الأردن (1)

د. عثمان قدري مكانسي

الأردن (1)

الوصول إلى عمان

حطت بنا الطائرة في مطار عمان في الأسبوع الأخير من تموز "يوليو" عام ثمانين وتسع مئة وألف.. ونزلنا من الطائرة وفي نفسَينا أمل وألم، أما الأمل فأن نتعرف سريعاً على الفارّين بدينهم من النظام السوري الجائر، الذين دخلوا الأردن فتنفسوا الصعداء، وحمدوا الله تعالى أن نجاهم من القوم الظالمين، ففي الأردن حرية نسبية لا نجدها في بلدان العالم الثالث إلا قليــلاً عسى الله تعالى أن يجمعنا بهم، فتخف غربتنا حين نلتقي إخواننا وأحبابنا.

وأما الألم فلأننا تركنا الجزائر خوفاً أن نكون ضحيّة صفقة بين النظامين، ولأننا حين عدنا لم نعد إلى بلدنا ومدينتنا، ولن نلقى الأهل والأصحاب والأحباب الذين غبنا عنهم سنتين من عمر الزمان، فنحن مقبلان على مجهول لا ندريه، وجيران –وإن كانوا عرباً مسلمين- لا نعرفهم. عاداتهم عاداتنا، ولسانهم لساننا، وهم شاميون مثلنا، إنما الغربة قاسية.. اللهم يسّر لنا أمورنا..

أخذ موظف الدخول جوازي سفرنا ونظر إلينا مبتسماً وقال: أهلاً بكما في بلدكما ثم أردف: جلباب طويل للزوجة، ولحية مهذّبة للزوج.. مثير للشبهة في سورية ولا يتركونكما تمضيان!!.. ابتسمنا لكلماته.. وخرجنا فيممنا شطر سيارة أجرة حملتنا إلى فندق فخم على جبل عمان.. ونمنا فقد كنا تعبين.. والصباح رباح..

وحين استيقظنا وصلينا الفجر كان أول ما فكرنا فيه ترك هذا الفندق الغالي فلا ندري كم نمكث، وما لا ينبع ينتهي.. والمال بين أيدينا قليل..

عمّان عام ثمانين غيرها بعد أربعة وعشرين عاماً، فهي اليوم أضعاف ما كانت عليه اتساعاً وجمالاً، أصلها شارع الملك ظلال وهو –إن صح التعبير- قعر المدينة وسوقها ومركزها وعنه تتفرع الشوارع والأحياء والحواريّ.. وفيه المسجد الحسيني القديم وبعض الحمّامات الشامية، ويصل شرقيّ المدينة بغربيّها والحياة فيه شبيهة بأسواق دمشق وحلب، فما من صنعة إلا ولها في هذا السوق مكان.. والشارع في الأصل وادٍ ترتفع عنه الأحياء السكنية، وبارتفاعها تتدنّى درجات الحرارة فكل الأحياء على الإطلاق فوق جبال متقاربة أو متباعدة، وأنت بينها طالع نازل، ونازل وطالع.

استهوتنا الحركة في هذا الشارع فحملنا أمتعتنا إلى فندق بسيط جداً، الليلة فيه لغرفة واحدة ديناران، ولا يدخله علية القوم كما في فندق فيلادلفيا، فيه إيجابيات وسلبيات، أما الإيجابيات فكونه في شارع الملك طلال، وحوله ما يحتاجه المسافر من مطعم ومشرب وملبس، ومساجد وأماكن انطلاق السيارات في أنحاء العاصمة، وإلى المدن الأخرى.

أما سلبياته فتتجلى في افتقاره إلى النظافة، وإلى ضعف الخدمات.. لم نستطع المكوث فيه سوى ليلتين انتقلنا بعدها إلى فندق "أطلس" في الشارع نفسه حيث يرتفع المستوى وتتحسّن الخدمات وترتاح النفس.. مكثنا فيه أسبوعاً قمنا فيه بما يلي:

1 – قصدنا القنصلية السعودية للتدريس في المملكة فقبلت زوجتي مساعدة لمديرة الثانوية في تيماء المدينة، وقيل لي: قد اكتفينا من المدرسين ولعلك تجد عملاً حين تسافر مع زوجتك إلى مركز عملها..

2 – زرنا بعض الأماكن التي نظنّ أن إخواننا هناك، أو أنَّ هناك من يدلنا عليهم فلم نظفر بطائل.

3 – اتصلنا بأهلنا فزارنا بعضهم على رأسهم الوالدان رحمهما الله، ثم توالى الأقرب فالأقرب.

صليت الجمعة في الجامع الحسيني فهو أقرب المساجد إلى فندق أطلس الذي انقلب بعد سنوات إلى مكاتب ومحلات تجارية.. وخرجت أتصفح الوجوه عَلّي أقع على هاد يهديني إلى أحبابي فيتّصل ما انفرط من عقد، وترتاح نفسي، وأشعر أنني في سربي ومأمني.. فوجدت شاباً يخرج من المسجد ينظر يمنة ويسرة وكأنه يبحث عن صديق جاء معه للصلاة فغاب عنه..

ناديته: يا أبا محيو.. التفت إليّ ثم تبسّم وأقبل مسلّماً: أهلاً أبا قدري.. ماذا تفعل هنا وأنت في الجزائر مدرّس؟

قلت: كما ترى جئت إليكم..

قال: حللت أهلاً ونزلت سهلاً..

كان أبو محيو صديقاً لأخويَّ برهان ومروان يزورهما ويزورانه فهما أصدقاء المدرسة وإخوة المسجد.. وأكبرُهم أنا بأكثر من عشر سنوات.

قال: وأين تنزل؟

قلت: في هذا الفندق، وأشرت إليه..

قال: لماذا؟ إن شقة كبيرة أرخص وأكثر راحة..

قلت: ولكنني لم ألتق أحداً منكم ولم أكن أعرف إليكم سبيلاً..

ابتسم وقال: هيا إذاً إلى الأخ أبي سامي.

قلت: ومَن أبو سامي؟

قال: الأستاذ عبد الله الطنطاوي.

لو لم أتمالك نفسي وأنا في الشارع بين زحمة الناس أن خررت على الأرض ساجداً لله تعالى شكراً.. ولا يخطُرَانّ ببال القارئ أنني أخطأت.. فالشكر لله واجب، وهكذا فعل النبي صلى الله عليه وسلم حين بُشِّر بما يَسُر.

أخبرت زوجتي أنني أمسكت برأس الخيط.. وأنني ذاهب إلى مكتب الأخ عبد الله..

ركبنا الباص إلى الزرقاء.. وقبل الوصول إليها نزلنا في مكان على الطريق الرئيس هو أقرب إلى الزرقاء منه إلى عمان..

فوجئ الأستاذ الكريم أبو أسامة، فولده البكر أسامة، بوجودي، وأقبل يعانقني، فكأنما رُدّت إليّ روحي.. وبشَّ في وجهي، وهذه عادته مع إخوانه والناس جميعاً، وحدّثني –باختصار- عما جرى في السنة الأخيرة في سورية –البلد الحبيب- وأخبرني أن ثلّة من الأحباب هنا، منهم الأستاذان الشاعران محمد الحسناوي، وعبد الله عيسى السلامة، والأخ الفاضل زهير سالم، والمراقب العام للإخوان المسلمين الآن الأستاذ الحبيب علي صدر الدين البيانوني حفظهم الله تعالى، وسدّد خطاهم..

قال أبو أسامة: ترك أحد الأحباب بيته المفروش فرشاً بسيطاً في الزرقاء ليعمل في اليمن وسآخذكما إليه إن شاء الله، قلت الآن إذاً.. قال: ليس قبل أن نتغدى عندنا، فأم أسامة تنتظرنا..

وعدت إلى الفندق فأخذت الزوجة وحملنا حقائبنا ودفعت أجرة الغرفة لأنني أتوقع وصول الوالد ليسأل عنا، فلينَم في الغرفة، وسنأتيه إن شاء الله صباح اليوم التالي.

وهكذا كان، فقد أوصلنا الأخ أبو أسامة بعد الغداء، أو سمّه العشاء إلى بيتنا الجديد فشعرنا بالأمان والطمأنينة ورحنا في سبات عميق.. وعند الصباح، أو قل في آخر الضحى كنا في الفندق نسأل عن الوالد رحمه الله تعالى فإذا به ينتظرنا.. وما أجمل اللقاء.. وما أحلى أن يحتضن الولد أباه وسيده وتاج رأسه، ويقبّل يديه ورأسه وقدميه!!.. إنه العزّ ما بعده عز، وإنه البرّ.. رحمه الله تعالى ورحم الوالدة الحبيبة وأسكنهما جناته.. وقد أهديت ديواني الأول: "نبضات قلب" للوالدة رحمها الله تعالى فقلت:

يا من زرعت الخيرَ في داري

وسقيتِ بالتحنان أشجاري

ورويتِ بالإيمان أفكاري

أهديكِ –أمي- بكرَ أشعاري

وكانت القصيدة الأولى في هذا الديوان رثاء الوالد رحمه الله تعالى، منها:

صورٌ تراءى في خيالي كلمـا     حنَّ الفـؤاد إليك أو أضنانـي

أو شاقني نور المحيّا أو سرى      في خاطري طيفٌ لوجهك رانِ

أو رتـّل القـرآن تالٍ ذاكـرٌ     للـوالديـن روائـع الإحسـانِ

الزرقاء مدينة حديثة كانت فيما مضى واحة يستظل بظلها المسافرون وقد ورد ذكرها في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم أول الدعوة المباركة إذ كفر أبو لهب به وأمر ولديه عتبة وعتيبة أن يطلّقا بنتي النبي الكريم رقيّة وأم كلثوم –ولم يكونا قد دخلا بهما- استصغاراً منهم لدعوة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم، وزاد عتبة أن جاء النبيّ صلى الله عليه وسلم وأسمعه قارص الكلام وسبّه سباً قبيحاً، فدعا عليه صلى الله عليه وسلم: "اللهم سلّط عليه كلباً من كلابك ينهشه".

وخرج عتبة في قافلة إلى الشام فما وصل مسبعة تدعى الزرقاء سمع زئير أسد فاصفرّ وجهه، وارتعدت فرائصه، واصطكّت ركبتاه، قال له أصحابه: أتخاف ونحن معك؟ قال: إن محمداً دعا عليّ وهو صادق الدعوة.. قدّموا له الطعام فعافته نفسه.. وضعوه بينهم، وأحاطوه بأمتعتهم، فلجا جنّ الليل وناموا جاء أسد يشمهم واحداً واحداً، فلما وصل إليه دقّ صدره ونهش كتفه.. سمعه أصحابه في الرمق الأخير يقول: ألم أقل لكم إن محمداً صادق الدعوة.. وهي الآن منظمة تنظيماً جيداً على أرض منبسطة، بنيت لأفراد الجيش وأسرهم ثم توسعت بسرعة لتصبح ثاني مدن المملكة الأردنية حجماً وسكاناً..

جوّها صحراوي والحياة بسيطة، وهي قريبة من العاصمة عمان، فيها أعداد من الشركس ولهم فيها مسجدهم الخاص "جامع الصديق أبي بكر". وأغلب سكان حي معصوم من الدروز.. وللنصارى حي خاص بهم.. وهكذا..

لم نجد صعوبة في التأقلم مع مَن حولنا ولم نتأثر بالغربة، فالناس أغلبهم في هذه المدينة مهاجرون، من فلسطين أو بلاد القوقاز أو المدن الأردنية البعيدة كالأزرق أو الطفيلة ومعان، وتكاليف الحياة القاسية تدفعهم إلى البحث عن لقمة العيش والانشغال بهموم الدنيا.. وتجد أيضاً طيبة، وأخلاقاً تحكمها قوانين العشيرة وأعراف القبيلة، وترى النظام سائداً، وهناك هامش لا بأس به من الحرية التي افتقدناها في سورية.

عملت زوجتي معاونة لمديرة كلية المجتمع الإسلامي في الزرقاء سنتين كاملتين، وتحولت إلى العمل الحر من بيع وشراء وسمسرة وكنا مرتاحين والحمد لله.

"الحمّة الأردنية"

انطلقنا إلى الشمال من عمان إلى مدينة "جرش" التي تبعد عنها مسيرة نصف ساعة أو أكثر وكان الطريق عريضاً، على جانبيه الأشجار المزروعة مؤلفة سياجاً أخضر جميلاً، يصل بينهما قرى صغيرة أبنيتها تقارب أبنية المدن، تريح العين، وتبهج النفس وتشعرك بالأمان، يتفرع عنها طرق صغيرة جانبية إلى قرى داخلية تمتاز بانتشار الأرض الخضراء ووفرة المياه، كثيراً ما كنا نقصدها في أيام العطل المشمسة. ومدينة جرش هادئة صغيرة وعلى طرفها الغربي تنتشر الآثار الرومانية القديمة بعمدانها، وشوارعها، وساحاتها، وزخارفها، لكنها لن تبلغ عظمة آثار "جميلة وتمقاد" في الجزائر.. إلا أن الأردنيين اهتموا بها وجعلوها منطقة سياحية يقصدها أفواج الزائرين دون انقطاع.

فإذا سارت بنا السيارة نصف ساعة أخرى فقطعنا من عمان ستين كيومتر إلى الشمال وصلنا إلى "اربد" عاصمة الشمال إلا أن الأرض بينها وبين جرش تكاد تكون خالية من الخضرة والمناظر الجميلة.

إربد مدينة أكبر من جرش، منظمة فيها مدنيّة واضحة، وحولها قرى كثيرة، وكثير من أهلها مثقف وهي جزء من حوران السورية، فهي تبعد عن مدينة درعا عشرين كيلو متر بل أقل من ذلك..

فإذا ما سلكت الطريق الغربي الشمالي فسوف ترى نفسك ترتفع فإذا وصلت إلى قرية "أم قيس" بدأت تنحدر.. فَتَوَقَّفْ لترى من بعيد أيام الصحو مدينة القدس التي تبعد أكثر من ثلاثين كيلو متر، فتهفو نفسك لها وتشتاق إليها، وتتمنى لو تطير فتصلّي في مسجدها المبارك.. المسجد الأقصى، فتنحدر الدموع من عينيك حزناً على ماض عريق كنا فيه سادة الدنيا، وعلى حاضر كئيب صرنا فيه حثالة الأمم، وما ذاك إلا لبعدنا عن الله سبحانه وشرعه الرائع الذي قال عنه الفاروق رضي الله عنه: "نحن قوم أعزّنا الله بالإسلام ومهما ابتغينا العزة بغيره أذلنا الله" فيا ليت قومي يعلمون..

والانحدار قاس وطويل تتغير فيه درجات الحرارة بسرعة وهو يشرف على الوادي السوري –الحمّة السورية- التي احتلها اليهود عام سبعة وستين وتسع مئة وألف، وعلى الجبال العالية التي تحيط بالحمّة الأردنية، وهذه الجبال كذلك بيد اليهود.. تنتشر البيوت في الحمّة الأردنية دون نظام إلا أن بساتينهم وحقولهم جميلة ومعتنى بها.. لتصل بعد ذلك إلى مجمّع الحمّة الأردنية الذي يضم: 1- غرفاً وشاليهات سياحية. 2- مطعماً ذا مستوى جيد. 3- بركة سباحة كبريتيّة كبيرة مكشوفة حولها استراحات جيدة. 4- بناء يحوي عدة برك كبريتية مختلفة الحرارة، فهناك "المقلى" تلسع حرارته لشدتها ولا يتحملها إلا القليل، وهناك "البلسم" حرارته مقبولة نوعاً ما، وهو أكبر من المقلى.. وهناك بركة السباحة الداخلية..

يقصد هذا المكان أهل الأردن وسورية والعراق ومصر.. وقد رأيت منهم أعداداً كثيرة.. ولأن المكان منخفض وحرارته مرتفعة فإن الزوّار يكثرون في الشتاء أو في الفصلين المعتدلين الخريف والربيع.

"البحر الميت"

أو بحيرة لوط عليه السلام على الحدود الأردنية الفلسطينية، يبعد عن عمان مسيرة مئة دقيقة وهو أخدود أسفل سطح البحر بثلاث مئة وخمسين متراً والحرارة فيه مرتفعة، لذا كان مشتى يقصده الناس يستروحون من قر الشتاء، يكاد البحر يكون جزأين متطاولين، يرى أحدنا وهو على الشاطئ الأردني ساحله على الأرض الفلسطينية، ليس فيه حياة فماؤه مالح أكثر من ماء البحار، يرفع الأجسام فتطفو دون سباحة، ويستطيع أحدنا أن يقرأ كتاباً دون أن يحتاج إلى تحريك يديه فالماء يحمله إلى أسفل صدره، وطينه أسود كالمعجون يستشفي به الناس.

يصب فيه نهر الأردن القادم من بحيرتي الحولة وطبرية، وبعض الينابيع الكبريتية الصغيرة.

وقصدناه كثيراً في أوقات مختلفة نهاراً أو ليلاً، وعلى شواطئه بعض النوادي السياحية غير الراقية والشعبية.

والطريق إليه من وادي شعيب على حدود مدينة السلط يجري فيه نبع لذيذ طعمه، يصطاد الناس فيه السمك فيضعون الشِباك في منحدره فيتساقط فيها السمك، وحول النبع غابات صغيرة يقصدها الناس، وهناك طريق آخر ناحية "ناعور" القريبة من مطار علياء الدولي.

"عجلون"

مرتفع جبلي فيه مدينة "عجلون" و"بيت جنّة" جوّه في الصيف رائع، وحدائقه كثيرة، وأشجاره كثيفة تصل إليه من مدينة جرش، يتصل غرباً بالأراضي الفلسطينية، فيه قلعة متوسطة كانت غي عصر الأيوبيين وما بعده ثغراً يدافع عن المسلمين وديارهم من هجمات الصليبيين الطامعين، واشتهر من أمرائها "أسامة بن منقذ" وهي على تل مرتفع يشرف على مساحات واسعة حولها، فكأنها رأس يرتفع شامخاً يرنو إلى المناطق المنبسطة من كل الجهات.

"البتراء"

وهي مدينة جنوب غرب عمان على مسيرة أكثر من ساعتين، بين جبال عالية مدخلها ضيق، وهو المنفذ الوحيد إليها، ويميزها أن قصورها وبيوتها وأسواقها منحوتة في الصخر نحتاً رائعاً راقياً يدل على مهارة أهلها في هذا الفنّ، وهي عاصمة الأنباط الذين حكموا البلاد قبل الإسلام، وسيطروا على طرق التجارة وأسسوا دولة قوية.

إلى مصر..

لا أكتمكم أن إخوتي في حلب حين رأوا الحملة المسعورة على كل مسلم ملتزم عام ثمانين وسؤال النظام الجائر عني بإلحاح الذي انتقل بدوره إلى السؤال عنهم فاعتقل اثنين منهم ثم أُطلق أحدهما –خطأ- وبقي الثاني في سجونه ومعتقلاته أكثر من ثمانية عشر عاماً لا ندري عنه شيئاً.. هذا النظام الذي لم يترك له صاحباً إلا الخائفين أو المنافقين، إذ لم يزج بكثير من الأحرار حين خرجوا من سورية أراد الانتقام من آبائهم، فقتل في حلب وحدها أربعة عشر أباً.. وكان والدي عند والدته حين داهموا دارنا يريدون قتله.. أرأيتم أسوأ من نظام تهتم مخابراته وعناصر أمنه بإذلال المسلمين، وكتم أنفاس المواطنين، وسلب خيرات البلاد، ثم هو يرتمي عند أقدام سادته من يهود ومتهوّدين.. فرأى الوالد ورأى معه المحبون أن ينتقل إلى الأردن عند أولاده إلى أن تنجلي هذه الداهية.. وهكذا كان.. ذهب أخي كمال إلى صنعاء مدرساً للغة العربية والتربية الإسلامية عام ثمانين، وجاءنا زائراً في الصيف، ورغب أن يتزوج.. فعقدنا له على زوجته، وكانت دار الوالد صغيرة، وكنت عازماً على قضاء أسبوع في مصر فتركت له بيتي وسافرت وزوجتي إلى القاهرة.

اشترينا بطاقة السفر من الزرقاء من مكتب أكّد لنا يوم الذهاب ويوم الإياب، وكان مطار عمان إذ ذاك في حي "ماركا" في الشمال الشرقي من المدينة.

وطارت الطائرة بنا على بركة الله.. وهناك.. وما أدراك ما هناك استوقفونا وسألونا إن كنا أخذنا لقاحاً للكوليرا، ولما أجبنا بالنفي أخذونا إلى مستوصف بدائي، وأخذوا دماً وغيره لفحصها واحتجزونا، كلّ في غرفة لا طعام ولا شراب، لا أدري لو كنا من دولة أوربيّة أيفعلون بنا هكذا؟!!.. لا أظن. ولكن العربي المهدور الدم في بلده لا كرامة له في غيرها.. أما الأخوّة وحسن الضيافة والإكرام، فنراه عند العرب في القصص والروايات وعند من يحترمون أنفسهم ورحم الله الشاعر إذ قال:

وكم ذا بمصر من المضحكات    ولـكنه ضحـك كالبكا

فناديت عسكرياً أعطيته أجرهُ أولاً، ثم ثمن ما يشتريه لنا من مأكل ومشرب، وبعد عشرين ساعة أو أكثر تبيّن أننا لا نحمل جرثومة الكوليرا فسمح لنا بالخروج حرّين غير كريمين.. وتمنيت لو أنني لم أزرها ولم أعتّب دارها. وكان المغرب قد أذّن فركبنا سيارة إلى دار رجل من أصحابنا لعله كان من آل الشيط ووجدت عنده الأخ الأستاذ عبد الله السلقيني الذي أنهى مناقشة رسالة الدكتوراه ونالها بجدارة فقضينا تلك الليلة بصحبتهم وكانوا كراماً، أنسونا مساءة اليوم الأول.

ونزلنا فندقاً في شارع الملك فؤاد.. يتوسط المدينة الضخمة ذات المآذن الألف، وفي اليوم التالي كنا نتجول بصحبة سائق التاكسي الذي عرّفنا على المعالم البارزة والمناطق الأثرية في القاهرة.. وما أزال أذكر الأزهر الشريف وتلاميذته وأساتذته والحلقات العلمية فيه، ومسجد السيدة زينب وزيارة الناس لها والعبارات التي يقولونها وكأنها حيّة تسمع، أو قادرة على قضاء حوائجهم التي لا تنتهي، ولا يقدر على قضائها إلا الله تعالى، ومسجد سيدنا الحسين واعتقاد الناس الخاطئ القائم على جهل إذ يجعلون من الأولياء أنصاف آلهة.. وزرنا كذلك المتحف المصري ورأينا الفراعنة الذين تجبروا وطغوا، وكان أولهم فرعون موسى عليه السلام وتذكرت الآية الكريمة: (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية، وإن كثيراً من الناس عن آياتنا لغافلون) يونس (92).

فقد نجى الله تعالى بدن فرعون ليكون عبرة للناس، فلا الملك يدوم، ولا السلطان يدوم، ولا وسائل الطغيان والظلم من أعوان وجند ومال وقوة تدوم.. ولكنّ الناس –مع الأسف- يرونه وأمثاله فلا يتعظون، ولا يرعوون، ويمرون عليهم وكأنهم لا يرون، فهم غافلون عن المصير الذي ينتظرهم..

وزرنا متحف الشمع بحلوان فهو رائع يدل على فن وذوق، وصعدنا إلى البرج الدائري وتغدينا هناك، فدار بنا من علُ على القاهرة وكانت أمسية خريفية ذات أنسام عليلة.

وفي اليوم التالي زرنا القناطر الخيرية فرأيناها كما قرأنا عنها في الكتب المدرسية حين كنا تلاميذ في المرحلة الابتدائية هادئة جميلة المنظر خضرتها تجلو العين وتنعش الفؤاد.

وركبنا سفينة طافت بنا نهر النيل تعرّفنا الحواريّ والشوارع المطلة عليه وتذكرت قصص نجيب محفوظ ومحمد عبد الحليم عبد الله رحمه الله تعالى، فقد دخل هذا الأخير إلى أعماق أعماقي في قصصه: غصن الزيتون، وشجرة اللبلاب ولقيطة.. فقد كان رومانسياً ذا أخلاق وحياء.

أما المساجد والمراكز الإسلامية فقد أخذتني إلى دروس الإمام حسن البنا والأستاذ سيد قطب رحمهما الله رحمة واسعة.

كان الناس طيبين، والتعامل معهم يدلُّ على كرم أخلاقهم وأصالة معدنهم، فحمدت الله تعالى أنني تعرفت إلى إخواني المصريين الذين مسحوا الألم أو كادوا مما رأيت في الليلة الأولى من إهمال وسوء تصرف الذين احتجزونا دون أن يقوموا بحق ضيافة مَن احتجزوهم، وقلت في نفسي بعد ذلك: الحمد لله أنهم اكتفوا بالإهمال ورحم الله أخواننا الدعاة الذين نالهم ما نالهم من تعذيب وقهر.. وكانت الأهرامات قمة الحضارة المادية عند الفراعنة.. ولئن كان بناؤها معلماً فريداً في ذلك الوقت السحيق لقد كان بقاؤه إلى عصرنا هذا دليلاً أيضاً على الظلم والهمجية والأنانية، فقد قُتل عشرات الآلاف من العمال وديست كرامتهم، وهُدرت حياتهم وجهودهم، لتسكن موميات الطغاة في هذه الصروح الضخمة، فهل هذا يشرف الإنسانية أو يسيء إليها؟!!

بعد ثلاثة أيام قضيناها في القاهرة عقدنا العزم أن نزور الإسكندرية ولكنّ الحرارة على مدى ثلاثة أيام فاجأتني فلزمت الفندق وكانت زوجتي حفظها الله تعالى وأحسن إليها رفيقتي وطبيبتي، أصحو فأراها تعتني بي، وأنام وهي قائمة إلى جانبي، تجود عليّ بعطفها وحنانها، فلما مضى أسبوع أو أكثر على وصولنا القاهرة لم يعد هناك مجال لزيارات أخرى، فقررنا العودة إلى عمان.

دار الإخوان

نزلنا من الفندق في شارع الملك فؤاد إلى شارع الأوبرا القريب منه نتسوّق قبل السفر.. لكن ارتأينا أن نثبت الحجز ونتأكد من اليوم الذي سنسافر فيه أولاً، فتوجهنا إلى أقرب مكتب للطيران المصري فقد جئنا على متن إحدى طائراته، ففوجئنا ونحن في أول أيام أيلول "سبتمبر" أن تأكيد العودة في مكتبها في عمان كان مزيفاً، فقد وضع الـ "ok" دون العودة إلى جداول السفر، فهو يريد أن يبيعنا التذكرة، ولا بأس أن يغشنا فسنتدبر أمرنا في مصر..!!

قلت للموظف: ما أقرب يوم نعود فيه إلى عمان؟

قال بعد النظر في الكمبيوتر: في التاسع عشر من تشرين الثاني "نوفمبر".

قلت: ما هذا؟! أمتأكد أنت؟

قال: كل الأيام محجوزة، والعمال المصريون في العراق بالملايين وفي هذه الأشهر الثلاثة يعودون إلى أعمالهم هناك..

قلت: وماذا نفعل إذا كنا مضطرين للعودة إلى عمان؟

قال: لا أدري إلا أنني أحجز لكم مكانين في 19/ 11، فلما لم أظفر منه بطائل.. ولا أعرف أحداً في القاهرة يممت شطر دار مجلة "الدعوة" ومعي زوجتي.. كان الأستاذ عمر التلمساني رحمه الله تعالى وأسكنه فسيح جناته هناك، فسلمنا عليه ثم سألنا أحد الجالسين هناك.. نحن من إخوانكم وفي مأزق فهل من مساعدة تقدمونها لنا؟

قال: أهلاً بكما وسهلاً.. ودخل.. ثم خرج علينا رجل رأينا صورته وقرأنا مقالاته وأحببناه إنه الأستاذ كمال السنانيري رحمه الله تعالى.

رحب بنا بلطفه المعتاد وضيّفنا ثم سألنا إن كان هناك ما يستطيع مساعدتنا به.. ودلنا على مكتب للطيران فذهبنا إليه وتعرفنا على أخ كريم حاول جهده مساعدتنا لكنّ الأبواب كانت مسدودة..

عرّجنا على مكتب الطيران الأردني واشترينا بطاقة على أن يحملنا بعد يومين على إحدى طائراته.. لكن طائرة أردنية في اليوم الثاني كبيرة تعطّلت على مدرج القاهرة فزاد الطين بلّة.. فاعتذر المكتب وأجلنا أسبوعين.. والأسبوعان طويلان.. فماذا نفعل؟ اهتدينا إلى  الطيران اليوناني فحملنا في اليوم التالي إلى أثينا ثم إلى عمان..

حين اطمأننا إلى أن العودة صارت قاب قوسين أو أدنى نزلنا إلى شارع الأوبرا، وكان فخماً فيه الأسواق الكبيرة والمحلات الكثيرة وكان الناس غادين ورائحين بزخم عجيب، والزحام شديد يجعلك تسير متمهلاً.. كنا نرى في الأفلام السينمائية كيف تتكلم الصديقتان في الشارع بصوت عال فيسمع الجميع كلامهما، فنقول: لماذا تتحدثان وكأنهما تصرخان، ثم نجيب: إنّ هذا فيلم سينمائي، والحقيقة غير هذا.. لكننا رأينا وسمعنا.. تتكلم إحداهما وكأنها وحدها، لا تبالي أن يسمعها الآخرون ما دامت مسترسلة في الحديث مع جارتها فلا سرّ تخبئه، تنطلق في الحديث على سجيتها فيسمعها القاصي والداني، ويعرف قصتها، وتذكرت أغنية عبد الوهاب: "يا وابور رايح على فين".

هرب اللص خائباً

قال أحد الأصدقاء قبل السفر إلى القاهرة: سمعت أن جاري العائد من مصر سرقه أحد العيّارين هناك بأسلوب متحضر، ولم يدر أنه مغفل حتى وضع يده في جيبه فرأى المال قد طار.

قلت له: كيف سرقه؟ وما هي الطريقة الحضارية المفتعلة؟

قال: رمى أحدهم –وهو شريك للص- زَرْق طير على الرجل فجاءه اللص يقول له: "فيه طير زرق عليك أمسحهولك" أي هناك طير سلح عليك، أتحب أن أمسحه؟ فقال الرجل شاكراً: افعل ذلك، فقال له أعندك وَرَق؟ فأعطاه محارم الورق فجرّه اللص إلى مدخل أحد الأبنية، ومسح وسخ الطير، ومسح له جيوبه دون أن يشعر..

قلت لصاحبي: لعلّ هذا يحدث لي، لا سمح الله؟ قال: نبهتك إلى ما قد يكون، فكن حذراً..

دخلت زوجتي محلات كثيرة واشترينا ما رغبنا، ثم خرجنا إلى الشارع ويممنا شطر الفندق نرتاح قليلاً ثم نعود إلى مطعم نتعشى فيه، وكان الوقت قريب العشاء.

قالت زوجتي فجأة هناك حقيبة يد لم تطاوعني نفسي أن أدعها. قلت لها: اشتريها.

قالت: هات عشرين جنيهاً. أخرجت من جيبي وفي الشارع دون حذر مبلغاً قدّمته لها، وكان معي خمس مئة جنيه وسبع مئة دينار وألف دولار.. ووضعت ذلك في جيب قميصي الأيمن وكنت ألبس "السفاري" والسفاري بنطال وقميص قماشهما واحد..

شعرت ببرد على ظهري من الناحية اليمنى لم أدر سببه، ثم مرّ إلى جانبي رجل يسرع بخطوات قصيرة ويقول لي: "الطير زَرَق عليك" أتحب أن أمسحه؟ قلت: نعم.. قال: أمعك ورق؟.. أعطيته، فشدّني إلى مدخل عمارة وبدأ يمسح، ويده تلعب بزر الجيب.. غاب عني ما قاله صاحبي في عمان إلا أن الله تعالى كان رحيماً بي، فتنبهت بعد لحظات إلى أن الرجل يحاول فتح الجيب لكن الزر كان –والحمد لله تعالى- لا يستجيب فأمسكت بيده بقوة، فعرف أنني انتبهت له فأطلق ساقيه للريح دون أنم يظفر بشيء.

خرجت من مدخل العمارة، وكانت زوجتي قادمة فابتسمت لها، ثم أخبرتها بقصة الرجل في عمان، وترجمتها العملية هنا، وفضل الله تعالى علينا.. وكان عشاؤنا لذيذاً جداً!!.

يتبع