سورية: إسلاميون وعلمانيون
كسر النمط ...
سلبية الماضي.. وضرورة الحاضر.. وأمل المستقبل...
زهير سالم*
لتركيز الأفكار وتوظيفها ستكون سورية هي المجال العملي لهذا المقال. وتوهج الثورة السورية ربما يعطي للمقال بعدا أكثر حيوية. والصراع الممتد الآن في مصر يعطي طرح هذا الموضوع بعدا أكبر. ففي حين ينهمك الشعب السوري في الصراع مع النظام هل يمكن مصادرة عوامل الخوف والتخويف بين الإسلاميين والعلمانيين؟!
كثيرا ما قرأنا وسمعنا من يطالب (أصحاب المشروع الإسلامي) في سورية بالقيام بمراجعات، والاعتراف بأخطاء، وتقديم تطمينات كل هذه الطلبات مشروعة ومفهومة ومعتبرة؛ ولكن وماذا عن الآخرين أيضا؟! ماذا عن الذين حكموا وتحكّموا منذ ما يقرب من القرن؟! ليس السجال من غرض هذا المقال. وليس من غرض هذا المقال فتح أوراق الماضي، فالمفلسون وحدهم هم الذين يغرقون في الماضي. ومن كان عنده ما ينجزه اليوم تجاوزَ ما كان بالأمس. وأيقن أن ( لو ) تفتح عمل الشيطان.
غرض هذا المقال أن يقرر أننا جميعا ( إسلاميون وقوميون وعلمانيون ) مطالبون بالمراجعات والتقويم، وإعادة تقديم الذات . مطالبون بذلك لقطع الطريق على طروحات المستبد الصغير أولا وهو يحاول أن ينفخ في نار العدواة بين العلمانيين والقوميين من جهة والإسلاميين من جهة أخرى. ومطالبون بذلك ثانيا لنستلهم روح الثورة، ولنكون قادرين على السير في ركابها، ولنستمد مدادنا من بعض أرجوان شهدائها.
في وطننا إسلاميون وعلمانيون نعم، ونحن مختلفون بكل تأكيد، وأعتقد أن اختلافنا يقوم على العديد من المفارقات الموضوعية وهذا يجب أن نعترف به. ولكن مع هذه المفارقات الموضوعية للاختلاف ( الإسلامي – العلماني ) هناك على ما أعتقد حجم كبير من سوء الفهم، وبؤس الطرح في التعرف والتعارف بين أولئك وهؤلاء.
على صعيد الإسلاميين فإن البعض قد اختصروا العلمانية (المفهوم والمضمون) بالكفر . والرغبة عن دين الله. لن أدخل الآن في المحددات الأساسية لهذا الفهم، وإن كنت أستطيع أن أشير سريعا إلى شيء من القصور المعرفي، وأشياء من شخصنة المفاهيم، والإسقاطات السلبية، وخطف العناوين الطائرة، والتوقف عند العبارات المستفزة، واستعراض إرث من تاريخ مشوه صنعه قادة مستبدون. قادة حكموا باسم العلمانية وكانوا ممن يتوسل بحبل المشنقة وسوط الجلاد والاستئصال والإقصاء ومحاكم التفتيش وصكوك الحرمان العلماني، دون أن ننسى بالطبع اللهجة الاستعلائية والاتهامية التي مازال البعض يستعملونها مع خصومهم بل مع عقائد مخالفيهم مما يتسبب بالإساءة ليس إلى أنفسهم فقط بل إلى المفهوم الذي يمثلون.
وعلى الجهة الأخرى نجد أن بعض العلمانيين يتحدثون عن شريعة إسلامية مرتسمة في أذهانهم لا يدركون من أمرها إلا القليل. ونجد فريقا آخر يختصر الشريعة بعنوان أو فتوى اختطفها عن لسان متحدث مغمور أو مأزوم، أو من سطر كتاب الرأي فيه مرجوح. وفريقا ثالثا يجد في ( العلمانية ) هذا العنوان العصري غطاء لما ينغمسون فيه من نزوات وليس عنوانا للحرية والمسئولية والاحترام لإرادة الإنسان.
ولن يكون حال العلمانيين في الربط بين الإسلام وبين ما تعودوا أن يطلقوا عليهم ( رجال الدين ) – المصطلح الذي يحمل شهادة المنشأ لأفكارهم – أفضل حالا من حال أولئك الذين يربطون العلمانية بنماذج الاستبداد والفساد في العالم العربي.
إن من مفاهيم الثورة أن تخوض الأمة مشروعا لإعادة التشكل النفسي والمعرفي والسياسي قبل أن يتم ذلك على صعيد السلطة والإدارة.
لقد اعتقدت دائما وما زلت أعتقد أن تصحيح المعارف التي اكتسبناها أكثر أهمية من اكتساب معرفة جديدة. المعلومة الخاطئة عن العقائد والأفكار والهيئات والأشخاص كالفيروس في جهاز الحاسوب يعيقك أحيانا، و يضللك أحيانا أخرى.
إن الثورة التي نعيش تحفزنا جميعا إلى إعادة قراءة الأفكار. مطلوب من العلماني أن يعيد الاقتراب من كلي الشريعة اقتراب مستأنس بمقاصدها وحيويتها وآفاقها. ليدرك أن هذه الشريعة التي منها ينفر تشكل الضمير الجمعي للمجتمع الذي يعيش فيه .ومطلوب من الإسلامي أن يقارب الوجه الجميل لمفاهيم الحرية والتعددية والتشاركية. أن يتفهم جمالية المدينة المعولمة. وأن يكون أكثر تفحصا للمضامين وأن يتوقف عن الرفض لمجرد العناوين. لكي نعرف أهمية الاعتراف بالآخر علينا أن نجرب أن نكون هذا الآخر في بعض بلاد الناس.
إن ضرورة الانتصار في الحاضر الذي يصنعه شعبنا تقتضي مقاربات عملية لفهم أفضل للمقاصد التي نسعى إليها جميعا أو التي يسعى إليها كل فريق.
المنهج القرآني كما المنهج العقلاني يناديان علينا بأن نبدأ بتثبيت المشتركات، وتعظيمها، واستيعاب المفارقات باللقاء على الحد الأدنى من الكلمة السواء.
وحين يفهم البعض المشروع الإسلامي على أنه مشروع تاريخي ماضوي يريد أن يعود بالمجتمع إلى أنماط عيش وسلوك غبرت، ويفهم آخرون أن المشروع العلماني هو مشروع لإخراج الناس من دينهم وإكراههم وإكراه أبنائهم وبناتهم على ما لا يختارون من العقائد والأفكار وأنماط السلوك؛ فإنه سيكون هناك الكثير مما يحتاج إلى التصحيح وحسن المقاربة. ها هنا نمطان متكلسان بحاجة إلى معول أبينا إبراهيم.
في عصر الحداثة و ما بعد الحداثة ما تزال النخب المثقفة في عالمنا تحاصرنا في ثنائيات عصر التنوير وأنماطه المتصلبة وقوالبه الجاهزة!! هل لنا أن نتساءل : من جعل هذا الثنائيات سجنا يحاصرنا؟ وخندقا يفصل بيننا؟!
بين مفهوم الإنسان الحر بلا غرور والإنسان المختار المسئول ما أكثر الجسور التي ستساعدنا على العبور إلى مستقبل وطني لا يلغي الثوابت و يفتح الآفاق. وفي حين نتطلع جميعا إلى العدل كقيمة مطلقة لا وسط فيه يقرر القرآن الكريم: ((لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ..)) ليقوم الناس بالقسط تلك هي الغاية الكبرى لإرسال الرسل وإنزال الكتب لا ننس أنه قال ليقوم الناس كل الناس بالقسط طلبه منهم ومنحهم إياه...
فهل من مخالف في هذا...؟!
* مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية