حينما نكره الحاضر ونخاف المستقبل!

صبحي غندور

صبحي غندور*

[email protected]

 أسوأ مرحلة يمرّ بها أفراد أو شعوب تكون حينما يكون الحاضر سيئاً حافلاً بالأزمات والمشاكل وحينما تكون رؤية المستقبل أيضاً مليئة بالهواجس والمخاوف من حصول ما هو أشدّ وأكثر سوءاً من الحاضر.

 هكذا هو حال الأمّة العربية الآن، فالكثير من البلاد العربية تعيش هذا الهمّ المزدوج من هموم الحاضر والمستقبل معاً.

 في الحاضر العربي، هناك مزيج من الأزمات، بعضها صناعة خارجية ناتجة عن احتلال أو تدخّل أجنبي سافر، وبعضها الآخر هو محصّلة تراكمات داخلية من عوامل سوء الحكم وتعثّر محاولات الإصلاح والتغيير السليم.

 وقد أصبحت هناك علاقة جدلية بين سوء الحكم في الداخل وبين محاولات الهيمنة من الخارج. كما هي أيضاً العلاقة السببية بين عطب الحكومات وبين تدهور أحوال المجتمعات والحركات السياسية المعارضة فيها. فكلّما غابت البنى السياسية والدستورية والاجتماعية السليمة في المجتمعات، كلّما كان ذلك مبرّراً للتدخّل الأجنبي ولمزيد من الانقسام بين أبناء الوطن الواحد. وتزداد المشاكل الداخلية تأزّماً كلّما ارتهن البعض لإرادة الخارج من أجل ضمان استمراره في الحكم أو لمزيد من المصالح الخاصّة التي يوفّرها الخارج مؤقتاً، فإذا بها تصبّ لاحقاً بهم وبالأوطان معاً في مهبّ المصالح الخارجية حصراً.

 فالعراق وفلسطين ولبنان والسودان والصومال هي نماذج الآن لحاضر عربي سيء يريد الخارج أن يعمّمه على كل البلاد العربية في المستقبل.

 وللأسف أنّ أقلاماً عربية ارتضت أن تكون هي أيضاً عنصراً مساهماً في إشاعة مناخ الانقسام بين أبناء الأمّة العربية، فراحت تكرّر تصنيفات وتسميات كانت في العقود الماضية من الأدبيات الإسرائيلية فقط، فإذا بها الآن تتقدم التحليلات السياسية لبعض الأقلام العربية!

 فكيف بالله تستطيع أمّة أن تنهض من كبوتها وممّا هي عليه من سوء حال إذا كان صانعو الرأي فيها يتنافسون على الفضائيات وعلى صفحات الجرائد فيما يؤدّي إلى مزيد من عوامل الانقسام والانحلال والانحطاط في أحوال الأوطان والمواطنين!؟

 وكيف ستقدر هذه الأمّة على مواجهة التحدّيات الخارجية والداخلية إذا كان معظم قادتها منشغلين الآن في كيفية إدارة شؤون السلطة لا الوطن، وفي توفير ضمانات توريث الحكم وليس تأمين صمّامات أمان لوحدة الأوطان وتقدمها!

 كيف سيكون هناك مستقبل أفضل للشعوب والأوطان والأمّة ككل إذا كان العرب مستهلكين إعلامياً بأمور تفرّق ولا تجمع، تشدّ يد العدوّ وتردّ أزر الصديق!

 هناك أيضاً في هذه الأمّة حالمون يعيشون أوهاماً عن السلام مع عدو لم يعرف إلاّ لغة الحرب والقتل والدمار، وآخرون عاجزون عن الحرب لكنّهم يراهنون على المقاومة حتى آخر شهيد في الوطن الآخر!

 وهناك في هذه الأمّة من يتحدّث عن "يقظة دينية" بينما هي في معظمها عودة إلى "أصولية جاهلية" تهتمّ بالقشور ولا تركّز على مبادئ الدين وقيمه.

 ومسكين هو هذا الجيل العربي الجديد الذي يتمزّق الآن بين تطرّف سلبي لا مبالي وبين تطرّف جاهلي يدفع بعضه للعنف باسم الدين ولما هو من المحرّمات الدينية أصلاً. ولن يكون هناك مستقبل عربي أفضل ما لم يقم الشباب العربي بدور أفضل ممّا يفعلونه الآن. فالمستقبل الأفضل يتحقق حينما يرفض الجيل الجديد أن يكون شاهد زور على توريث "العباءة السياسية" حتى لهؤلاء القادمين من كراسي شركات تجارية أو طاولات حانات ترفيهية.

 وسيكون مستقبل الأوطان أحسن حالاً حينما تتحوّل الحكومات إلى أنظمة دستورية مرجعيتها في الحكم والقوانين إلى الشعب وحده.

 وستنهض الشعوب والمجتمعات حينما تتحوّل الحركات السياسية إلى قوًى جامعة فعلياً لكلّ أبناء أوطانها فلا تنسخ سيئات الواقع إلى داخل أفكارها وكوادرها.

 كذلك في الأوطان الخاضعة للاحتلال، فإنّ المستقبل الأفضل مشروط بتوفّر مقاومة سليمة قائمة على أرضية وطنية مشتركة وليست تعبيراً عن عقائد فئوية تنجح في تحرير الأرض لكنّها تفشل في بناء الوطن الواحد.

 أي مستقبل يرجوه العرب لمنطقة تتآكل من الداخل بينما هي تؤكل من الخارج؟!

 إنّ العرب اليوم هم بلا قضية واحدة، وبلا قيادة جامعة. والمسؤولية هنا عن تردي الواقع العربي، شاملة شمولية المجتمع العربي بكل ما فيه من حكام ومحكومين، من رسميين وشعبيين، من سلطات ومعارضات، وأخيراً، من مثقفين وغير مثقفين!

 وحتى تتحدّد المسؤولية أكثر، فإن الأمر ليس فقط مجرّد "مؤامرات خارجية" أو "مخططات صهيونية وأجنبية" رغم خطورة هذه المخططات وتأثيراتها السلبية. لكن موقع العطب هو في "الداخل" العربي الذي أباح ويبيح استباحة "الخارج" لكل شؤون العرب وأرضهم ومقدّراتهم.

 إنّ بعض المفكرين العرب يعتقدون بأن المشكلة تكمن في الحكومات فقط، ويراها البعض الآخر منهم في التيارات البديلة عن الأنظمة القائمة، بينما المهم أن يشترك الجميع بالاتفاق على وجود أزمة كبيرة في الحاضر العربي تستوجب العمل الفوري الجاد من كل حسب طاقته وظروفه ومكانه. فقد يختلف العرب في تحديد طبيعة المشكلة وجذورها، وقد يختلفون في صورة الحل المنشود، لكن عليهم جميعاً مسؤولية التحرك الآن لمواجهة المخاطر المحدقة بمصير المستقبل العربي.

 هي مشكلة كذلك في واقع الأرض العربية، وما حولها من طموحات إقليمية ودولية. ففي ظلّ هذا الواقع القائم على التجزئة تتخبّط الأفكار والتجارب والأوطان. إنّ محاولات تقسيم الأوطان والشعوب العربية الآن تتم أصلاً على أرض عربية مجزأة منذ عقود طويلة. فالحاضر هو ما كان المستقبل بالأمس، وهو الماضي غداً، وهذا يعني أن العرب يواصلون في حاضرهم مزيجاً من سلبيات التاريخ والجغرافيا معاً، خاصة أن العرب لم يدركوا بعد مخاطر هذا الانفصام الحاصل بين هوياتهم المتعددة، أي بين أن تكون لهم هوية ثقافية عربية واحدة وانتماء حضاري واحد، وبين واقع لا يجسدون فيه ذلك بأي شكل فاعل لا سياسياً ولا اقتصادياً ولا أمنياً ..

              

*(مدير "مركز الحوار العربي" في واشنطن)