مع مهرجان العجيلي للرواية العربية

ماجد رشيد العويد

خصوصية الرواية العربية

ماجد رشيد العويد *

[email protected]

لعلها مناسبة أن يكتب المرء كلمة عن مهرجان الراحل عبد السلام العجيلي، وهو الأديب الكبير الذي حمل المهرجان اسمه في دورتيه السابقتين متمنين أن يستمر الحال فيكون المهرجان دائماً ورافداً لمحبي الأدب والعاملين فيه بالأسماء الكبيرة التي تشرفنا بمعرفتها ومن ثم بمحاورتها ومسامرتها. وربما من مهام المهرجانات من هذا النوع أن يتعرف الكتاب على بعضهم، فكم من أديب مبدع وآخر دارس للأدب قرأنا له من دون أن نلتقيه، وكم نملك من القدرة على جلاء الحقيقة عندما يكون اللقاء وجهاً لوجه مع أساتذة الإبداع والنقد.

وهذا الكتاب وهو يوثّق لمهرجان العجيلي الثاني وما أُذيع فيه من أبحاث وشهادات لمبدعين ونقاد عرب على اختلاف الأقطار اجتمعوا على رفد الأدب بكلمات غايتها النهوض بالإبداع والسمو به. ولم يكن المهرجان الأول المنعقد في الشهر 12 من العام 2005 إلا تأسيساً لهذه البغية السامية، وما مهرجاننا الثالث الذي بات على الأبواب مشرعاً على عوالم من المبدعين من أمثال إبراهيم الكوني وجمال الغيطاني وإدوارد الخراط وحنا مينه وجبرا إبراهيم جبرا، وغيرهم كثير إلا أملاً باستمراره رافداً من روافد الثقافة.

وبينما كنت في سبيل إعداد هذا الكتاب خطر لي خاطر عاد بي إلى نهاية سبعينيات القرن الماضي وبداية ثمانينياته، عندما كان المركز الثقافي عبارة عن مبنى صغير وعدد موظفيه لا يتجاوز عدد أصابع اليدين وكان في أوج نشاطه مع أستاذ جليل وضع لبنة حقيقية للثقافة، وما عرفناه غير إنسان متواضع غايته الأولى والأخيرة تنشيط العمل الثقافي في بلد أدمن الحكاية واقتات على روحها، فليس، والحال كذلك، أفضل من بثّ الشعر في عروق هذه المدينة والعمل على نقل الحكاية من مادتها الخام وروحها الفطرية إلى فن القصة بتقنياته كلها. ولعل هذه الروح وما أصابته المدينة من ميل جارف إلى الحكاية هما من هيأ السبيل أول مرة لكتابة القصة في الرقة. وهذا ما وعاه الأستاذ عبد الغفور الشعيب وعمل عليه فكان المركز الثقافي في الرقة من أهم المراكز الثقافية في القطر وليس في هذا الكلام من مبالغة أبداً.

ثم نامت الثقافة بتنويعاتها كلها، وكأنه لا بد من نومها مماشاة لواقع الحال في أيام عصيبة مرّت بالبلاد، وصار الخوف حليف الكاتب ورفيقه، ولم تعد الرقة، مثلها مثل باقي المحافظات، منتجة ولا قادرة على جلب الأسماء سوى تلك التي من الدرجة الثالثة وما فوق والتي تتغنى بأمجاد كاذبة وتلك الأخرى المادحة، وهي الأسماء التي جرّت لاحقاً خراباً ثقافياً عمّ البلاد كلها. ولأن من المحال دوام الحال على نحو واحد رتيب فقد مسّ التغيير العالم كله وبخاصة بعد أحداث الحادي عشر من أيلول، ولن تنأى الرقة بنفسها ولا بد أن يمسّها بعض مما في العالم من تغيرات، ولأن الحقيقة لا يمكن تغطيتها ولأنها لا بد سوف تظهر، فإن للرقة نصيباً من هذا الظهور، يُنتزع انتزاعاً حيناً ويؤخذ مواربة حيناً آخر. ولأن العمل الثقافي بلا مردود مالي كان لا بد من مغامر يمتاز بالنشاط، وهنا جاء الأستاذ حمود الموسى وكان نظيف اليد جريئاً كسابقه عبد الغفور الشعيب محباً للثقافة مثله، ولم يكن الاثنان يمتهنان الكتابة وربما لو كانا كذلك لما استطاعا أن ينتجا ويؤسسا لما أسساه وبنياه. مع حمود الموسى أقيمت عدة مهرجانات منها في المسرح، وهو مهرجان أظهر كم هي عطشى مدينتا إلى "الفرجة" ومهرجان الشعر أيضاً استقطب عدداً من مبدعيه من أرجاء الوطن العربي.

ولو لم يكن هذان الرجلان، الشعيب والموسى، نظيفين وغايتهما بناء صرح ثقافي يربط الرقة بكبرى العواصم العربية لما تجرأ أحدهما على مجرد فكرة العمل الجاد.

مع مهرجان الرواية الذي حمل اسم الراحل عبد السلام العجيلي اختلف الحال. العمل هنا جاد، لا يعني هذا أن العمل في الشعر والمسرح كان على غير الجدية التي عنيناها في الحديث عن الرواية، الجلسات علمية يعقبها حوار كان في الغالب جاداً وعميقاً، ولا يخلو الأمر من بعض المضايقات كما هي العادة على ما يبدو في مثل هذه اللقاءات. وتم في المهرجان الأول تقديم إضاءات حول أدب العجيلي الذي رحل بعد شهور من انطلاقة المهرجان الأول، وفي الثاني الذي كان تحت عنوان "خصوصية الرواية العربية"، والذي نحن بصدده، سُلّط الضوء على السؤال المحوري هل هناك رواية عربية؟ وما هي هذه الخصوصية التي اجتمع عليها ولأجلها أقطاب الإبداع والنقد من مختلف أقطار الوطن العربي. ومجموع الأبحاث المبثوثة في الكتاب مع الشهادات التي قدمها روائيون عرب في العجيلي وفي أنفسهم نجد الجواب على هذين السؤالين.

أيضاً يمكننا القول أن بعض الأبحاث والشهادات ابتعدت عن محور المهرجان "خصوصية الرواية العربية" مثل شهادة الأديب إبراهيم العلوش "العجيلي وقضية الحرية" وشهادة الدكتور جمال شحيذ "عبد السلام العجيلي مترجماً إلى الفرنسية" ومن الأبحاث بحث الدكتور عبد الله أبو هيف "وجوه الإبداع عند عبد السلام العجيلي"، على سبيل المثال لا الحصر.

وإذا كان وجد من "عورات الأنشطة الثقافية" بحسب تعبير الأستاذ نبيل سليمان في دورتي المهرجان الأول والثاني فلأن من أهداف أي مهرجان هو تقديم أسماء جديدة إلى جانب الأسماء الناجزة، وإلا ما فائدة أن يأتي المهرجان ناقد مثل الدكتور سيد بحراوي ويقدم بحثه في الخصوصية، وهو بحث منتزع من أحد كتبه، ولا يلتقي اسماً جديداً في النقد أو الإبداع، يحاوره ويفيده ويستفيد منه.

على أنه يبقى السؤال قائماً عن جدوى هذه المهرجانات في ظل غياب العمل المؤسساتي، وفي ظل السيطرة الكاملة لمناخ العمل في عصر ما قبل الدولة. لا أملك جواباً نهائياً ولكني من حيث أدري أقول إن أمثال المتنبي وأبو العلاء المعري قد وجدا في عصر انحطاط وشيوع الشعر القائم على السجع لا على ابتكار المعاني. أقول وُجد هذان العبقريان في زمن رديء وابتكرا شعراً خالداً، فما الذي يمنع أن ننهض بهذه المهرجانات لتنهض بدورها بنا في حقل محدد من المعرفة وإن كان الزمن رديئاً وبائساً وسائراً في أمكنة غلب فيها الرأي الواحد، الذي لا يعرف ابتكاراً. 

وما دمنا على أبواب الدورة الثالثة مع مجموعة أخرى من الأسماء الهامة وتلك التي تبشر بالخير في حقل النقد والإبداع الروائي فإننا نتمنى أن يلقى المهرجان نجاحاً ويتحقق فيه ما لم يتحقق في الدورتين السابقتين.

              

*أديب سوري