حرق المصحف في السويد… العبث الذي لا ينتهي

إحسان الفقيه

في الوقت الذي تهرول فيه الدول العربية والإسلامية إلى طمأنة الغرب بتمسكها بقيم التسامح والتعايش السلمي والتلاقي على المبادئ الإنسانية، يصرّ الغرب على إظهار عنصريته وتناقضه القيمي، وتنكره للشعارات التي يرفعها.

القرآن الكريم هو أسمى مقدسات ملياري مسلم، تربو قدسيته لديهم على الحرمين والأقصى، لأنه كلام الله المنزّل، الذي يتخذونه منهاجا لتسيير حياتهم، وانتهاك حرمته جريمة كبرى بالنسبة إليهم، وعلى الرغم من أن تقديس المسلمين للقرآن لا يخفى على أحد من البشرية، إلا أنه يتعرض للإساءة العلنية من آن لآخر، كان أقربها سماح السلطات السويدية، لزعيم حزب الخط المتشدد الدانماركي اليميني المتطرف راسموس بالودان، بحرق نسخة من المصحف الشريف أمام مبنى السفارة التركية في استوكهولم، من دون اعتراض من قوات الأمن السويدية الموجودة في الموقع، وذلك بعد أن حصل على إذن بتنظيم مظاهرة بالقرب من السفارة التركية، وسط احتجاجات ذات صلة بتعثر مساعي السويد إلى الانضمام للناتو. الخطورة الفادحة في الأمر، أنه تم بعلم السلطات السويدية، وتحت سمعها وبصرها، بما يقطع الطريق على توصيف الحدث بأنه عمل فردي عنصري لشخص متعصب، ويزيد من فداحته، أنه رجل سياسي حزبي في بلاده، أي شخصية مسؤولة تمثل بلدها. ويهمني في هذا المقام، الإشارة إلى أمرين متعلقين بهذا الحدث.

 

الأول: هو موقف التغريبيين والعلمانيين العرب، الذين يحاسبون الإسلام على كل ممارسات خاطئة يقوم بها المسلمون، وتمثل مظهرا من مظاهر التشدد والتطرف، ويحمّلون المنهج الإسلامي مسؤولية هذه الأخطاء، أتساءل أين هم من هذا الحدث؟ لماذا لا نسمع لهم ذلك الضجيج والعويل عندما يتعلق الأمر بالتطرف الغربي؟ هؤلاء المختطفون بوهج الحضارة الغربية، يرون كل جميل في الغرب، وكل قبيح في أمتهم، يعتذرون عن مثالب الغرب، كما لو كانوا جزءا منه، ويطنطنون حول كل مثالب أمتهم كما لو كانوا ليسوا من تربتها، يغردون دائما خارج السرب، يعيشون في واد غير واد جماهير الأمة. لقد لفت انتباهي ضمن الموقف التركي القوي تجاه الواقعة، موقف زعيم حزب الشعب الجمهوري العلماني، الذي يمثل ميراث العلمانية، التي أرساها مصطفى كمال أتاتورك، حيث سار زعيم الحزب كليتشدار أوغلو على النسق نفسه الذي سارت عليه حكومة بلاده بكل أحزابها وقطاعاتها وشعبها، في استنكار هذا العمل الإجرامي المستفز، وصل إلى استدعاء الخارجية التركية السفير السويدي في أنقرة وتحذيره، وإعلان وزير الدفاع التركي خلوصي آكار عن إلغاء زيارة مقررة لنظيره السويدي مقررة بعد أيام. زعيم الحزب العلماني كليتشدار أوغلو، لم يحد عن موقف بلاده، وكتب على حسابه على تويتر يقول: «نعلم جيدا الغرض والهدف من هذا التصرف الدنيء، الذي يمس مشاعر مليارات المسلمين، أدين هذه الفاشية، التي هي ذروة جريمة الكراهية». هو رجل علماني، يحترم القيم الإنسانية، ويحترم مشاعر مجتمعه، وهذا أمر توافقت عليه كل القوى السياسية في تركيا، مع اختلاف أيديولوجياتها إسلامية كانت، أم علمانية أم قومية، فهو أمر بشع مرفوض من كل الجهات.

هذا النضج ينأى عنه العلمانيون والتغريبيون في بلادنا العربية، وهذا ما يجعلهم دائما في شقاق مع الجماهير، لا يعبرون عن همومهم أو تطلعاتهم أو قضاياهم، فهم يكتفون بخوض معارك فكرية مع المنهج الإسلامي فحسب، بذريعة أن إقصاءه وتهميشه هو سبيل الرقي والتقدم على خطى الغرب نفسها.

الأمر الثاني، هو الموقف الرسمي العربي تجاه حرق المصحف الشريف، وحقيقةً هناك موقف موحد للحكومات والأنظمة العربية، تمثل في الشجب والاستنكار، ولم تضن أي دولة بالبيانات التي صدرت على ألسنة مسؤولين رفيعي المستوى، تنديدا بهذا العمل الإجرامي، وهو أمر جدير بالإشادة حتما. لكن مع ذلك، موقف الشجب والاستنكار لا يكفي كرد على هذا الحدث الجلل، الذي يتعلق بأمة كاملة تتفق على تقديس وتنزيه هذا الكتاب، فلم تكن المرة الأولى التي يحرق المصحف الشريف على هذا النحو من قبل المتعصبين في الغرب، وفي كل مرة يتم شجب واستنكار هذا العمل، من دون جدوى، ليس ذلك رادعا كافيا لأن يحترم الغرب مقدساتنا، وسوف يظل هذا العبث طالما أن ردة فعلنا تقف على بيانات شجب واستنكار لا تسمن ولا تغني من جوع. لا بد من أن ترقى مواقف الأنظمة لتطلعات الجماهير الغاضبة، لا تكتفي بالشجب، بل ينبغي أن تكون هناك قرارات مسبقة تتخذ على الصعيد الرسمي حال تكرار هذا الجرم. على سبيل المثال لا بد من افتعال أزمة دبلوماسية تجاه الدول التي يحدث فيها هذا العبث، بسحب السفير، وطرد سفير الدولة التي احتضنت الجرم، وربما يتهكم البعض حيال ما يكتب هنا، وأجزم أن هؤلاء قد تثور ثائرتهم ويطالبون بالشيء نفسه، إذا تم حرق دستور بلادهم بهذه الطريقة، أو يتم سب رئيس دولتهم على وسائل الإعلام الغربية، لكننا هنا نتحدث عن أقدس المقدسات لدى المسلمين، هل سيتم اعتبار الدفاع عنه ضربا من التطرف الفكري هو أيضا؟! ومن جهة أخرى وبنظرة سياسية محضة، هي إهانة لحضارة الشعوب العربية، ونيلا من هويتها الثقافية، واستمراء مثل هذه الممارسات فيها تأكيد على انعدام وزننا لدى الغرب، وهذا ما لا يقبله أي عربي أو مسلم.

كنت أود أن أذهب إلى أبعد من ذلك وأقول إن الأمر ينبغي أن يصل إلى إجراءات رادعة في العلاقات التجارية والسياسية، لكن يبدو أنه أبعد عن الواقعية، في ظل الوضع الصعب والانبطاح الذي نعيشه في علاقتنا مع الدول الغربية، لكن لا أقل من غضبةٍ مدروسة تجاه مثل هذه التجاوزات، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.