني تطلب مني صلة ـ وهي مشركة أفأصل رحمي ؟ فقال لها : صلي رحمك . فإذا كانت صلة الرحم واجبة حتى مع اختلاف الدين فصلة الرحم بين المسلمين أمر لا يمكن التهاون فيه أو التسامح بشأنه .

 لكننا نتساءل : وعلامَ كل هذا الاهتمام ونحن نرى الزمان قد تطوّر وأن البشرية تكاثرت وأن المدن تضخمت وأن ظروف الحياة وشئون الناس تحتّم عليهم ألواناً من العلائق ليس من الضروري أن يكون الرحم عاملاً فيها ؟ فنقول : لسنا ننكر أن إنسانية اليوم ترفع وحدة العاملين ووحدة الطبقة الكادحة ، وتعتبر العامل أخاً للعامل الآخر مهما يكن دين هذا العامل ومهما يكن لون هذا العامل ومهما يكن وطن هذا العامل ومهما تكن لغة هذا العامل ، كذلك نحن نسمع أنه ترفع شعارات تنادي بوحدة أبناء المهنة الواحدة ، التجار ذوو مهنة واحدة توّحد بينهم مصالح مشتركة أو ما أشبه ذلك ، هذا شيء ملحوظ . كذلك نحن نعرف أن الحياة المعاصرة بما فيها من علاقات معقدة غاية التعقيد جعلت صلة الأرحام يُدفع إلى الخلف . أريد أن أقول : وجهة نظر الإسلام فيما يتعلق بالبناء الإنساني قائمة على ما ألمحت إليه هذه الآية الكريمة ، المجتمع البشري كيان واسع وشبكة معقدة من العلاقات ، ولكنه يرجع من حيث المآل إلى الخلية الاجتماعية الأولى وهي الأسرة المؤلفة من أم وأب وأبناء وبنات . كذلك ثمة دائرة أوسـع هي دائرة الأسرة الأكبر ، علاقات الأعمام وأبناء الأعمام وهكذا في سلسلة من العلاقات تشكل الدوائر بعضها أوسع من بعض حتى تشمل الإنسانية برمتها ، إن الإسلام يحدد في كل قاعدة تشريعية وتنظيمية جملة من الخطوات ، كل واحدة هي نتيجة لما سبقها ولما بعدها ، فإذا أخللت بالأولى لم تستطيع أن تنجح في حال من الأحوال ، بترجمة واقعية نقول : إن الإنسان الذي يفشل في إقامة العلائق الأسرية على أسس سليمة لا يمكن أن ينجح كمواطن عادي في حي من الأحياء بله أن ينجح في بلد من البلاد بله أن ينجح في أمة من الأمم بله أن ينجح على المستوى الإنساني ، لا بد لكي نعطي الإنسان شهادة بأنه إنساني النزعة حريص على العلاقة الأخوية البشرية أن يجتاز الامتحان الأول وهو أن يكون شديد الرعاية للخطوة الأولى المتمثلة بالخلية الأساسية التي هي الأسرة وما يتفرع عنها وهو المعبّر عنها بالأرحام .

 إننا هنا ما زلنا في نعمة ، نحن نرى الآباء والأبناء يجتمعون ، ونرى الزوج والزوجة يجتمعان في مناسبات تكاد تكون مستمرة ، ولكن التطور الغلط القائم على الأساس النفعي الذي طرحته الحضارة المعاصرة ، جعل هذه العلاقات أضعف وأوهن من بيت العنكبوت ، مثلاً في أوروبا وأمريكا ابنك لا تعرفه ولا يعرفك ولا تسمع عنه ولا يسمع عنك إلا في أعياد الميلاد ، في السنة مرة واحدة يزورك أو تزوره ، وفيما عدا هذا لا تراه ولا يراك . كذلك ابنك وابنتك متى بلغت السن المعترف عليه قانوناً هناك أنه سن الأهلية فليس لك أي حق عليها ، وليس لها أي حق عليك ، وليس لك أي حق على ابنك وليس لك أي حق عليه . كذلك أنت تعمل طيلة النهار ، زوجة تعمل طيلة النهار ، أنت في مكان ، وهي في مكان ، ولا يرى أحدكما الآخر إلا في آخر الليل ، ترمي أنت نفسك على الفراش كأنك جثة ، وترمي هي نفسها على الفراش كأنها جثة ، وقد تفترقان الأيام وقد تفترقان الشهور ، هذه واقعة بشرية طرحتها الحياة المعاصرة ، ولكن هذه الحياة ليست علينا نحن المسلمين ، إنها حياة ولّدت لدى أربابها الجنوح والفساد والاندفاع نحو الجنون والانتحار والنفاضات الثوية العنيفة التي لا يُعرف لها سبب ، وإغلاق الهموم والمتاعب بين سيقان النساء والجنس وفي الحانات والخمارات ، وإنسان من هذا القبيل إنسان مفلس بشرياً ، مفلس إنسانياً ، وحضارة يحملها إنسان بهذا الشكل لا شك أنها حضارة فاشلة .

 فالنداء الذي وُجّه في الماضي على لسان القرآن بضرورة صلة الأرحام نداء كان له ما يبرره في ذلك الوقت من حيث كون الحياة الاجتماعية الجاهلية كانت حياةً تسيء إلى الأرحام إساءةً لا تستند إلى مبرر معقول ، ونفس هذا النداء إذ يقرأه قارئ اليوم وإذ يوجهه الدعاة إلى الإسلام اليوم ما يزال هو النداء الصالح لأن يطيل الإنسان عثرتها ولأن يُنهضها من كبوتها . فهذا هو السر في التأكيد على ضرورة الصلة الأرحام ، وتصدير الأمر بهذه الصلة بلفت النظر إلى تقوى الله جلّ وعلا ( واتقوا الله الذي تسائلون به والأرحام ) وختم الآية بهذا الكلام المعبّر ( إن الله كان عليكم رقيباً ) ومعنى رقابة الله أنه ينفذ إلى سرّك كما يعرف جهرك ، فربما رُؤي منك اندفاع نحو صلة الرحم ، ولكن الله يعلم من دخيلة نفسك أنك لا تصل الرحم بدافعٍ مـن تقوى الله ولكن رئاء الناس وطلباً للمحمدة بين الناس ، ليقال إنسان يحب أقاربه ويصل أرحامه ، فهذا عمل إذ يدخله الرياء وإذ يدخله طلب الوجاهة والمنزلة بين الناس حابط وقاتل ولا قيمة له ولا يُعتدّ به ، فحين يقول لك الله ( إن الله كان عليكم رقيباً ) يعني أنه يعرف سرك كما يعرف جهرك ، ويريد منك أن تصل رحمك لأن الله أراد ذلك .

 بقي أن نبحث المسألة من جوانبها اللغوية والتركيبية ، وأرجئ هذا البحث إلى الدرس القادم إن شاء الله ، لأنني لا أريد أن أطيل في هذه الدروس . سأقول لكم كلمتين على هامش عدم الإطالة : سابقاً نحن نسمع ونوّجه باستمرار أننا نضيع الكلام في الدروس والخطب ساعة ساعة ونصف وما أشبه ذلك ، مع أن منهج النبي عليه الصلاة والسلام أنه كان يقص الخطابة ، ونقول إن الزمن تغير ، وإن الناس الذين خاطبهم الرسول عليه الصلاة والسلام يختلفون عن ناس اليوم ، والناس اليوم بحاجة إلى محاضرات لكي تُدخل القضايا إلى عقولهم ، وأنا أحد الذين رددوا هذا الكلام وأشاعوه ، بيني وبين نفسي أستغفر الله ، وأمامكم أستغفر الله . الحقيقة أنه لا شيء في الدنيا أعدل من منهج النبي عليه الصلاة والسلام ولا أكمل ، كان يجب أن نتنازل عن هذا الغرور ، والمسألة في قصر النبي عليه الصلاة والسلام للكلام تعود إلى أمر إنساني حقيقي ، الواقع أن الإنسان من حيث هو إنسان لا يستطيع أن يستمر في الاستماع والاستيعاب أكثر من عشرين دقيقة أو نصف ساعة على الأقل ، إذا زاد دخله السأم وتعرضت الفائدة لخطر الإلغاء والإعدام ، ومع العادة الرديئة التي تعوّدناها وهي إطالة الكلام أنا أبذل في الحقيقة جهوداً خارقة لأرجع من قِبلكم إن شاء الله على أن ألتزم بمنهج النبي عليه الصلاة والسلام ، يكفينا الكلام القليل ، وإن يشأ الله يبارك في القليل ، نسأل الله سبحانه وتعالى أن يمنحنا وإياكم الخير والبركة . وصلى الله على سينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم والحمد لله رب العالمين.