الأديب بين الواقع والمثال
من الأمثال الشعبيّة الدارجة: "اسمع كلامك يعجبني، أشوف أفعالك، أتعجّب".
وهذا المثل شديد التفاعل مع الأديب عامة، والأديب العربي خاصة، وذلك أنّ الأدباء العرب، أعني الكثير منهم، يكتبون لك في المثاليات، حتى ظنّت إحدى المعجبات بأدب (...) ورسومه، أن كاتبها (نبيّ) أو في مستوى الأنبياء، وعندما زارته في منزله، كان منه ما يكون بين وحش كاسر وفريسة عاجزة مستسلمة، والذي يقرأ ما كتبه عنه صديقه الحميم (...) ، في كتابه الذي ترجم له، يجد العجب العجاب من ذلك الأديب الشاعر الرومانسي الغارق في مثاليات ليس لها على أرض واقعه نصيب.. وكذلك الأمر بالنسبة إلى عدد من الكتّاب والشعراء الذين يغرقون قراءهم في المثاليات، وليسوا هم سوى وحوش ضارية وهي تلتهم اللحم الحيّ، على طقطقات الكؤوس المترعة بالسمّ الهاري، الذي يسمونه –مغالطة و إجحافاً – مشروباً روحياً- إنهم غارقون في الوحل الجنسي، لأنهم من المنتمين إلى حضارة الطين بكل سوءاتها وسيئاتها، فالمبادئ عند هؤلاء، تبعٌ للأهوية الفاسدة، والأمزجة الهابطة، والشهوات والمصالح الموغلة في انحطاطها ودناءتها.
حدّثنا الشاعر الراحل عمر أبو ريشة عن شاعر عراقي (كبير) جداً، كان في أقصى اليسار، ثم اشترته مجلة (حوار) البيروتية التي كانت تصدرها المخابرات المركزية الأمريكية، والتي استقطبت بعض زعماء كتاب اليسار في بلاد (رواد) القومية العربية، كمصر والعراق وسورية خاصة، بعد أن أغرتهم بدولاراتها التي كانت تنفقها على كتّابها بغير حساب، سوى حساب المخابرات الأمريكية.. أقول: حدّثنا أبو ريشة عن ذلك الشاعر اليساري اليميني المتطور، أنه دُعي لإلقاء قصيدته في مربد البصرة، فلم يجدوه، ثم جيء به في اليوم التالي إلى فندق الخليج العربي بالبصرة، كالطينة، من شدّة السُّكر، وبعد أن صحا، ترجم لهم هذيانه ساعة فقدانه الوعي بسكره، ومحصّلة كلام ذلك الشاعر الكبير جداً، أنه كان في قهوة من قهوات البصرة، فجاءته فتاة وأمّها، واصطحبتاه إلى بيتهما، وأمضى ليلته معهما معاً هناك، وطلّق مهرجان المربد في تلك الأمسيّة، وعقّب أبو ريشة بقوله:
- هؤلاء هم شعراء العرب الذين يظهرونهم في واجهة (الفاترينة).. على حدّ تعبيره.
لسنا في صدد رصد شنائع أولئك الأوغاد الساقطين، ولكننا أردناها مقدمة طويلة،ـ لموضوع مهم وقصير، وهو ما يجب أن يتميّز به الأديب الملتزم من أولئك، بأخلاقه وشموخه وسمو سلوكه في سائر أحواله، فهو لا يقول شيئاً ويفعل شيئاً مغايراً، لأن مبادئه هي التي تحكم مصالحه، ويأبى عليه ضميره المسلكي الملتزم، إلا أن يطابق بين القول والعمل، حتى لا يكون ممن يعنيهم الله سبحانه بقوله:
(لمَ تقولون مالا تفعلون؟ كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون).
وهو يعي خطاب الله ووصفه للشعراء:
(والشعراء يتّبعهم الغاوون، ألم تر أنهم في كل وادٍ يهيمون، وأنهم يقولون مالا يفعلون، إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً، وانتصروا من بعد ما ظُلموا). صدق الله العظيم.
عبد الله الطنطاوي