ذكرى انقلاب الثامن من آذار في سورية

محمد الحسناوي

ذكرى انقلاب الثامن من آذار في سورية

بقلم : محمد الحسناوي

[email protected]

في الثامن من شهر آذار الحالي تمر الذكرى الثالثة والأربعون لانقلاب الثامن من آذار العسكري في سورية 1963م ، الذي أراد له الانقلابيون أن يكون ثورة دائمة لا انقلاباً عسكرياً  عارضاً ، وقد كان بالفعل ردة على كل الإنجازات السورية الوليدة في أول عهد الاستقلال ، والتجربة الديموقراطية المبكرة آنذاك ، ردة على مستوى السياسة والاجتماع والقانون وحقوق الإنسان على حدّ سواء . كانت أول مفارقة لهذا الانقلاب ليس تصفية جناح رئيسي في الانقلاب- وهو التيار الناصري – وحسب ، بل هو الانقلابات الداخلية في الحزب الذي استولى على السلطة باسم الحزب القائد ، قائد الدولة والمجتمع . ومن طريف ما يروى أن الدكتور عبد الله عبد الدائم ، الأستاذ الجامعي الأديب المفكر والحزبي في الوقت نفسه ، كان وزير الإعلام في حكومة انقلاب الثامن من آذار ، وهو الذي رفع شعار( ثورة لا انقلاب وحسب! ) ، وقد كوفيء على شفافيته بصفعة على وجهه ، سدّدها له الضابط الحزبي المكلف بحماية مبنى الإذاعة والتلفزيون سليم حاطوم ، لتجرئه على دخول المبنى من غير إذن منه ، فخرج الدكتور عبد الدائم من مبنى الإذاعة ومن الحزب ومن سورية ومن السياسة حتى الآن في حدود علمي . أما سليم حاطوم نفسه فقد دارت عليه الدائرة الثورية ، فحاكمه وأعدمه رفاقه مع انقلابيين آخرين بعيد هزيمة حزيران 26/6/ 1967م .

انقلاب الثامن من آذار هو أحد الانقلابات العسكرية التي عصفت بسورية بعد الاستقلال ، بل آخرها ، مثل انقلاب حسني الزعيم 30/3/1949م وانقلاب سامي الحناوي 14/8/1949م وانقلاب أديب الشيشكلي 19/11/1949م . ويذكر رجل المخابرات الأمريكي مايلز كوبلاند في كتابه المترجم إلى العربية ( لعبة  الأمم) أن انقلاب حسني الزعيم كان التجربة الانقلابية الأولى الناجحة للخارجية الأمريكية في العالم . ويكتشف السوريون المعنيون أن دعاوى حسني الزعيم الانقلابية لإنقاذ الأوضاع السورية بعد نكبة فلسطين عام 1948م وانكشاف الأنظمة العربية الحاكمة ، ليست دعاوى صادقة ، بل هي دريئة لإخفاء حقيقة أخرى ، وهي فساد الضابط حسني الزعيم الإداري ، وأن الحكومة السورية التي أطاح بها الانقلاب كانت على وشك محاكمته وتسريحه من الجيش السوري بسبب  فساده .

انقلاب الثامن من آذار أحد الانقلابات التي سميت بالثورية ، التي غطت المنطقة العربية والكثير من دول العالم الثالث آنذاك ، وكانت الانقلابات على حكومات جمهورية مثل سورية والجزائرعام1964م والسودان عام 1964م وحتى لبنان الجار الشقيق عام 1976م ، وعلى حكومات ملكية مثل مصرعام 1952م والعراق 30/7/1968م واليمن عام1961م وليبيا عام 1969م . والطريف أن الانقلابات في الأنظمة الجمهورية انتهت لتكون وراثية على الشكل الملكي كما حصل في سورية الأسد ، وما يتوقع حصوله في أقطار عربية أخرى معروفة أيضاً .

كان من أوائل القرارات التي اتخذها الانقلابيون السوريون وأهمها وأخطرها قانون (إعلان حالة   الطوارىء ) أو قانون (الأحكام العرفية ) بموجب القرار العسكري رقم(2) في 8/3/1963م ،الذي لم يرفع حتى يومنا هذا طوال أربعة وأربعين عاماً ، والتعديل الوحيد الذي أصابه ، أنه نقل إلى صلب الدستور الدائم ، فاعجب إذا شئت أن تعجب !!

قانون الطوارىء هو في الأصل ذو طبيعة استثنائية ، يؤخذ به في أحوال الحروب ، والاضطرابات العامة الخطرة ، ويبدو أن السلطة طوال هذه الأربعين عاماً كانت وما زالت في وضع الحرب ، ولكن ضد الشعب ، الذي وصلت إلى حكمه بفوّهة المدفع والدبابة العسكرية وما تزال ، وقد صرح بهذا المعنى وزير الدفاع السابق مصطفى طلاس شفاهاً وكتابة أكثر من مرة ، و إلا فما معنى استمراره كل هذه المدة المتطاولة التي لا مثيل لها في العالم . وبوسعك أن تزعم أن هناك مواطنين ولدوا وماتوا في ظل قانون الطوارىء ، بل إن جيلاً أو أكثر من السوريين لا يعرفون الحياة العامة والخاصة إلا تحت سقف قانون الطوارىء ، فما أكثر بركات (الثورة) التي جاء بهذا القانون ولم تذهب به . وما أخفض هذا السقف الحديدي الساخن !!

من المعلوم أن ( قانون الطوارىء) يعلق العمل بالدستور أولاً ، وثانياً يحصر الصلاحيات التنفيذية والتشريعية والقضائية بحفنة قليلة من العسكريين ، على رأسهم الحاكم العرفي أي رئيس الجمهورية أو من ينيبه ، وهو وزير الداخلية عادة ، ويشرع لمحاكم استثنائية ، وإجراءات تعسفية تسمح بالاعتقال ، ومصادرة الأموال وانتهاك حرمة المنازل والاتصالات ، ومنع الاجتماعات فوق ثلاثة أشخاص ، وإصدار أحكام بالسجن أو الإعدام على غير المعتاد في القضاء المدني : من تحقيق ، ودفاع عن النفس ، وشفافية في المحاكمات . وهذا كله غير إلغاء الصحافة والأحزاب ، وحرمان الشعب كل الشعب من دوره السياسي ، كما حصل فعلاً .

في ظل هذا القانون (الاستثنائي) نفذ النظام الحاكم أكثر من إجراء مصيري دون الرجوع إلى الشعب السوري صاحب الحق في مثل هذه الإجراءات ، منها دخول القوات السورية إلى الأراضي اللبنانية في 18/6/ 1976م ، وخوض أكثر من حرب مع العدو الصهيوني ،  مثل نكسة حزيران1967م ، وحرب تشرين 1973 والذهاب إلى حفر الباطن عام1991م ضد العراق ، والاشتراك في مؤتمر مدريد 30/10/1991م.

وفي ظل قانون الطوارىء حدث أكثر من انقلاب عسكري ، كانت إيغالاً في مصادرة الحريات وتغول العسكر على السلطة ، مثل تصفية الجناح الناصري من الحكم بعد إخفاق انقلاب جاسم علوان في 18/7/1963م ، ثم سلسلة انقلابات البعث نفسه على نفسه ، أبرزها انقلاب 23/2/1966م ، ما سمي حركة شباط ضد القيادة التاريخية للحزب (عفلق والبيطار والقيادة القومية ) ، ثم ما سمي بالحركة التصحيحية 16/11/1970التي قادها حافظ أسد ضد صلاح جديد والأتاسي والزعين .

إن القول بأن البعث انقلب على نفسه تعبير مجازي أو تقريبي ، أما الدقة فهي أن (اللجنة العسكرية ) لحزب البعث ، التي تأسست في أواخر عهد الوحدة في مصر على يد الثلاثي ( محمد عمران- صلاح جديد – حافظ أسد) ، ثم أخذت تضم إليها البعثيين من منظور طائفي ، بشكل يضمن الرجحان للثلاثي المذكور ومن شايعه ، حتى التحالف أخيراً مع الناصريين والقيام بانقلاب الثامن من آذار . ثم أخذت التصفيات تتدرج من حزب إلى حزب ، ومن جناح إلى  جناح ، حتى وصل بالثلاثي الرهيب أن يصفي أفراده بعضهم بعضاً . فتم اغتيال محمد عمران اللاجىء إلى طرابلس الشام في 4/3/1972م ، ثم الانقلاب على صلاح جديد ، واعتقاله حتى موته في السجن صبراً 19/8/1993م . أما صلاح البيطار فقد جاء دوره بالاغتيال في باريس 21/7/1980م . يقول جلال السيد وهو قيادي سابق في البعث السوري : (وكان أن تمّ القيام بتنظيم عسكري سري بعثي . وكان هذا التنظيم هو النواة لما تمّ بعد انقلاب الثامن من آذار) (كتاب البعث – جلال السيد – ص172) .

 وبالمناسبة إن اغتيال البيطار السوري يشبه في ملابساته اغتيال اللبناني رفيق الحريري ، من حيث إن كلاً من الرجلين قبل ساعة اغتياله ، كان يمثل إجماعاً شعبيا وطنياً حوله ، يهدد مصالح الذين لايريدون هذا الإجماع لرجل سواهم ، أو دون مصالحهم الفئوية ، أي الذين ليس لديهم لغة سياسية غير الحل الأمني أو الاغتيالات ، لأنهم مفلسون من القيم والأخلاق والثقافة والحضارة ، والرغبة في التعايش السلمي المدني مع عباد الله .

رفيق الحريري

برغم كل هذا السجل غير المشرف لانقلابي الثامن من آذار، أو من ورثوه بقوة السلاح ، أو القبضة الأمنية الحريرية ، يظل الزخم الاحتفالي الرسمي بذكراه كل عام ، حتى حلّ محل الاحتفال بالعيد الوطني العتيد عيد  الجلاء ، وحتى أُعطي من الأهمية والقدسية ما يفوق الأعياد الدينية ، كعيد الفطر وعيد الأضحى وذكرى المولد النبوي الشريف ، وحتى بات الاستقطاب السياسي في الثمانينات أن تحتفي الدولة بعيد الحزب الحاكم وذكرى الثامن من آذار ، على حين رفعت المعارضة والإسلاميون بشكل خاص شعار الاحتفال بالعيدين الدينيين وبذكرى مولد الرسول ، مما انعكس صراعاً في الشارع وفي الزينات . قال المرحوم مروان حديد في تظاهرة شعبية حموية : إن النبي محمداً أحق بالإنفاق على ذكرى ميلاده من المال العام أكثر من ذكرى ميلاد الحزب الحاكم . واغتيل مروان حديد في سجنه .

من مفرزات انقلاب الثامن من آذار تسيد الحزب الحاكم بنص المادة الثامنة من الدستور ، والأخطر من ذلك حصول شرخ غير مسبوق في الوحدة الوطنية ، بسبب انطباع الحكم والجيش وأجهزة الأمن الخمسة عشر والحزب من ثم بالطابع الطائفي ، الذي لم تعرفه سورية في تاريخها ، لا في العهد الوطني ولا في العهد الاستعماري ، فصار المواطنون طبقتين : ( ابن الست وابن الجارية ) ، يقول سامي الجندي من يقرأ تجربة الدكتور منيف الرزاز المرة وكيف كان يذهب إلى المناطق داعياً الحزبيين إلى العودة لعقيدتهم، فينتهي الاجتماع إلى طلبات التوظيف، يجد أني لست الوحيد الذي أكتشف هذه الحقائق) (أتحدى وأتهم- ص44) . وهذا لا يعني أن الطائفة المعنية هي المسؤولة عن هذا الاستقطاب العفن ، ولا انتفع كل أبناء الطائفة من المواقع النافذة ، والمال الحرام ، والثروات الخيالية ، والبعثات الدراسية ، وبقية المفردات المعروفة . والنتيجة الطبيعية للتمييز والاختناق العام اندلاع ردود فعل عنفية ، بلغت أوجها في الثمانينات بالمجازر الجماعية ، التي شملت معظم المحافظات والمدن ، مثل مجازر حماة وجسر الشغور وحلب  وسجن تدمر الصحراوي ، ذهب ضحيتها الآلاف من الضحايا بين شهداء ومفقودين ، وسجناء رأي حتى اليوم ، ومشردين داخل القطر وخارجه .

إن الإشكال الطائفي لم يكن مدمراً للقطر وحسب ، بل كان مدمراً للحزب الحاكم نفسه ، وقد كتب في ذلك قياديون بعثيون ووحدويون مثل عفلق والبيطار والرزاز وسامي الجندي ومطاع صفدي ، يقول الجندي مثلاً عن صلاح جديد : ) يتساءل الناس : هل هو طائفي أم لا؟ قد يكون وقد لا يكون – أقبل الاعتقاد أنه غير طائفي – ولكنه مسؤول عنها ، اعتمد عليها ونظمها وجعلها حزباً وراء الحزب . قد يقول قارىء : ما ينبغي لي أن أتعرض إلى الطائفية ، وأن أجانبها . أما أنا فأعتقد أنه يجب أن نعالج كل قضايانا بجرأة وبروح علمية . إن مجانبتها هي تستر عليها , وإذكاؤها ) ( البعث – سامي الجندي - ص144) .

أما انقراض الطبقة الوسطى أمّ الصناعة والثقافة ، وانهيار الأخلاق العامة ، وانتشار آفة الفساد الإداري وانهيار السدود المائية ، والبنية التحتية ، والاقتصاد ، والمجتمع المدني ، فثمرات غير محمودة لقانون الطوارىء وحكم الحزب القائد ، ومحو الأحزاب ، وكل بادرة لاهتمام الشعب بالسياسة . يقول سامي الجندي : (محال أن يحيط العقل بأحداث حكم آذار وتطوره ، لأنه ضد العقل والمنطق ، كل عقل ، كل منطق ... زالت كل القيم وكل ما يحدد الروابط الاجتماعية ) (البعث – ص 113) .

الآن وبعد كل ما حصل ، وبرغم كل ما حصل ، يتمنى المواطن السوري العادي على الانقلابيين الآذاريين أن ينقلبوا ، كلهم أو بعضهم ، على آذارهم وعلى المنطق الأمني الذي جاء بهم . وإن لم يفعلوا ، وهذا المتوقع منهم للأسف ، فليعلموا أن مصيرهم ليس ببعيد ، وليس بمأمون .