آه.. يا وطني

م. محمد عادل فارس

م. محمد عادل فارس

[email protected]

الكتاب: إنّه مجموعة قصصيّة صدرت عام 1996 عن دار إشبيلية للدراسات والنشر في دمشق.

يضمّ الكتاب اثنتي عشرة قصّة قصيرة، في نحو مئة وثمانين صفحة.

الكاتب: ولد الكاتب في حلب عام 1929، ودرس الحقوق في جامعة القاهرة، وعمل محامياً في حلب، ومدرساً في ثانويّاتها، ثمّ موظّفاً في وزارة الشؤون الاجتماعيّة، وانتقل بوظيفته إلى دمشق منذ عام 1966، وزار عدداً من الدول العربية والأوربيّة والأمريكيّة.

إنّه فاضل السباعي الذي يُعدّ في طليعة أعلام القصة والرواية في سورية، فقد أخرج ما لا يقلّ عن ثلاثين كتاباً في القصة والرواية والأدب التاريخي. يُعنى بالقصص الاجتماعي والوطني ثمّ التاريخي. ويمتاز بأسلوب تعبيري فصيح مشرق أنيق.

في قصصه العاطفية لا ينتهي إلى فعل الفاحشة كما يفعل المنحلّون. وقد أخذ عليه هؤلاء هذه العفّة! واتّهموه بما ليس فيه.

في قصصه الأخيرة صدى طيب لأوضاع سورية المقموعة. وقد عانى هو نفسه من الاعتقال. وروايته "بدر الزمان" و"آه يا وطني" خير مثال على ذلك.

 

عرض الكتاب:

آه يا وطني!

"كم تعذّبتُ فيك! كم أتعذّب من أجلك! ولكنّي سأظلّ أحبّك لأنّك... وطني".

بهذه الكلمات التي تقطر مرارة وولهاً، يقدِّم فاضل السباعي لكتابه "آه.. يا وطني"!

الكتابُ، من حيث مادّته، مجموعة من القصص القصيرة، وهو، من حيث موضوعاتُه، صورٌ مما يُعانيه (المواطن) العربي عموماً، والسوري بشكل أكثر خصوصيّة، في (وطنه)، أيّاً كان هذا الوطن، وهو من حيثُ ما وراءه، من حسّ مرهف، وريشة بارعة في نثر ظلال الكلمات في أعماق الوجدان، وجدان القارئ العربي، مزيج من العذاب والحب.. في الوطن، ومن أجل الوطن.. لا لشيء، سوى أنّه (وطن)...

جانبُ العذاب المرّ الذي يُعانيه المواطن على أيدي (حُماة الوطن)، يأخذ الحيّز الأكبر من مساحة هذه المجموعة، حيث نجد الكاتب، في القصة الأولى (البحث عن وطن)، يكاد يشتُم اليوم الذي أخذه فيه أبوه إلى المدرسة، ليُصبح فيما بعد (مُثقّفاً)، يُريد أن يخدم وطنه، فلا يجد من حماة الوطن إلاّ السّجون والمعتقلات، لا لشيء سوى جريمتين: أنّه مواطن، وأنّه مثقف!. بعد خروجه من المعتقل، وما أكثر المرات التي خرج فيها من المعتقل، يتّخذ المثقف قراره بالخروج من الوطن، بحثاً عن وطن غيره.

وفي قصّة (الأشباح)، يرى القارئ المرارة التي تختلج في نفس الكاتب، وكأنّها جنيّة شمطاء تريد أن تمزّق الأحشاء التي تضمّها، فتمزّق بعد ذلك، أولئك الجلاّدين الذين أعدموا المثقّف. لقد أخذوه من بين زوجته وأولاده، وأوراقه، وأغلقوا عليه الزنزانة، وراحوا يُعذّبونه العذاب الذي يتمنّى معه الموت، ولكنْ أنّى للسّجين في معتقلات الوطن أن ينال أمنية، حتّى وإن كانت الموت!. لقد هدّدهم بأنّهم إن لم يكفّوا عن تعذيبهم فسوف يموت!، فتحدّوه أن يموت، وبعد أن عجَزَ، ظلّوا يُعذّبونه، وهم يقهقهون لعذابه، إلى أن مات تحت أيديهم.. ولم يكن كل ذلك لشيء، سوى أنّه مواطن، وأنّه مثقّف!.

أمّا قصّة (اللقاء الأول بالسيدة المعتصِمة) فهي ختام المرارة في المجموعة كلّها؛ حيث يصدّقُ المواطنُ الأيمانَ التي أقسم بها (زند النظام)، قريبه من جهة أمّه، فيرتّب له موعداً مع (السيدة المعتصمة) قريبته من جهة أبيه، ليتفاوض معها، خلال لقاءات عديدة، على (تسوية الخلافات)، استجابة لتوجيهات (الرائد العظيم "نظام الدّولة") الذي يمدّ يد المصالحة للمعارضة التي تنتمي إليها السيّدة المعتصمة.. وفي اللقاء الأول يمدّ زند النظام إحدى يديه ليشدّ السيدة المعتصمة من شعرها، ويمدّ اليد الأخرى ليقطع رأسها بساطور ضخم.. هنا يهيم الكاتب على وجهه، حيث "الشعر المشدود، والنظرة العاتبة، والرأس المفصول، والدم، والعويل، وشلال الدّم، كلها تخفق في خاطره"...

وإلى جانب كلّ ذلك، فقد ضمّت المجموعة قصصاً أخرى، بعدها ينضح، وبعضها يفيض، بأشكال المرارة التي يتجرّعها (المواطن) كلّ يوم، بل كلّ لحظة، في الوطن، ومن أجل الوطن.. وتلك القصص الأخرى هي (أحزان السابعة مساءً)، و(الليرة الذّهبية)، و(رجل وامرأة)، و(صرخة في عالم غير مألوف)، و(الدرس الأول)، و(الدّرّاجة)، و(دفاتر معطّرة)، و(اللوزينج!)، و(امرأتان).

من هذه المجموعة نختار القصّة الأولى: "البحث عن وطن"

 

البحث عن وطن

كلّ ما كان يَعِيْهِ أنه يجلس وراء طاولة مديدة، وفي حوزته كتابان: آخر ما صدر من تأليفه، ومرجع عام استعاره توّاً من مكتبة الجامعة. وتحت يده أوراق بيض، يخطّ في كلّ ورقة أسطراً نزقة، محاولاً التعبير بها عن ظُلامته، ثمّ ما يلبث أن يمزّقها، ليشرع في الكتابة من جديد.

وما كان ليُخامره شكّ قط، وهو في هذه القاعة وحيداً، في أنّه حرّ طليق. إلى أن مَثَلَ*** أمامه، فجأة، شاب طلْق المحيّا، تفرّس في وجهه لحظة، ثمّ انعطف نحوه بأدب جمّ، خُيّل إليه أنّه واحد من طلابه الأوفياء، وسأله:

"حضرتك المواطن "س"؟".

ـ نعم، يا عزيزي!

وإذا الشاب يصرخ به، وقد فارقه أدبه الجمّ كلّه:

"هيا امشِ قُدّاميّ!".

ولأنّ "س" كان يعتقد، حتى تلك اللحظة، أنّه لا يزال في إحدى قاعات الجامعة، فقد قال مستفسراً:

"ولكن كيف تسمح لنفسك، أيّها الفتى، بأن تُخاطبني بهذه اللهجة النابية؟".

فألوى الشاب عليه، جاذباً إيّاه من كتفه جذبة كانت كفيلة بأن تقتلعه من فوق كرسيّه:

"بلا عْلاك"! أقول لك: امش قدّامي!".

احتجّ "س": "ولكن.. من تكون، أيّها الرجل الغريب؟! ولماذا تعاملني بهذه الفظاظة؟! أنا.. موظف دولة، من الدرجة الأولى!!".

ـ امش! لا كبير عندنا إلاّ الجمل!

ـ لتعلَمْ إنّي أستاذ جامعي.. مواطن شريف..

ـ شريف؟! لو كنت شريفاً لما وصلت إلى هنا!

وراح يدفعه أمامه بغلظة مُهينة.

ـ طيّب، دعني آخذ كتابيّ!

ـ وتحمل أشياء ممنوعة؟!

حدّث نفسه: "أشياء ممنوعة"؟! فماذا لو عرف أنّي هنا، منذ الصّباح، أخطّ شكوى لأرفعها إلى المقامات العليا، احتجاجاً على تجاوز زملائي لمنزلتي الجامعيّة؟!

لم تسُؤْه كثيراً الألفاظ النابية التي صكّت سمعه، ولا المعاملة الفظّة التي يتلقّاها من هذا المأمور الصغير! ولا عجب لسقوطه المفاجئ في أيديهم.. فلقد سبق له أن وقع، غير ما مرّة، في قبضتهم، دونما سبب، وتعرّض لضروب من الإيذاء والمهانة.. وكانوا، في كلّ مرّة، يُطلقون سراحه بعد أن يخطّوا في سمعه كلمات اعتذار!

ولكنّ الدهشة الكبرى التي اعترته، مقرونة بالخجل العظيم، أنّه ألفى نفسه، بعد أن اقتيد إلى قاعة أخرى، مجرّداً من ملابسه! ومما زاد في استحيائه أن هذه القاعة كانت تعجّ بالناس وبالحركة!.. وتساءل عمّا إذا كان في حُلم؟ ثمّ أخذ يتحلّل شيئاً فشيئاً، من مشاعر الدهشة والخجل وهو يرى الآخرين، كلّهم، مجرّدين من ثيابهم، ومن كتبهم وأوراقهم وأقلامهم... فأدرك أنّ البلاء عامٌ، وأن العُري هنا سجن آخر!

وكان لا بدّ أن ينسى همّه الأوّل، ذلك الذي مزّق في التعبير الأول عنه غير قليل من الأوراق، وهو يرى النّاس يروحون ويجيئون. ولم تُسعفه ذاكرته في تعرّف أيّ واحد منهم، ليس لأنّهم عراة، ولكنْ لأنّ وجوههم بدت له متشنّجة، وكذلك أطرافهم، فهم يسيرون كالعناكب المنتصبة... وما شكّ في أنّه يبدو لأعينهم كذلك!

أخذ يُطَمْئِن نفسه: عندما يبدؤون باستجوابي سيتبيّنون إلى أيّ حدّ هم مخطئون بحقّي!

ثمّ تساءل: لو أنّ هذا، الذي تشهده عيناي، كان حلماً، لتحرّرتُ منه بالاستيقاظ!

اقترب منه أحدهم:

"إذن فقد أدخلت معك كتباً؟".

رأى "س" السائل كاسياً، فأسرع يجعل من كفّيه ورقة توت.

سَخِرَ الرّجل:

"انظروا! إنّه يخجل من أن يظهر أمامنا كما ولدته أمّه، ولا يخجل من "المخالفة".. يا للتّناقض!!".

ـ وهل حيازة الكتب تُعدّ "مخالفة"؟!

ثمّ رأى من كان خُيّل إليه أنّه واحدٌ من طلاّبه الأوفياء، يميل على هذا "المحقّق" ويسكب في سمعه كلمات... فيُتابع هذا سؤاله:

"وورقاً وقلماً أيضاً، وأخذت حريتك في الكتابة؟!".

ـ الحقيقة، لم أكن أظنّ أني في سجن.

ـ في الفيلا التي خلّفها أبوك!

ـ وماذا كنتَ تكتب؟

ـ ظُلامة.

ـ ظُلامة؟!.. وما هذه الظُّلامة؟

ـ هل أشرحها هنا، أم أتريّث حتّى أشرحها للمراجع التعليميّة؟

ـ ألسنا قدّ المقام؟!

ـ طيّب! فاسمح لي أن أبيّن لك أنّي أعلى الأساتذة مرتبة في القِسْم..

ـ "القسم"؟!

ـ عادة، الجامعة تتألّف من كلّيّات، والكليّة من أقسام...

ـ مفهوم، مفهوم.

ـ فأنا أقدم الأساتذة في القسم الذي أدرّس فيه وأعلاهم مرتبة. ومن مقتضى التقاليد العريقة في جامعات العالم بأسره، أن أكون رئيساً لقسمي. ولكنّ المخالفة لم تزل جارية منذ مدّة في أنّهم يُعيِّنون رؤساء للقسم من المدرِّسين الجُدُد، الذين هم من الطّلاب المتخرّجين على يدي، وأحياناً من طُلاب طلاّبي!!

ـ وما بهم طُلاّبك وطلاّب طُلاّبك؟ لو لم يكونوا الأفضل لما فضّلوهم عليك! ولكن ماذا كنت تكتب وأنت في قاعة الانتظار؟

ـ أكتب ظُلامتي هذه، لأقدّمها إلى أولي الأمر، التماساً للعدالة والإنصاف.

ـ عدالة وإنصاف؟! تعني أنّ بيننا ظلاّماً ومظلومين؟!!... خذوه!

لم يكد المحقّق يلفظ كلمته الأخيرة حتّى تقدّم مرافقه، وأخذ ذراعه فلواها، ثمّ سار به نحو باب يفضي إلى مكان آخر.

استسلم "س"، وقد أيقن أنّه في حلم خارق للعادة، ولكنّه عَجِبَ ألاّ يكون في مقدور الألم، الذي حلّ بذراعه، أن يضع نهاية لهذا الحُلُم السّخيف!

في القاعة الثالثة تعاونوا عليه، فحملوه، قبل أن يطرحوه في أعماق كرسيّ.. وجد نفسه فيه لا هو بالجالس ولا بالمستلقي، ولكن مرفوع الساقين إلى أعلى!

اختلس النّظر ممّا حوله. ومن خلال السّكون المريب، رأى صفوفاً متراصّة من مثل هذا الكرسيّ الذي أُلقي فيه. كلّ كرسيّ هو لِصْقُ الآخر، وفي كلّ منها "جثّة" لم يستطع أن يتبيّن منها سوى الجذع الغائص في أعماق الكرسيّ، والسّاقين العاريتين المرفوعتين، وأمّا الموضع من الجسم، الذي يُفترض أن الرأس ماثل فيه، فقد جُلّل بغطاء أسود... وكانت تصدر عن هذه الأجساد اختلاجاتٌ صغيرة أكّدت أن أصحابها لا يزالون على قيد الحياة!

فجأة سقط على رأسه غطاء، بدا له غليظاً، حتّى أنّه أوشك أن يختنق دونه. إلاّ أنّهم سرعان ما عالجوه، فأتاحوا لقليل من الهواء أن ينفذ إلى منخريه. وفيما بدأ جسمه يختلج اختلاجة أولئك الرّجال، وأحسّ بالأمْرَاس تلتفّ حوله وتشدّه إلى كرسيّه شدّاً، وبدافع من الغريزة العمياء، أخذ يسحب، عبر فتحات هذه العمامة الغليظة، أنفاساً صغيرة منتظمة.

فكّر: بعد سجن العُري، يطويني سجن العتمة... يا لها من سلسلة سجون لا تنتهي!

وتساءل: ولكن لماذا أنا هنا؟ كيف وقعتُ في أيديهم؟ كيف أمكن أن تتحوّل قاعة البحوث الجامعيّة التي كنت فيها، إلى مكان للمراقبة أو التوقيف؟! لماذا يستنطقني أفظاظٌ أغبياء؟ لَيْتَهُمْ يُلقون عليّ سؤالاً واحداً يتوافق والمنطق؟ أين هم المحقّقون الأكفاء؟ لماذا قُدّر على المواطن أن يخضع مرّة بعد مرّة، في اليقظة وفي الحلم، لهذه "الإجراءات" الغريبة؟ لماذا يقع ذلك كلّه في وطني الحبيب؟!!...

ـ من أنت؟

سؤال آخر يتسلّل إلى سمعه عبر العمامة:

ـ أنا المواطن "س"!

فكّر: كم مرّة يتعيّن على المواطن الواحد أن يعرّف بشخصه في المكان الواحد؟!

ـ المهنة، من فضلك؟

لم يجد الصوت فظّاً.

ـ أستاذ جامعيّ.

أمر المحقّق:

"فكّوه!".

قرأ "س" في الوجه بشاشة ما.

ـ ما الذّنب الذي اقترفتَ؟

ـ لا أدري.

رقّ الصّوت: "وماذا تدرّس في الجامعة، أيّها الأستاذ الجليل؟".

ـ فلسفة، منطق، رياضيات... ألم تكن في عِداد طُلاّبي؟ ألم يتّفق لك أن استمعت إلى محاضرة لي؟

كانت أوصاله قد تحرّرت. مدّ الرّجل نحو ساعده، وأنهضه من ضجعته... ثمّ شدّ على يده مُصافحاً، وهو يخطّ في سمعه كلمات اعتذار: "لا تؤاخذنا، أستاذ، إن كنّا أخطأنا في حقّك".

ثمّ رآه يلتفت إلى زملائه: "علماء أفذاذ، ودون جرائم واضحة أو فاضحة؟!... كفانا "بهدلة" يا ناس!!!"

°   °   °

وجد المواطن "س" نفسه يتّجه نحو بيته، ساعة الفجر، سيراً على القدمين. بدت له المسافة طويلة طويلة. كان عارياً لا يزال، فهم لم يعثروا على أيّ قطعة من ملابسه!

طوال الطريق كان يُفكّر: لابدّ من الرّحيل! لم أعد أُطيق العيش في وطني!

وما كان للطريق الطويلة أن تنتهي. ولكنّه ألفى نفسه، فجأة، وقد فرغ من تدوين تفاصيل هذا الحلم الغريب... مختتماً إيّاه بعبارة: "لم يعد بدّ من أرحل عن وطني الحبيب!".

وأودع الأوراق في حِرز حريز.

°   °   °

سألوه، والأوراق بين أيديهم، عمّا إذا كان الخطُّ خطّه؟

اعترف:

"نعم، أيّها السادة، الخطّ خطّي، وإن كان مغفلاً من التوقيع".

وأخذوا يقرؤون، على مسمعه، تفاصيل الحلم المدوّن... وترنّموا بالعبارة الأخيرة: "لم يعد بدّ من أن أرحل عن وطني الحبيب!".

ـ إذن، فأنت، أيّها المواطن "س"، كاره لوطنك، الذي تُسمّيه "حبيباً"؟!

ـ عندما يُضطَهد المواطن الحبيب، يكفّ الوطن عن أن يكون حبيباً، يصبح بلداً من البلدان ليس إلاّ! ما فعلته، أيّها السّادة، أني كتبتُ ما وقع لي، فور وصولي إلى البيت عارياً... عفواً، أردت أن أقول: كتبته عُقيب استيقاظي من ذلك الحلم الكثيف!

ـ ولكنك تعلم، وأنت الأستاذ المتخصّص، أنّ أحلام الليل لا تعدو أن تكون صدى لما يعتمل في النّفس ساعاتِ النّهار!

فكّر: ويعرفون فُتاتاً من علم النّفس أيضاً!

ـ ألم يقع لك أنّا اقتدناك إلى السّجن قبل هذه المرّة؟

ـ سبع مرّات، قبل هذا، أيّها السّادة!

ـ وأنّك أُهنت، في كلّ مرّة، أو عذبت، قبل أن يُعتذر إليك بلباقة؟

ـ ....! ....! ....!

ـ فهذا الحُلُم... أو لندع الحُلُم جانباً، فهذا العزم منك: الرّحيل عن الوطن، هو عين ما تريد في يقظتك!

وساوره الإحساس بأنّه في حُلُم كثيف آخر.

°   °   °

أطلقوه مرّة، ومرّة، ومرّات لا عداد لها... وكانوا يخطّون في سمعه، في كلّ مرّة، كلمات اعتذار... ثمّ ما يلبث أن يجد نفسه في قبضتهم مرّة أخرى.

التبست عليه الأمور. سواد الليل يدخل في بياض النّهار. وما عاد يدري: أهو حلم متواصل؟ أم أنّه الواقع الشبيه بالأحلام؟!

°   °   °

يعتزم الرّحيل.

يبحث عن وطن.