ابن تيمية في الميزان

مصطفى محمود علي

مصطفى محمود علي

كتاب (ابن تيمية في الميزان) ذلك الكتاب الذي أربك الأوساط السلفية التكفيرية، وقطع ألسنة أبواق الوهابية، والقوم الكاذبين المخادعين!

   يقول المؤلف: إنَّ (ابن تيميـة) فقيه كبير، وقد صدر عنه ما يصدر عن غيره من أخطاء وسوء تأويل .. وأنه عاش حياةً عريضةً أشبه ما تكون بقصة محكمة مثيرة للخيال، وقادرة على التجوّل في كل العصور! ولولا حدَّته وتبرُّمه وتسرُّعه وضِيق صدره؛ لكان من عباقرة التاريخ!

و(هذا الكتـاب) كلمة حق، وشهادة للتاريخ، لإنصاف "ابن تيمية" من فريقيْن متنافريْن ومتناحريْن:

(الفريق الأول) خصومه وشانئيه؛ المملوءة قلوبهم بالكراهية، والمشحونة صدورهم بالبغضاء! و(الفريق الآخر) الجامدين الهامدين المحنَّطين؛ الذين يزعمون أنهم ينتسبون إليه، ويسمُّون أنفسهم بـ(السلفيين) بلْ هم (الخَلَفيين) ولكن لا يشعرون!  

*   *   *

    كتاب (ابن تيمية في الميزان) لأسد الله القوصي؛ الصادر عن مكتبة جزيرة الورد، ليس مجرد نقد لآراء فقيه سلفي عاش في عصر المماليك، وأشعل الفتن، وأشهر سلاح التكفير في وجه مخالفيه، وأنكر ما هو معلوم من الدِّين بالضرورة، وخرج على إجماع الأمة، وولغ لسانه في أعراض العلماء، ومزق وحدة الأمة، وقسَّمها إلى سلف وخلف، وفِرق ناجية، وفِرق هالكة ... ليس هذا هو غاية هذا الكتاب الجبَّار فحسب؛ بلْ هو أول كتاب يتناول جميع القضايا التي تعرض لها الفقيه السلفي المتعصِّب/ ابن تيمية- كموقفه من الفلسفة والفلاسفة، والمنطق والمناطقة، والتصوف والصوفية، والأشعري والأشاعرة، وسائر المذاهب الأخرى التي رماها بالكفر والزندقة! وكذلك موقفه المتطرف من أهل الكتاب، وكراهيته لأهل بيت النبيّ عليه السلام، وتحامله على فاطمة الزهراء، وبغضه  للحسن والحسين، وتحقيره للإمام عليَّ بن أبي طالب، واتهامه لابن عباس بالجهل والضلال! فضلاً عن فتاواه الفاسدة التي نقض فيها الاجماع، كتحريمه لزيارة الروضة الشريفة، وإنكاره المجاز في القرآن الكريم، وقوله بزوال الجنة والنار!

  فمع كثرة عِلم ابن تيمية، وشدَّة غيرته؛ إلاَّ أنه تنكَّب السبيل الدعوي الصحيح، وغابت عنه الحكمة والموعظة الحسنة، فسقطت البوصلة من يده، وضلَّتْ السفينة طريقها!

 فأيقظ الفتنة النائمة، وأحيا المنازعات التاريخية، وعمّق الصراعات المذهبية، وأكثر الخلاف فيما لا طائل منه، وألهبَ جذوة المذاهب، وجزأ المجزأ منها، ورمى مخالفيه بالكفر والإلحاد والزندقة، وأشعل الحرائق التي لمْ تنطفئ!

هذا الكتــــاب؛ يكشف مأزق العقلية السلفية، والجهل الذي ران عليها، والتعصب المقيت الذي ابتليتْ به؛ مما أفقدها توازنها، وجعلها غير قادرة على التكيف مع الحياة العصرية!

هذا الكتــــاب؛ يخلص إلى أنَّ (ابن تيميـة) شخصية محيِّرة؛ وقد يصل الأمر إلى حد التناقض! لدرجة أنَّ أيّ مذهبٍ أوْ فِرقة أوْ جماعة تجد عنده ضالتها وبغيتها!

 فهو العالِم الحنبلي الصوفي، والعقلاني السلفي، والفيلسوف الأشعري، والزاهد الفارس، والمجدِّد المحافظ، والعابد المصارع، والثائر الفقيه، والمجاهد الذي غلبه الورع!!

 أجل! إنه الأصولي، الذي أنكر ما هو معلوم من الدِّين بالضرورة، كقوله بفناء النار!

 إنه الحنبلي، الخارج على الحنابلة ومذاهبهم!

إنه أعدى أعداء الفلسفة، و فيلسوف السلفية الأكبر!

هو الذي أطلق الكفر على مخالفيه، والقائل: لا يجوز تكفير أحد من أهل المِلَّة!

هو الداعي لعدم التمذهب، وهو المتعصِّب جداً لمذهبه!

هو الذي نازل الأشاعرة وخاصمهم، وهو الذي اعتبرهم فرع من الحنابلة!

هو الذي حرَّر النصارى من أسر التتار، ثمَّ أفتى بهدم كنائسهم!

هو العالِم اللغوي الجهبذ، وهو الذي تنكّر لأساسيات اللغة، كالمجاز!

هو الذي حارب المنطق بضراوة، ثمَّ استخدم المنطق كسلاح يضرب به خصومه!

 هو الذي حارب الصوفية، ثمَّ وصفهم بأنهم صدِّيقو الأمة، وأوصى بأنْ يدفن بمقابرهم!

هو الذي كفَّر الفلاسفة؛ ثمَّ اعتبرهم أفضل البشر أخلاقاً وعلماً بعد الأنبياء!

هو مستشار الحكّام وناصِحهم، وهو الذي ناله منهم ما ناله من البلاء!

هو الفقيه المجدِّد، وهو العقبة الكئود في وجه المجدِّدين!

*   *   *

يقول المؤلف –يحفظه الله-: من يتأمل كتابات (ابن تيمية) ومقالاته، ورسائله؛ يلمس فيها التكرار، والتضارب، والتناقض، والرد العنيف، والرد المضاد، واستخدام مختلف الأسلحة لمجابهة خصومه، وحشد الأدلة والشواهد بصورة مرعبة!

 وهذا يكشف أنه كتبها في أوقات عصيبة، فجاءت بمثابة ردود فعل عنيفة، ومناظرات حادَّة، ومجادلات ومصادمات مع مخالفيه، أوْ مع ما لا يقبله من سلوكيات وأفكار وآراء ومسائل علمية وفقهية وفلسفية! مثل: "الجواب الصحيح لمن بدَّل دين المسيح"، "الصارم المسلول على شاتم الرسول"، "نقض المنطق"، "الرد على المنطقيين"، "بيان تلبيس الجهمية"، "بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية"، "درء تعارض العقل والنقل"، كتاب "الإيمان" الذي أنكر فيه وقوع (المجاز) في القرآن الكريم، "منهاج السنَّة النبوية" الذي خصصه للرد على كتاب ابن المطهَّر، "الرسالة التدمرية" في الرد على الأشاعرة، إلى غير ذلك من كتبه ورسائله!

*   *   *

  وبعد غياب طويل؛ أطلَّ (ابن تيمية) مرة أخرى! فانقسم الناس في أمره إلى فريقيْن: فريق: رماه بالشذوذ في الأقوال، وخَرْق الإجماع، بلْ كفَّروه، ولعنوه! بلْ وحمّلوه عبئاً ليس بالقليل مما وصلت إليه حالة الفكر الإسلامي من الانسداد والعجز والتراجع المذهل!

 وفريق آخر؛ زعم أنه وريث مذهبه، ونصير منهجه؛ أولئك الذين تسمَّوا بـ(السلفيين) فأساءوا إليه أبشع إساءة، بلْ صنعوا بينه وبين الناس حاجزاً نفسياً مريراً، وسداً منيعاً كسد يأجوج ومأجوج، وسوراً رهيباً كسور الصين العظيم! وذلك حين عرضوا فكر الإمام وفقهه بصورة مرعبة، ومنفِّرة!

   إنَّ الخطأ الجسيم الذي وقع فيه المغفَّلون من الأعراب؛ أنهم رجعوا بعقولهم إلى العصر المملوكي (عصر ابن تيمية)! وأقسموا ألاَّ يبرحوه ولوْ تخطفتهم الغربان، ونهشتهم الأفاعي! وظنوا ظن الجاهلية؛ أنَّ كلامه دِين، ورأيه مقدَّس! فراحوا يتعبدون بكتاباته الصادمة، والمتناقضة، لاسيما التي تجاوزها التاريخ، وتخطَّاها الزمن؛ مثل: "نقض المنطق"، "الرد على المنطقيين"، "بيان تلبيس الجهمية"، وغيرها مما واكب أحداثاً بعينها.

  لقد تناسى هؤلاء الأعراب؛ أنَّ (الإمام) مثَّلَ عصره بكل تحدياته أحسن تمثيل، واجتهد لعصره ما وسعه الاجتهاد. لكنَّ عصره لا يطابق عصرنا، فبالتالي قد لا تتطابق آراؤه وأحكامه مع واقع ومعطيات عصرنا الذي استجدَّتْ فيه آراء وفلسفات أخرى.

  ففي عصره؛ كانت الأمة مشتبكة في حروب طاحنة مع التتار؛ فأكثر من فتاوى الجهاد, ولعلّ هذا السبب كان وراء هجومه علي الصوفية؛ لأنهم تركوا مواقع الجهاد وتفرغوا لأحوالهم ومواجدهم وأعمال القلوب، ولم يكن هذا ما تقتضيه المرحلة.

  إنَّ كثيراً من تلك الخراف الضالة، لمْ تفهم كلام (الإمام) كما ينبغي! بلْ فهموه على غير وجهه تارة، واجتزءوه تارة أخرى؛ ففي مسألة الولاء والبراء -علي سبيل المثال- راحوا يعلنون براءتهم من بعض المسلمين، ومن غير المسلمين على الإطلاق, لكنهم لوْ تدبَّروا لعلموا أنَّ (الإمام) أعلن التبرؤ فقط ممن يتخذون مواقف عدائية ضد الإسلام والمسلمين!

*   *   *

   يقول المؤلف: يجب الاستفادة من فقه (ابن تيمية) وانتقاء ما يصلح لعصرنا، وليس ما صلح لعصره. وعلينا أن نحارب العقول الخاملة، والنفوس الهامدة؛ ذات الأفكار والعادات الراكدة!

 ولنعلم أنه إذا كان الله تعالى، منحه العقل والعلم؛ فقد منحنا –سبحانه- العقل والعلم. فلا داعي لتعطيل السمع والبصر والفؤاد؛ حتى لا نكون ورثة سفهاء!

  خلاصـة الخلاصـة؛ إنَّ تراث (الإمام) ثري للغاية، وله تأثير بالغ على حالة الأمة، وعلينا أنْ ننبِّه إلى أنه على الرغم مما فيه من الفتوحات والإشراقات الروحية؛ إلاَّ أنه مملوء بالأخطاء الفادحة، المجافية لسماحة الإسلام ومرونته، والمخالفة لروح الشريعة وجوهرها، وقد بدتْ هذه الأخطاء واضحة للعيان في كتاباته الأولى التي كتبها في شبابه الباكر، حينما هاجم الفلاسفة والمناطقة، والأشاعرة والمعتزلة والصوفية، وغير ذلك من الفِرق والمذاهب؛ حين أسرف في نقده إلى الحد الذي أفقده الموضوعية، وحاد به عن الصواب، لدرجة أنه رماهم بأقذع الألفاظ وأشنعها، حتى أخرجهم من المِلَّة!

ولعلَّ الظروف السياسية السائدة في عصره، والحالة النفسية التي كانت تعتريه، وحياته التي قضاها ما بين المنافي والسجون؛ ألقتْ بظلالها على آرائه وأفكاره واجتهاداته ومؤلفاته ..!

 لذا؛ فقد نقض أكثرها، وتراجع عن أغلبها، وتخلى عن معظمها، وقد حدثت ثورة التغيير هذه؛ في سجنه الأخير بالقلعة ... فقد نفض الدنيا عن كاهله، وخلا بربِّه، فهدأتْ سريرته، وصفتْ نفسه، وتهيأتْ للتجليات القدسية، والفيوضات الإلهية ... فراجع صفحته، وصحَّح مسيرته، وتصالح مع نفسه، ومع خصومه ... فألَّف (داخل السجن) أفضل كتاباته وأعمقها، ألاَ وهي (الفتاوى) التي نقض فيها آراءه السابقة، وهدم بها كثيراً من كتاباته التي كانت (خارج السجن)!

  لذا؛ ينبغي على القارئ لابن تيمية أن يميز بين كتاباته الأولى (خارج السجن) وكتاباته الأخيرة (داخل السجن)!

(خارج السجن) هي مراحل الشباب، والفتوة، والصولات والجولات والمعارك الفكرية، والمبارزات الكلامية؛ التي يغلب عليها روح الانتقام، والغلبة، والتطفيف!  

(داخل السجن) هي مرحلة الرشد، والتفكير العميق؛ والصفاء والتأمل، والبحث عن الحقيقة!

  يتساءل المؤلف: لماذا لم يقلْ (ابن تيمية) بأنه أخطأ في مسائل كذا، ورجع عن كذا، كما فعل كثير من العلماء والكتَّاب في مختلف العصور؟

 ويجيب؛ كان من الواجب على (شيخ الإسلام) أن يعترف بأخطائه، ويعتذر عما جانبه فيه الصواب! لكنه –من أسف- لم يفعل!

 ربما لأنه دخل في رحم المعارك، فلمَّا أراد الخروج منها لمْ يستطع! فظلتْ الثورة ملازمة له حتى في داخل السجن.

 أوْ ربما كره أن يعتذر لخصومه الألدَّاء صراحةً، لاسيما بعدما لعنهم، وأخرجهم من الملَّة!

أوْ ربما كان (الإمام) يتفاعل مع اللحظة التي يعيشها فقط، وينسى ما قاله من قبل! بسبب الحالة النفسية التي كانت تعتريه -رحمه الله! 

  وقيل: إنه تراجع عن حدَّة الشباب، والتعصب المذهبي، والاندفاع في إصدار الأحكام؛ لكنَّ رجوعه كان بطريقة غير مباشرة، حين ولَّى وجهه شطر الاعتدال والوسطية الجامعة؛ نلمس ذلك في قوله –رحمه الله: "علينا ألاَّ نكفِّر أحداً من أهل القِبلة، فالمسائل التي اختلف فيها، مثل: أن الله تعالى هو عالم بالعلم أو بالذات؟ وأنه تعالى هل هو موجِد لأفعال العباد أمْ لا؟ وأنه هو متحيّز؟ وهل هو في مكان وجهة؟ وهل هو مرئي أمْ لا؟ فلا تتوقف صحة الدِّين على معرفة الحق في هذه المسائل؛ إذْ لوْ كانت معرفة هذه الأصول من الدِّين، لكان الواجب على النبيّ أن يطالبهم بها، ويبحث عن كيفية اعتقادهم فيها، فلمّا لم يطالبهم بهذه المسائل، بلْ ما جرى حديث عن هذه المسائل في زمانه عليه السلام، ولا في زمان الصحابة والتابعين. إذن؛ لا تتوقف صحة الإسلام على معرفة هذه الأًصول". وقال –رحمه الله-: إنَّ المسائل الكلامية والفلسفية، اجتهادات لا تعدو أن يكون الخلاف فيها لفظياً فقط! فالكل يشيرون إلى معبود واحد، وإنما هذا كله اختلاف العبارات، فلا يجوز تكفير المسلم بذنبٍ فعله، ولا بخطأ أخطأ فيه. وقال: إنِّي أقرر أنَّ الله قد غفر لهذه الأمة خطأها، وذلك يعم الخطأ في المسائل الخبرية القولية والمسائل العملية. وما زال السلف يتنازعون في كثير من هذه المسائل، ولمْ يشهد أحد منهم على أحد لا بكفرٍ ولا بفسقٍ ولا بمعصية!

  رحم الله أبا العباس/ أحمد بن تيمية- الذي مازالت كنوزه دفينة في حاجة إلى تسليط الأضواء عليها .. فلا يجوز تجاهلها أوْ الغض من قيمتها، كما لا يجوز التحامل على (الإمام) أوْ التوجس منه؛ باعتبار أنَّ أكثر الداعين إلى مذهبه، من ذوي القلوب الغلْف، والآذان الصُّم، وضحايا الأفكار الراديكالية، وكناسة البشر؛ فلا يصح تحميل (الإمام المجتهد الفذ) أوزار الحمقى والمجانين، والمغفَّلِين من الأعراب!