تفسير سورة الأعراف 43

العلامة محمود مشّوح

تفسير سورة الأعراف

الجمعة 13 رجب 1399 / 8 حزيران 1979

( 43 ) الأخيرة

العلامة محمود مشّوح

(أبو طريف)

 إن الله مع الذين آمنوا والذين هـم محسـنون .. أما بعـد أيها الإخوة المؤمنون :

 كان في النية أن نتمهّل بعض الشيء ونحن نأتي على أواخر سورة الأعراف ، لكني وجدت أنه لا بأس إن شاء الله تعالى عليكم إن نفضنا الحديث كله في هذه الجمعة وفرغنا من السورة ، وفرغنا أيضاً من هذا العناء الذي طال قرابة أربعة أعوام ، والذي أكل من الصحة والجهد والمشاعر والتفكير . فليكن حديثنا اليوم إن شاء الله خاتمة الأحاديث ، وليكن الله معنا جميعاً .

 أيها الإخوة في الجمعة الماضية التقطت لكم أطراف خيوط السورة ، وتلخّصت لنا أغراضها ، فمنذ البداية وحتى النهاية فإن آيات السورة الكريمة تتوارد على تقرير عدد محصور من القضايا التي استدعت الحديث عنها والتركيز عليها دواعي المرحلة المبكّرة التي كانت الدعوة الإسلامية تجتازها حين كانت آيات هذه السورة تتنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم . ومن غير المعقول أن تتوجّه الدعوة في تلك الأزمنة الباكرة نحو قوم أشركوا بالله وشرعوا لأنفسهم ما لم يأذن به الله واتبعوا أهواءهم وحكّموا أعرافهم وتقاليدهم وتعبّدوا لسير آبائهم وأجدادهم ، ضاربين صفحاً عن الله تبارك وتعالى .. أقول غير معقول أن لا يكون عماد الكلام كله منصباً على تحرير الوحدانية من حيث هي الغرض الأول الذي جاءت الدعوة لتقيمه على أنقاض الشرك وعلى أنقاض الوثنية . من هنا كان الغرض الأول الذي توارد عليه آي السورة الكريمة المنافحة والمحاجّة عن قضية الوحدانية وتحريرها لله تبارك وتعالى وانتزاع البشر من أن يتعبّد بعضهم بعضاً أو أن يعنو بعضهم لما يصنع من أحجار وأصنام وتماثيل .

 وفي عالم تسوده الأهواء وتصطرع فيه المصالح اصطراع الوحوش في الغاب كذلك العالم الوثني الذي واجهه محمد صلى الله عليه وسلم ، والعالم المشرّك الذي يتمثل في اليهود والنصارى والدهريين الذين لا يؤمنون بربٍ ولا نبي ولا كتاب وكان منهم كثير .. ليس معقولاً أن تترك الدعوة الإسلامية هؤلاء الناس يشرّعون بأنفسهم ويخططون ويرتبون ، فالإنسان بما هو عليه من عجز وقصور لا يحيط علماً بالمصالح ولا يستطيع إدراك جميع أبواب المفاسد . من هنا كانت يد الله الرحيمة تمتد في الآن بعد الآن إلى الناس على هيئة نبي وكتاب أو على هيئة نبي ووصايا ، لتدل الناس على مراشد الأمر ، ولتبتعد بهم عن مزالق السوء . والذي كان عليه العرب بخاصة في ذلك الوقت هو تحكيم الأعراف وتحكيم التقاليد ، وحصيلة ذلك كانت أن الأمة التي تنتمي إلى أرومة واحدة ويزعم رواة الأنساب فيها أنها ترجع إلى رجل واحد كانت تنقسم قبائل وعشائر وأفخاداً ، وكان يغزو بعضها بعضاً ويقتل بعضها بعضاً ويسلب بعضها بعضاً ، ولئن ألقيت نظرةً عجلى على دواعي هذا التمزق والتفرق والاقتتال والدماء الجارية التي لا تريد أن تنقطع لَما وجدتَ من ذلك سبباً أكثر من أنه يعود إلى تحكيم بعض الأعراف والتقاليد كأعراف الغزو والسلب والنهب ومشروعيتها بينهم وكعادات الأخذ بالثأر وما أشبه بذلك . وبكلمة جامعة : خنزوانة الجاهلية التي كانت تُخرج العاقل عن صوابه لتدفعه نحو مزالق ، لو أنه ملك أسباب التعقب والتفكير ما انزلق إليها ولا انحدر نحوها .

 من هنا كان الشيء المتفرع عن القضية الأساسية قضية الوحدانية هو ما جاءت قصص الكتاب الكريم وعلى الأخص سورة الأعراف تعيّنه وتبرزه للناس ، إن الناس لمجرد أن يحكموا الأهواء ويثقوا بالذي عندهم من العلم ويُعرضوا عما شرع الله من أوامر ونواهٍ ويستهينوا بالذي أنزل إليهم من وصايا فإن أحوالهم تنحط وتتدهور . وإن حياتهم الاجتماعية تسير نحو التمزق والشتات ونحو الدمار الذي لا ريب فيه ، ومن خلال القصص القرآني الذي عُرض في سورة الأعراف تبين بدءاً من قصص نوحٍ عليه السلام وانتهاءً بالتوسع في الكلام الذي جاء عن قصص بني إسرائيل في زمن موسى صلى الله عليه وسلم وهارون وبعدهما ، أن استقامة أحوال الناس مرهونة بأخذهم بأسباب الشريعة التي يُنزلها الله إليهم ، وإذا هم أهملوا وتراخت قبضتهم عن الأخذ بأسباب الشريعة خرجوا إلى التفاسد والتطاحن والتنازع الذي يفقد الإنسان معنى وجوده ومبرر وجوده في هذه الحياة الدنيا .

 ثمة قضية أخرى نجد القرآن في هذه السورة يبرزها بأكثر مما أُبرزت في السور الثمانية والثلاثين التي مرت من قبل وهي مسألة الاحتجاج للنبوة . في الحقيقة إحدى المعضلات الكبرى في التاريخ البشري هذا الاعتراض الذي واجهه كل نبي أرسله الله إلى العباد .. عقول الناس حينما ترتكس وتنحط لا تستوعب أن يكون واحد من الناس نبياً مجتبى مرسلاً من الله إلى الناس ، ما الذي يميز فلاناً عن فلان ؟ ولعل مما يدعو إلى التنبه إلى أن الأنبياء الذين أُرسلوا بعامة لم يكونوا من العلية والسادة ، ولم يكونوا من الزعماء والقادة ، والذي يبدو لنا أن العلية والسادة وأن الزعماء والقادة قوم أفسدتهم الأوضاع البذيئة التي هم فيها ، ولذلك فُرّغوا من جميع المعالم الإنسانية التي ترشحهم للأخذ بأسباب الرسالات السامية التي تقتضي أولاً إنكار الذات والفناء في الرسالة وتحمّل في ذات الله تبارك وتعالى . إنما كان النبي يُرسل من أوساط الناس ، صحيح أنه لا مغمز في نسبه ولا مطعن عليه في أخلاقه ، لكنه على العموم ليس من الطبقات القائدة التي تدلي بقيادتها السابقة من أجل تدعيم حجتها على النبوة ، لأن الله يريد أن تكون النبوة اجتباءً واصطفاءً وترشيحاً يستحقه المرشح بتكوينٍ مصنوع على عين الله ، ولا يريده وراثة تورث ولا شيئاً يتلقاها الأبناء عن الآباء . لهذا نجد بعض الأمم في جملة ما تقول لأنبيائها مستنكرةً عليهم هذه الدعوة العريضة ( ولولا رهطك لرجمناك وما أنت علينا بعزيز ) ( ما نراك فينا إلا ضعيفاً ) هذا يزيد الطين بلة ويزيد البلاء . قد يستوعب بعض الناس أن يتقدم زعيم من الزعماء أو قائد من القواد أو ملك من الملوك بدعوى من هذا القبيل ، ولقد سبق في التاريخ البشري الشيء الكثير ، فرعون قال ( أنا ربكم الأعلى ) فقال الناس : نعم . وليست له من حجة إلا السلطة والصولجان الذي كان يملكه . كسرى تعبّد الناس لأسباب السلطان التي في يده .. ممكن أن تصنع هذه الدعوة العريضة من قبل ضعفاء النفوس إذا هي صدرت عن المراكز العليا ، أما أن يأتي واحد من أوساط الناس ليحدث الناس بهذا الأمر العجب وهو أن الله اختاره واصطفاه واجتباه ليكون رسوله إلى الناس وليدلهم على الطريق المجدي والمنتج وليرشدهم إلى ما فيه سعادتهم وخيرهم في الدنيا والآخرة فهذه أعجوبة لم تستوعبها معظم العقول البشرية . لهذا نجد في وقائع السيرة النبوية أن واحداً من المشركين من أقرباء النبي صلى الله عليه وسلم حينما تحدث النبي عليه الصلاة والسلام بما أكرمه به الله برسالة قال له : ألم يجد الله أحداً غيرك يرسله إلى الناس . وحكى القرآن عنهم هذه المقولة ( وقالوا لولا نزل هذا القرآن على رجل القريتين عظيم ) يمكن لو أن القرآن نزل على أبي سفيان أو على عروة بن مسعود في مكة أو في الطائف .. يمكن أن يستمع له الناس ، لأنه يتمتع بمكانة تاريخية ، لكن المكانة التاريخية في ميدان النبوات لا تساوي شيئاً . المسألة مسألة المعاني الإنسانية الكريمة التي تكوّن عليها الإنسان .

 لذلك فنحن نجد من لوازم قضية التوحيد قضية الدفاع عن الرسـالة والرسول ، إن المشركين من العرب أنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً لله ، ومنذ بديات التنزيل كما مرّ عليكم من قبل مما شرحناه ظهر استنكارهم هذا وتعجبهم ، وتناثرت تهمهم ، ولكن الله تبارك وتعالى كان يفنّد هذه التهم ويرد هذه الشبهات في الآن بعد الآن .

 ثمة قضيةٌ أخرى عرضت لها السور وهي من لوازم هذه القضايا ، ليست قضيةً أساسية قائمة بذاتها ، ولكنها من لوازم قضية الألوهية بالذات هي قضية اليوم الآخر . في الحقيقة نحن شاهدنا في السور التي تلوناها من قبل وشرحناها كلاماً كثيراً مستفيضاً عن اليوم الآخر ، لكنه في سورة الأعراف كلام مركّز كما ستسمعون ، ثم تُختم السورة بعد ذلك بتحديد منهج ، منهج عمل ، ولعل الكثيرين يستغربون حينما ينحلّ هذا المنهج إلى كلمات بسيطة ، نحن تعوّدنا أن نرى مناهج الحركات وبرامج الأحزاب ونظم الدول أشياء معقدة ومتشعبة وكثيرة الشروح والحواشي ، لكن الإسلام بمعطياته ومن حيث هو قول فصل من إله عليم حكيم ليس بحاجة إلى كل هذه الفلسفات الفارغة والشروح التي لا تغني شيئاً ، سترون بعد ذلك .

 آخذ في تلاوة الآيات أولاً .. قبل هذه الجمعة وقبل أن فرغَت السورة من الحديث عن تجربة بني إسرائيل توجّه الخطاب بصورة أساسية إلى المجتمع المكي الذي كان يواجهه رسول الله صلى الله عليه وسلم في المراحل المبكرة من عمر الدعوة الإسلامية . والله تبارك وتعالى يعلم مبلغ ما يقاسيه محمد صلى الله عليه وسلم من هذا الصد والإعراض ومن إنكار الشمس في رائعة النهار ، ويعرف أن هذا النبي الكريم تحزّ في نفسه هذه الظواهر السيئة التي يراها من قومه فيسليه ويعزيه ويقول له : لا عليك إن الله خلق الجنة والنار ، وخلق للجنة أهلاً وخلق للنار أهلاً ، ولستَ مطالباً بأن تسوق الناس نحو أسباب الإيمان بالعصا ولا بالسوط ، ولكنك رسول مبلّغ ، يذكر له أنه ذرأ أي خلق خلقاً يتتابع بواسـطة الذرية ، ذرأ لجهنم كثيراً من الجن والإنس ، وأن هؤلاء له قلوب لا يعقلون بها ولهم أعين لا يبصرون بها ولهم آذان لا يسمعون بها ، إن هؤلاء الناس الضالين الشاردين عن الحقيقة الناصعة الواضحة ليسوا بشراً أسوياء ، لكنهم مرضى وشأن المريض أن تستأني به وأن تصبر عليه ، وليس لك أن تحطم رأسه لكي ترتاح منه ومن بلائه ومن مرضه ، إن الأمر سابق ومقدّر ، وهؤلاء بما عطّلوا من أدوات الإدراك وأسباب المعرفة والفهم لن ينتفعوا بشيء إلا أن يأذن الله تبارك وتعالى .

 مع ذلك فلكي لا يكون الأمر غيبياً صرفاً فإن الله جلّ وعلا يُشعر نبيه صلى الله عليه وسلم ويُشعر المؤمنين جميعاً وإلى آخر الزمان أن وجه الأرض لن يخلو من قائم لله بحجة ، أهو فرد ؟ أهـو جماعة ؟ أهو أمة برمتها ؟ هذا غير مهم ، المهم أن أسباب الهداية لا تنقطع ، وأن مشاعل النور لا تنطفئ ، ويقول الله جل وعلا ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) والنبي عليه الصلاة والسلام يشرح ويؤكد هذه المقولة الأساسية من مقولات الإسلام فيقول : لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على أمر الله لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك . يعني حتى تقوم الساعة وهم مستمسكون بأسباب الهداية . والني صلى الله عليه وسلم لم يحدد وقتاً دون وقت لهؤلاء الناس ، وإنما ترك الأمر على الإجمال وعلى الإبهام ، وقال في حديث آخر : أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره . لا تعرف البركة في أية قطرة من قطرات هذا المطر . فالله عز وجل يعزّيه : مهما رأيتَ من ظواهر الصد والإنكار والجحود ، ومهما قاسيتَ من أسباب المطاردة والإعناد والقهر ، عن هذا الحق تعبير عن إرادة الله جل وعلا ، وليس تعبيراً عن إرادة البشر التافه الحقير ، لا ، تعبير عن إرادة الإله الجبار المتعالي الذي لا يُغلَب أبداً ، وكما أن الله لا يُغلَب ولا يغالب فكذلك الحق الذي أنزله الله إلى رسله ، لا يمكن أن يُغلَب ، وكذلك الشعلة التي أتى بها الأنبياء لا يمكن أن تنطفئ .

 وقوله تعالى ( ممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ) تعزية بالغة الأهمية بالنسبة لرسول الله عليه السلام وبالنسبة لكل الداعين إلى الله إلى يوم القيامة ، فمهما تكاثفت العداوات ومهما تراكبت الخصومات فإن هذا الحق باقٍ ولو اجتمعت قوى الظلم والظلام وقوى الشر والعدوان من أربعة أقطارها لكي تزيل هذا الحق وتقتلعه فإن هذا الحق راسخ كرسوخ السموات والأرض ( ذلك بأن الله هو الحق وأنه يحي الموتى وأنه على كل شيء قدير ) .

 ( وممن خلقنا أمة يهدون بالحق وبه يعدلون ، والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ، وأملي لهم إن كيدي متين ) للمغرورين ، للذين لم يتعودوا الغوص في بواطن الأمور ، للذين فقدوا حاسة الشم التي تسمح لهم بشم روائح التغيير ، لهؤلاء نقول إن معايير الحضارة لا تؤخذ من ظواهر الأمور ، وإنما تُستخلص من بواطنها ، إنك تجد الرجل أعنف ما يكون وأقوى ما يكون ، وخلال ثانية تعترضه خثرة في مكانٍ ما في شرايينه فهو جسد هامد . أين ذهبت القوة وأين ذهب العنفوان وأين الفتوة ؟ كل ذلك ذهب كأنه لم يكن . إن الأمم تجدها في غاية العز والسؤدد ، تقول يُسمع لقولها ، تأمر تُنفذ أوامرها ، ومع ذلك ترتكب حماقةً ما فإذا هي أثر بعد عين . إن الله جلّ وعلا يكشف هنا عن قانون يحسن بكل إنسان أن يتنبه له ، إن ظواهر الأمور لا تخدع إلا المخدوعين ولا تغش إلا بسـطاء الناس ، وإن حقائق الأشياء أبعد من أن تؤخذ من ظواهر الأمور .

 ( والذين كذبوا بآياتنا ) والأنموذج المعروض على محمد صلى الله عليه وسلم هو هذه الشريحة من البشـر التي كانت تعايشـه فـي مكة ، كذبوا بآيات الله ، لم يقل ربنا تبارك وتعالى : إنه سـيقصف رقابهم وفـوراً ، لا ، إنما قـال له ( سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ) أي نأخذهم في الطريق المفضي إلى هلاكهم في الوقت الذي يظنون أنهم سائرون نحو النصر ونحو العز والقوة ، لكنهم لا يعرفون شيئاً ، وبالفعل فالشريحة التي عُرضت على محمد صلى الله عليه وسلم هم أبو جهل وأبو لهب وأمية ابن خلف وسائر الزعماء الذين كانوا يجلسون في صدور منتديات مكة ، ويمثلون عزة الجاهلية وعنفها وعنفوانها ، والذين كانوا كما عبّر سهيل بن عمر رضي الله عنه : كانوا يرون أن محمداً صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة كان أهون على أحدهم من كسرة الخبز في يدي الصبي ، يستطيع أن يحطمه تحطيماً . هؤلاء ظلوا حتى النفس الأخير يظنون أن الدنيا لهم ، ويظنون أن يد الله شيء وهمي لا حقيقة له ، وبعد أن أشبعوا رسول الله وأشبعوا المؤمنين معه قتلاً وتشريداً وتعذيباً حتى اضطروهم إلى الهجرة مرتين إلى الحبشة وأخيراً إلى الهجرة إلى المدينة . ظلوا حتى تلك الأيام يظنون أن الدنيا لهم وأن هذا الكلام الذي يهذي به محمد لن يقدم ولن يؤخر ولن يزيل شيئاً من معالم تقاليدهم وموروثاتهم ولن يطال شيئاً من مراكزهم وزعاماتهم ، وحتى حين خرجوا إلى آخر مرحلة أزالت الغشاوة عن عيونهم ، بعد ثمانية عشر شهراً من مهاجر النبي صلى الله عليه وسلم في معركة بدر ، حتى وهم على أبواب المعركة كان أبوجهل يمثل هذا الاستدراج الذي نستعيذ بالله منه ، ويريد العقلاء منهم أن يرجعوا بالناس فيقول أبو جهل : لا والله لا نرجع حتى ننحر الجزر وحتى نشرب الخمور وحتى تعزف علينا القيان فيتسامع بنا العرب فلا يزالون يهابوننا أبداً . لم يدروا أنهم قاب قوسين أو أدنى من الهزيمة المنكرة المرة ، وحين وقعت الواقعة ما هي إلا ضحوة من نهار فإذا الرؤوس الكبيرة تتدحرج على رمال بدر ، وإذا الرجال الذين كانوا بالأمس يمثلون العزة والقوة والفتوة يُجرّون من أرجلهم كما يُجرّ الكلب الأجرب النجس ليُلقوا في القليب ، قليب بدر .

 ذلك هو الاستدراج ، الإنسان يأخذه الله وهـو أقوى ما يكون وأغنى ما يكون وأعنف ما يكون ، يأخذه الله جلّ وعلا ، فإذا بطش بطشـته لم يسـأل ولم يبال ( والذين كذبوا بآياتنا سنستدرجهم من حيث لا يعلمون ، وأملي لهم ) أي أترك لهم أسباب العزة والرخاء والقوة والمنعة ، وأطوّل آمالهم ورجاءهم ، وأمنحهم من هذه الأسباب الشيء الكثير ( حتى إذا فرحوا بما أُوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون ) ذلك هو القانون الذي يمكن استخلاصه من عبر التاريخ ، والذي للأسف يتجاهله كثير من الناس .

 ثم يتجه الخطاب على هيئة سؤال أو تساؤل فيه كل معاني السخرية بهؤلاء الناس الذين يظنون فـي أنفسـهم العلم والقدرة على الفهم ( أوَلم يتفكروا ) سـؤال ( أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ) محمد ليس مجنوناً ، وتهمة الجنون تهمةٌ رافقت الأنبياء جميعاً ، وأظن أنني قلت لكم من قبل ربما قبل سنوات إن من الخطأ أن نفهم أن الناس يرمون الأنبياء بالجنون بمعناه المعتاد الذي يرشح صاحبه لأن يكون ضيفاً غير مكرم فـي مستشفى المجانين ، لا ، الناس أعقل من ذلك بكثير ، لكن الأنبياء بما هم مبشرين بتدمير عالم تدمير يرى الناس أن أسسه راسخة في الأرض ويرون أن لا شيء في الأفق يدعو إلى هذا التغيير المطلق والشامل ، وبما أن هؤلاء الأنبياء يبشرون بعالم جديد مائة بالمائة من الأول إلى الآخر ، وبما أنهم يتكلمون كلاماً هو أقرب إلى الرؤى والأحلام منه إلى الواقع المحسوب ، كان الناس يقولون عنهم مجانين . حينما يتقدم إليك أحد من الناس بمشروعٍ من مشروعات الطموحة تقول له بس أنت مجنون ، لا تعني أن عقله مختل لكن تعني أنه يتحدث عن شيء غير ممكن . فالأنبياء حينما واجهوا الناس واجهوهم بإرادة تتمثل بتغييرٍ شامل لعالم الواقع من أوله إلى آخره واستبداله بعالم لم يدركه بعض ملامحه حتى السـاعة التي هـم فيها ، من هنا انطلقت كلمة الجنون .

 ( أوَلم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة ) ولفت النظر هنا إلى التفكير ضروري لماذا ؟ إن الرسالة نزلت على رسول الله متى ؟ بعد أن استكمل صلوات الله وسلامه عليه أربعين سنة ، قبل الأربعين سيرة محمد صلى الله عليه وسلم معروفة ومشهورة ومكشوفة لم يسجل عليه أحد من معاصريه أنه كان مختلاً في قواه العقلية ولا في قواه الجسدية ، لم يجرب عليه أحد كذباً ، لم يجرب عليه أحد أن تجاوز الحقيقة بحال من الأحوال ، صاحبهم هذا معروف يعرفون نسبه وصدقه وأمانته ، فوق ذلك ، المشكلة أنهم يثقون به إلى أبعد حدود الثقة ، وأية ثقة أعظم من أن يتصدر شاب قبل النبوة بين الأشياخ من قومه ليحل مشكلةً هي أعظم من مشكلاتٍ عندهم وذلك حينما أرادوا رفع الحجر الأسود لوضعه في مكانه ، وكادت الحرب تقع بين العرب في مكة ؟ بل أية ثقة هي أعظم من أن الرسالة جاءت وأن النبي عليه الصلاة والسلام بشّر بها وأن الفتنة وقعت بين المؤمنين والمشركين ، وأن المشركين عدوا على المسلمين فقتلوا من قتلوا وقيدوا من قيدوا وشردوا من شردوا .. ومع ذلك فإن المشركين كانوا لا يجدون مكاناً ولا شخصاً هو أقدر على حفظ أشيائهم أكثر من محمد صلى الله عليه وسلم ؟ حتى هاجر محمد صلى الله عليه وسلم كانت الأشياء الثمينة للمشركين ودائع عند محمد صلى الله عليه وسلم ، وحينما أزمع الهجرة خرج هو وصاحبه أبو بكر رضي الله عنه وترك ابن عمه علياً كرّم الله وجهه في الجنة في بيته وعلى فراشه ليردّ الأمانات والودائع إلى أصحابها ؟ أية ثقة هي أعظم من هذه الثقة التي تجعلك وأنت في أوج الخصومة مع عدوك تثق بعدوك هذه الثقة ؟

 فصاحبهم معروف ، فكّر ، صاحبك هذا الذي لا يكذب عليك ولا يخونك هل يعقل أن يكذب على الله أو يخون الله تبارك وتعالى ؟ المسألة معادلتها بسيطة للغاية ، لكن القوم محتاجون فقط إلى قليل من التفكير ( أولم يتفكروا ما بصاحبهم من جنة إن هو إلا نذير مبين ) كما أن القرآن آيات بينات فمحمد صلى الله عليه وسلم من حيث رسوخه في الحقيقة نذير مبين ( أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ) ما يدري هؤلاء الناس أنهم يصبحون غداً وهم أحياء ؟ ألم يروا إلى آبائهم وأجدادهم كيف ماتوا ؟ ألم يروا إلى الماضين كيف تركوا ما خلفوا وراءهم مما خولهم الله تبارك وتعالى ؟ أهم آخذون عهداً وموثقاً من الله أن لهم الخلود في الأرض ؟ لا ، هؤلاء ألم يتفكروا فـي ما خلق الله من شيء في السموات والأرض ؟ ألم يتفكروا أن أجلهم يمكن أن يكون قد اقترب ؟ فلماذا لا يتعظون ؟ ( أولم ينظروا في ملكوت السموات والأرض وما خلق الله من شيء وأن عسى أن يكون قد اقترب أجلهم فبأي حديث بعده يؤمنون ) بأي شيء بعد محمد وقرآنه يؤمنون إن لم يؤمنوا بهذا النبي وبهذا القرآن ؟ لأنه لا شيء أبلغ في الهداية والإرشاد من آيات الله ، ولا شيء أبلغ في التصديق من محمد صلى الله عليه وسلم ، فإذا كذّب الناس آيات الكتاب وكذبوا النبي المرسل بهذا الكتاب ، فبأي شيء بعد ذلك يصدقون ؟ ( من يضلل الله فلا هادي له ويذرهم في طغيانهم يعمهون ) .

 أيها الإخوة إن آيات السورة التي بقيت كثيرة وأظن أنني لو ذهبت أتلوها وأشرحها لطال عليكم الشوط فلنختصر لكم .

 بعد هذا الكلام يتجه الحديث إلى الواقع العربي مباشرةً ، يتساءل القرآن عن عادة من العادات يُمثل لها ويضرب لها مثلاً واقعاً ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليكم فلما تغشاها حملت حملاً خفيفاً فمرت به فلما أثقلت دعوا الله ربهما ) الزوج والزوجة ( لئن آتيتنا صالحاً لنكونن من الشاكرين ، فلما آتاهما صالحاً جعل له شـركاء فيما آتاهما فتعالى الله عما يشركون ) الإنسان يعرف الله وقت الشـدة وينساه وقت الرخاء ، تلك خليقة إنسانية ، العرب في الجاهلية حينما كانت الزوجة تحمل وتقرب من المخاض يدعو الزوجة والزوجة جميعاً ( لئن آتيتنا الله صالحـاً ) أي خلقـاً سـوياً غير مشـوه ( لنكونن من الشاكرين ) مع ذلك حينما تنجلي الغاشية وينزل المولود لا يُسمى عبد الله ولا يسمى عبد الرحمن ولا يسمى عبد الخالق وإنما يسمى عبد الكعبة وعبد الحارث وعبد العزة .. فهذا هو الإشراك الذي أشارت إليه الآية الكريمة ، ولم تشر إليه لتقف عنده ، وإنما أشارت إليه لتفضح الشرك ( أيشركون ما لا يخلق شيئاً وهم يُخلقون ، ولا يستطيعون لهم نصراً ولا أنفسهم ينصرون ) .

 ويقول أيضاً ( إن الذين تدعون من دون الله عباد أمثالكم ) هذه الأصنام التي تدعونها هي من جملة مخلوقات الله ( فادعوهم فليستجيبوا لكم إن كنتم صادقين ، ألهم أرجل يمشون بها ) هذا توبيخ ( أم لهم أيدٍ يبطشون بها أم لهم أعين يبصرون بها أم لهم آذان يسمعون بها ) هذه أوصاف للكائن الحي ، هذه الأصنام لا أرجل تمشي بها ، لا أيدي تبطش بها ، لا أعين تبصر بها ، لا آذان تسمع بها .

 ( قل ادعوا شركاءكم ثم كيدوني جميعاً فلا تنظرون ، إن وليي الله الذي نزل الكتاب وهو يتولى الصالحين ، والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ، وإن تدعوهم إلى الهدى لا يسمعوا وتراهم ينظرون إليك وهم لا يبصرون ) هذه الفضيحة للأصنام التي كانت سائدة ، كان لا بد من تركيزها بهذا الشكل . لأن العربي الذي لا يشك أحد في أنه أوتي الحس المرهف والوجدان الرقيق والمشاعر الدقيقة العالية بالدلالة ما ترك لنا من آثار في الشعر والنثر تدل على حيويةٍ بالغة ونفس جياشة وعواطف نبيلة ، هؤلاء ينحطون إلى عبادة أحجار لا تملك لأنفسها ولا لعابديها نفعاً ولا ضراً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشرواً . لا بد من فضيحة هذه الأشياء ، لأن العقل العربي الذي خوطب بهذه الآيات كان محتاجاً إلى نفضةٍ عنيفة من هذا النوع ، ليلفته إلى أن الإنسان من حيث هو إنسان عار عليه عار أن ينحت الصنم بيده ثم يسجد له ، وأن يعتقد به أنه يضر وأنه ينفع ، عار ومهانة ، لهذا كانت الحملة كما ترون عنيفة وقاسية على الأصنام .

 قضية أخرى جاءت في أواخر السورة ( يسألونك عن الساعة ) وبطبيعة الحال التبشير والإنذار باليوم الآخر من لوازم النبوات جميعاً ، ولو أننا قلنا إن الدنيا تنتهي بإغماضة العين ودخول القبر ثم لا شيء بعد ذلك لكان الخلق كله عبثاً وكان الله غير موجود ، ولا بد من دار ولا بد من يوم يجازى المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته ( يوم يضع الله الموازين القسط ليوم القيامة فلا تُظلم نفس شيئأ وإن كان حبة من خردة أتينا بها وكفى بنا حاسبين ) لا بد من هذا اليوم . العرب حين كان النبي صلى الله عليه وسلم يحدثهم عن يوم تُنصب فيه هذه الموازين بعد الموت مانوا يلوّون رؤوسهم وكانوا يستهزؤون ، أئنا لمبعوثون ؟ أئنا لمنشرون ؟ ( يسألونك عن الساعة أيان مرساها ) متى تكون ( قل إنما علمها عند ربي لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض لا تأتيكم إلا بغتة ) ليست لها مقدمات ، إن الأحاديث الشريفة تنص على أن الساعة تقوم حين تقوم والرجلان يتبايعان الثوب وهذا يمسك بطرفه وهذا يمسك بطرفه الآخر ، وإن الساعة تقوم والرجل يرفع كأسه إلى فمه ليشرب أو اللقمة ليأكلها فلا تصل إليه ، من غير مقدمات ، وإنما هي صيحة واحدة وإذا كل شيء قد انتهى .

 علم ذلك عند من ؟ عند الله ، لا يعرفه ملَك مقرّب ولا نبي مرسل ، وحسب الإنسان المؤمن أن يكون على وجل ، والله جل وعلا يقول ( والذين آمنوا مشفقون منها ) يعني خائفون من وقوعها أن تأتيهم بغتة وهم على طرف من أطراف الظلم والعياذ بالله .

 ( يسألونك كأنك حفي عنها ) يعني كأنك تسأل الله بإحفاء وإلحاح لتعلم ميعاد الساعة ( قل إنما علمها عند الله لا يجليها لوقتها إلا هو ثقلت في السماوات والأرض ) أي أن علمها امتنع على أهل السماوات والأرض لا يعلمونها ( لا تأتيكم إلا بغتة يسألونك كأنك حفي عنها ) النبي عليه الصلاة والسلام لا يعرف موعد الساعة بالرغم من أن بعض سخفاء العقول ممن يسمّون بالعلماء من القدامى ومن المحدثين يزعم أنه ليس فقط الرسول وإنما أيضاً بعض الأولياء يعلم موعد الساعة ، هذا كذب وافتراء على الله ( إن الله عنده علم الساعة وينزل الغيث ويعلم ما فـي الأرحام وما تدري نفس ماذا تكسـب غداً وما تدري نفس بأي أرض تموت ) .

 وفي حديث جبريل حين سأل رسول الله عن الإسلام وعن الإيمان وعن الإحسان قال له : يا رسول الله متى الساعة ؟ قال : ما المسؤول عنها بأعلم من السائل . علمي وعلمك واحد ، أنا لا أعرفها وأنت لا تعرفها . كل ما يُعلم من الوحي ومن أحاديث النبوة إشارات كطلوع الشمس من مغربها وبعض الإشارات الأخرى وهذه لا تنفع ، إن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : إذا طلعت الشمس من مغربها آمن الناس كلهم جميعاً . لكن ذلك ( يوم لا ينفع نفس إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ) .

 إذاً هي بغتة ، والنبي عليه الصلاة والسلام يلقّن أن كتمان علم الساعة لا يضر الإنسان ، وعلم الساعة بميقاتها لا ينفع الإنسان ، ولو أن النبي صلى الله عليه وسلم يعلم ذلك لاستكثر من الخير ( قل لا أملك لنفسي نفعاً ولا ضراً إلا ما شاء الله ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسني السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون ) .

 بعد هذا الكلام الذي تعرّضت فيه الآيات لتشخيص المشكلات التي عرضنا أولها في الجمعة الماضية وهي قضية الألوهية ، وثانيها وهي قضية صحة الرسالة والدفاع عن الرسول ، وعرضنا لثالثتها وهي قضية حتمية الرجوع إلى الله في يوم يقوم فيه الخلائق جميعاً لله تبارك وتعالى ، نجد القرآن الكريم يحدد للرسول صلى الله عليه وسـلم منهج العمل ( إن وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين ) يقول لهم بتعليم الله ( قل ادعوا شركاءكم ثم كيدوني جميعاً فلا تُنظرون ) ماذا تفهمون من هذا الكلام ؟ الموقف الواضح والصدق دون شراسة ودون تصرفات لا معنى لها ، إنما هذا طريقي ( قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين ) افعلوا ما شئتم ، كيدوني جميعاً ودبروا لي المؤامرات ، ثم ( لا تُنظرون ) أي لا تمهلوني أبداً ، أنا لست تابعاً لكم ، أنا وأنتم عباد لله تبارك وتعالى ( إن وليي الله الذي نزّل الكتاب وهو يتولى الصالحين ، والذين تدعون من دونه لا يستطيعون نصركم ولا أنفسهم ينصرون ) .

 ثم يأتيه التوجيه الحاسـم ( خـذ العفو واءمر بالعرف وأعرض عـن الجاهلين ) بعض المفسرين يقول هنا : خذ العفو أي من خذ من أموال الناس ما سمحت به نفوسهم على سبيل الصدقة ، لكني أستبعد هذا التأويل لسبب ظاهر ، وهي أن الآيات الكريمة مبكرة في النزول جداً ، تنتمي للسنوات الأربع الأولى من عمر الدعوة ، لم تكن الزكاة فُرضت ولا الصدقات جاءت ولم يكن شيئاً من هذا القبيل ، والميدان كله بما مضى من الثمانية والثلاثين سورة كان يركز على هذه الناحية ، ناحية العفو عن إساءة المسيء ، الصبر على أذى الناس ، مع التمسك بالحق . ( خذ العفو ) أي الزم جانب الصفح والغفران عـن هؤلاء ( واءمر بالعرف ) مرِ الناس بما تعرفه العقول ولا تنكره ، وتقبله الطباع السليمة ولا وتنفر منه ( وأعرض عن الجاهلين ) سيلقاك في طريقك من الجهلة والأشرار كثيرون ، وسيحاولون إثارتك واستجرارك إلى مواقف تُخرجك عن طورك وتستخرج منك أخلاقاً لا تليق بك ، هؤلاء لا تقابلهم بطريقتهم ، أعرض عنهم .

 ثم يُركَّز الأمر أكثر ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ ) يعني ربما تجد في طبعك كونك بشراً ميلاً وجنوحاً لردّ العدوان والإساءة ، إياك ، أنت لا تملك نفسك الآن ، فأنت ملك لله وللدعوة ، تصرفاتك وكلامك محسوب على الدعوة ، ينبغي أن تكون متقيداً تماماً بأوامر الله تعالى . ( وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم ) حين تجد نفسك تنازعك إلى أن تتخطى حدود المنهج الذي رسمه الله لك في المرحلة المعينة استعذ بالله والجأ إليه ، لا تطاوع نفسك ولا أهواءك ( إن الذين اتقوا إذا مسّهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون ) ربما يخطر لي أن أحطم جمجمة هذا الذي يعترض طريق الحق لكن الظرف غير مواتٍ ، ربما يكون هذا التصرف فيه دمار للدعوة ، حينئذ المتقي الذي يرتبط قلبه بالله إذا مسّه طائف من هذا اللون ـ وهو من طوائف الشيطان ـ تذكّر فإذا هو مبصر يرى الطريق واضحاً .

 ( وإخوانهم ) أي إخوان الشياطين ( يمدونهم في الغي ثم لا يُقصرون ، وإذا لم تأتهم بآية قالوا لولا اجتبيتها قل إنما أتبع ما يوحى إلي من ربي هذا بصائر من ربكم ) هذا القرآن من ربكم مضيئة ومنيرة من ربكم ( وهدى وموعظة للمتقين ، وإذا قُرئ القرآن فاسـتمعوا له وأنصتوا لعلكم ترحمون ) ما حدود المنهج ؟ ثبات واستقرار على الطريق من غير مراوغة ولا مداورة ، أنا مسلم وكفى ، لا يمكن أن أكون يهودياً ولا نصرانياً ، ولا يمكن أن أكون ملحداً ولا يمكن أن أكون أي شيء . كن مسلماً واثبت على طريقك ، لا تراوغ ولا تداور ولا تجامل ولا تدهن في أمر الله قليلاً ولا كثيراً ، ومع ذلك فأنت مطالب لأن تكون ذا خلق رضي ومحبة غامرة للناس ، يا أحباب افهموا عني هذه الحقيقة : الإسلام لا يريد طاعة الناس رغماً عنهم ، افهموا عني هذه الحقيقة ، ليفهمها الصديق وليفهمها العدو ، الطاعة التي تأتي عن طريق الإكراه والقسر والعنف والعنفوان لا نشتريها بفلس ، لا نريدها ، إنما الطاعة التي نريدها ونطمح إليها هي طاعة نابعة من القلب ، غيرها لا نريد . من أجل ذلك كان واجباً علينا أن ندعو الناس إلى الإسلام بالحب ، وأن نفتح القلوب بالصبر والعفو والمغفرة ، محمد صلى الله عليه وسلم هل أنتم أكرم منه ؟ مع ذلك وطأ المشركون عنقه في الصلاة وألقوا القذر على ظهره ، سبوه وشتموه ، وأسالوا دمه ، كسروا رباعيته ، شجوا وجهه الشريف ، كل ذلك وهو يتحمّل الأذى والبلاء في سبيل الله تعالى ، أنتم لستم أكرم على الله من محمد صلى الله عليه وسلم .

 يجب على الإنسان أن يُعرض عن الجهلة وأن يصبر على الأذى ويغفر للخطائين عالماً بأن قلوب العباد ليست بيده وإنما هي بيد الله تعالى .

 ومع ذلك أيضاً على الإنسان المسلم أن يديم تلاوة القرآن ، ما هي الوثيقة التي يرجع إليها المسلم في كل حين ؟ هذا القرآن ، على الإنسان المسلم أن يقرأ القرآن ، وإذا لم يقرأ القرآن أن ينصت لسماع القرآن ( وإذا قرئ القرآن فاستمعوا له وانصتوا لعلكم ترحمون ) هذه هي حدود المنهج في تلك المرحلة ، دعوة مستمرة ، ثبات على الطريق ، تحمّل للأذى ، إعراض عن الجاهلين ، حب للناس أن يدخلوا في هذا الدين زرافات ووحداناً ، إدامة لتلاوة كتاب الله جل وعلا ، أيضاً ذكر الله تبارك وتعالى ( واذكر ربك في نفسك تضرعاً وخيفة ودون الجهر من القول بالغدو والآصال ولا تكن من الغافلين ) إن سمة الإنسان المؤمن أنه إنسان صاحٍ وواعٍ باستمرار ، لا يغفل عن الله تبارك وتعالى .

 بمَ خُتمت هذه السورة يا إخوة ؟ هذه السورة أعجوبة بالفعل ، خُتمت بالآية التي تبيّن استغناء الله تبارك وتعالى عن الخلق جميعاً ، كما تبيّن رحمته ، يقول الله تعالى لنبيه في ختام السورة ( إن الذين عند ربك ) أي الملائكة ( لا يستكبرون عن عبادته ويسبحونه وله يسجدون ) هل تتصور يا محمد أن الله بحاجة إلى صلاة المصلين أو صيام الصائمين أو زكاة المزكين أو طاعة الطائعين ؟ لا ، الله ليس بحاجة إلى ذلك أبداً ، وإنما الناس بحاجة إلى ذلك ، في أول جمعة جمّعها النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة وقف على منبره الشريف وقال لهم هذه الجملة الفاذة : يا أيها الناس أطيعوا الله ورسوله ، فإنه من يطع الله ورسوله فقد فاز ورشد ، ومن يعصِ الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه ولن يضر الله شيئاً . طاعة الناس لا تصل إلى الله ولا تنفعه ، وغنما تصل إلى المطيع وتنفعه ( ولن ينال الله لحومها ولا دماؤها ولكن يناله التقوى منكم ) هل يكبر عليك أن يعصي الناس جميعاً يا محمد ؟ لا تكترث بهذا ، فعند الله من الجنود والملائكة ما لا يعلمه سـواه ، وهؤلاء لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون . الله جل وعلا لو أراد أن يستبدل هذا الخلق بخلق آخر لفعل ، ولكن رحمته الواسعة قضت أن يرسل إلى الناس هدايات متمثلة في الأنبياء والرسالات والكتب ، وأنت خاتم الرسل والأنبياء ، وكتابك آخر وصاة إلى الناس ، لا تكترث ، فالله عنده جنود السماوات والأرض ( إن الذي عند ربك لا يستكبرون عن عبادته ) يطيعونه بإخلاص وذلة وخضوع ( ويسبحونه وله يسجدون ) .. انتهت السورة .

 رأيتم أنني اختزلت الشيء الكثير ، بانتهاء السورة أكون أنهيت شوطاً من الحديث معكم استمر سنين ، هل أنجزت شيئاً ؟ نعم ولا ، قلت فيها الشيء الكثير ولم أقل شيئاً ، إن كلام الله ثري وغني ، والإنسان المؤمن كلما أدام النظر في كلمات الله تفتحت له أبواب الفهم ، وانتثرت أمامه الأفكار التي لا تتناهى . فإن قلنا أننا قلنا شيئاً فنحن صادقون ، وإن قلنا أننا لم نقل شيئاً فنحن صادقون أيضاً ، ليس هذا مهماً ، المهم أن أعلمكم أنني أشعر الآن أني تخففت جداً ، وأنني بعد الآن سأمنح نفسي راحة لا أتصورها تقل عما بعد شهر رمضان ، هل عجزت ؟ لا ، هل أنا مشفق من شيء ؟ لا ، أنا قادر على أن أتحدث الساعات الطويلة وأنا بحمد الله رجل ، لا ارهب أحداً ولا أخاف ، ومنذ سجدت لله ما عنت جبهتي لغير الله ، وذلك فضل الله علينا وعلى الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون .

 لكن دعوني أقل لكم أنني عانيت خلال المدة التي مضت الشيء الكثير ، عانيت إساءة الفهم ، أما إساءة النقل فلا أكترث لها ، هي عندي أهون من يقف عندها الإنسان ، عانيت سوء الفهم ، تارة ألومهم ، وهذا أوان المصارحة معهم ، وتارة لا ألومهم ، عمري على هذا المنبر ثلاثة وثلاثون عاماً ، وهو عمر طويل ، ومع ذلك حينما أقف عند بعض كلمات الله جل وعلا أشعر بالعجز ، أليس من حقكم أن ألتمس لكم العذر حين تتعاصى عليكم بعض الأفكار ؟ بلى . درست على أسلوب في الحديث وفي التفكير أنا أول الذين يعلمون أنه لا يتلاءم مع المنبر ، ومع ذلك فلقد كنت ملتصقاً مع هذا المنبر أريد أن أؤدي للناس كلاماً ، وأن أعرض عليهم أفكاراً وقد فعلت ، في تقديري أن جملة الأفكار المعطاة خلال السنوات الأربع الماضية يكفي إن شاء الله لكي يبني عليها الشباب الشيء الكثير في المستقبل . والإسلام لا يتوقف على شخص ولا على جيل ، ولكنه كلمة الله الباقية التي يصطفي لها رجالاً في كل حين .

 أما أنا فأشعر بصدق أنني عاجز عن إفهامكم ، عاجز ، كما أنني في الوقت نفسه عاجز عن التنازل عن طريقتي في الكلام وطريقتي في التفكير ، فالمعادلة بيننا مستحيلة كما ترون . يبدو أننا اصطنعنا على المنبر حديثاً هو أليق بقاعات المحاضرات ، ومعروف أن خطب الجمعة ليست من هذا القبيل ، ليس في كل وقت ، طبعاً كلام النبوة على أرقى مستوى من البلاغة ومن الفكر ، لكنه كان يقال أمام رجالٍ ونساءٍ تشربوا سلائق العربية وخصائص اللغة ، فالكلمة تفعل فيهم فعل السحر لأنها تتفاعل مع أعمق أعماق كياناتهم . أما نحن الذين خرجنا من الفصحى إلى العامية في اللسان وفي الذهن فمن الصعب علينا أن نتفهم الكلام البليغ ، ومهما حاولنا أن نصطنع من الشروح والإيضاحات لكي نقرّب كلام الله جلّ وعلا بنفس الإشعاعات التي كان يفهمها أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام فسوف نفشل .

 لذلك رأيت أن أريح نفسي وأن أريحهم ، أعرف أن الكثيرين يخرج من هنا وهو مصاب بما يشبه المغص ، لأن الكلام صعب ولأن الأفكار صعبة ، وإذا كان الكلام ليس صعباً وإذا كانت الأفكار ليست صعبة فالمهمة المطروحة صعبة ، مفهوم ؟ المهمة المطروحة صعبة ، كمثال : أن شرحت لكم جانباً من سلوك النبي صلى الله عليه وسلم وفاقاً لتوجيه القرآن الآن وهو الثبات على طريق الله من دون مراوغة ، هذا المطلب لوحده جرّبوا أن تضعوه موضع التطبيق ، وانظروا كم من العقبات تلاقيكم من القريب ومن البعيد ومن الصديق ومن العدو ومن هنا ومن هناك ، إذا كان الكلام مفهوماً وإذا كان الكلام سهلاً وإذا كانت الفكرة سهلة فالمطلوب صعب ، المطلوب صعب ، أفهم هذا وأقيم لكم المعازير . لذلك رأيت أن أريح نفسي من هذا الألم الذي أقاسيه ، وأن أريحكم أيضاً من هذا الكلام الثقيل وهذه المطالب الثقيلة ، عالماً في الوقت نفسه أن جهاتٍ عديدة تتمنى بجدع الأنف لو أن هذا الصوت سكت ، فقد سكت ، ليستريح وليريحوا زبانيتهم بعد الآن ، سكت الصوت ، لكن ليستدير إلى ميدانٍ أجدى ، وليعمل في ميدانٍ أرحب ، بعد الآن يكون المجهود منصباً على بلورة هذه الأفكار . المرحلة التي نحن فيها تقتضي فهماً مصفى للإسلام ، وتقتضي كلمةً باقية تتداولها الأجيال ، وأستأذنكم في أن أنسحب من ميدان القول لأنطلق في ميدان الكتاب .

 وأسأل الله تعالى أن يهيئ لهذا المنبر من يقوم بحقه أو ببعض حقه ، فقد قضينا الذي علينا ولا ننسحب فارينا وإنما نستدير من ميدان إلى آخر ، وليهنأ الذين يريدون أن نسكت ، فنحن سنسكت إن شاء الله ، لكن إلى وقت لا أدري يطول أو يقصر ، وإلى ظروف قد تأتي ربما تدفعنا إلى أن نقول ، لا ندري ، المهم الآن انتهينا من الكلام جملةً وتفصيلاً .

 إن كانت لي من وصية أقولها لكم ، فهي أن لا يتصور أحد أن الله يترك دينه لعبث السفهاء ، لا يتصور ذلك أحد ، إن هذا الدين محفوظ بحفظ الله جلّ وعلا ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( والله متم نوره ولو كـره الكافرون ) لا يتصور أحد ذلك ، ولا يقل أحد مقالة بعض ضعفاء العقول أن الزمان في آخره . لا ، الزمان ما زال بعدُ مبكراً ، ومازالت أمامنا أيام سعيدة إن شاء الله ومزدهرة بحول الله جلّ وعلا ، وأصطنع الحديث الذي يصطنعه بعض الذين يعكسون الحقائق للتدليل على ذلك ، بعض المتشائمين يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيما ثبت عنه : إن هذا الدين بدأ غريباً فطوبى للغرباء . فهم يرون أن هذا الدين في آخر الزمان ، سيكون محل المطاردة وأن حتمية هذه المطاردة أن تقوم الساعة ، وحين تقوم الساعة يحاسب المجرمون على جرمهم . لكني أريد أن أقول إن هذا من قلب الحقائق ومن سوء التأويل وسوء التفسير لكلام النبي صلى الله عليه وسلم . الدين بدأ غريباً بالفعل حين جهر محمد بالدعوة في مكة لم يكن على وجه الأرض من يقول كلاماً من هـذا النوع ، لكن ما نتائج الغربة ؟ نتائج الغربة إيمان بعض الناس ، ردود الأفعال عداء بعض الناس ، النتائج التي تحصلت بعد ذلك خوض الإسلام معركة البقاء مع أعداء الإسلام جميعاً وعلى كافة المستويات وفي جميع الأقطار .. المحصلة النهائية انتصار الإسلام ودحر الظلم وهزيمة الشرك ومطاردة الرزيلة في أي مكان كانت . ذلك تأويل قول النبي صلى الله عليه وسلم : إن هذا الدين بدأ غريباً . نعم بدأ غريباً لكن انتهى بالنصر المؤزر وسيعود غريباً كما بدأ ، نعم لا بد أن يطارد الدين ، والآن هو يطارد تحت كل كوكب فـي مؤامرة عالمية تشمل أربعة أقطار المعمورة ، نعم هذا معروف ، لكن الدين سيخرج منها منتصراً وسيخرج الإسلام عزيزاً وسيبوء أعداء الله جميعاً بالإذلال وبالفشل وبالخيبة والخسران .

 نحن لا نتشائم أبداً ، آخر الزمان لا يعني الفساد ، البركة في أمة محمد ، البركة في هذا القرآن ، البركة في هذا الإسلام ، لا يقطع أحد الرجاء ( إنه لا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ) تسلحوا بالثقة بأن الذي أنزل القرآن سيحفظ القرآن ، وبأن الذي أيد محمداً سيؤيد الذين يسيرون على خطى محمد صلى الله عليه وسلم .

 يا أحبابنا كونوا مع الله ، كونوا مع هـذا الإسلام ، لا تميلوا شمالاً ولا يميناً ، إن أمامكم يوماً يُحاسب فيه الإنسان على كل صغيرة وعلى كل كبيرة ، إن أمامكم يوماً يشهد فيه على الإنسان لسانه وعينه ويده ورجله وجوارحه ، ويتساءل الإنسان ( لمَِ شهدتم علينا قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء ) إن أمامكم يوماً يُقدّم فيه الحساب ، فلتكن رؤوسكم مرفوعة يوم الحساب لما أديتم من خدمة لهذا الدين ن ولما أديتم من خدمة لهذا القرآن ، إن عزكم وإن سيادتكم وإن مكانتكم في الدنيا ورفعتكم في هذه الحياة الدنيا وخلاصكم ونجاتكم في الآخرة مرتبط بمدى وفائكم لهذا الإسلام ولهذا القرآن ، لا يغترنكم الشيطان ولا جنود الشياطين ، أبداً ، اعرفوا أن هذه الأمة مضروب عليها أن تكون مسلمة ، وكل من يحاول انتزاعها من أحضان الإسلام يجب أن تقطع يده من غير رحمة ومن غير شفقة ، اعرفوا أن كل من يدعوكم إلى غير الإسلام عدو لله وعدو لرسوله وعدو للمؤمنين وخائن لتاريخ هذه الأمة وخائن لمستقبل أجيالها ، اعرفوا أن عتادكم في الدنيا عتادكم في الآخرة ، سـلاحكم في الدنيا سـلاحكم في الآخرة ، زادكم في الدنيا زادكم في الآخرة .

 هذا الإسلام هذا القرآن لا تفرطوا فيه ولا تساوموا عليه ، إن كان لي ما أوصيكم به في آخر حديث أقول إليكم ، فهو هذا الكلام ن تمسكوا بما أنزل الله إليكم يرحمكم الله ، وأسأل الله لي ولكم وللمسلمين هدايةً تعصم من الزلف وترد عن السوء وتقينا المصارع المنكرة ، والله أسأل أن يصلح أمة محمد وأن يغفر لأمة محمد وأن يفرّج عن أمة محمد وأن يرحم أمة محمد ، وصلى الله تعالى على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين والحمد لله رب العالمين.