رثاء الأستاذ (البنا)

الشيخ أحمد حسن الباقوري

فضيلة الشيخ أحمد حسن الباقوري

(وزير الأوقاف المصري الأسبق)

يرثي الأستاذ (البنا)

الإمام الشهيد حسن البنا

الإنسانية هي الخاسرة

"في مثل هذه الأيام منذ عامين مضيا أذن الله أن يلقى الأستاذ المرشد ربه.. وأن يتفيأ في الملأ الأعلى مكاناً قدسيّاً في ظلٍّ من رحمةِ الله ورضوانه فاطمانت نفس طالما أزعجها القلق واستراح جسد شد ما أرهقته الحركة والاضطراب.

كذلك أصور لنفسي موتته - رحمه الله- كلما استبدَّ بي الألم وساورني الجزع، وأخذ الشعور بالفجيعة يغشيني بمثل لفح الهجير من قمة رأسي إلى أخمص قدمي، فلا يكاد ذهني يستوعب هذه الصورة حتى أجد برد العزاء ينساب في نفسي كما ينساب الماء المثلوج في أحشاء من يلهبه الظمأ ويسعر ناره الهيام.

وكذلك أرجو للمؤمنين أن يصوروا لأنفسهم هذه الصورة كلما وجدوا لوعة الذكرى تغلي في قلوبهم مراجلها وتستعر في أحشائهم نيرانها، وإنهم لواجدون بها عزاءً مستنيراً ومستبصراً قائماً على تقديرٍ منطقي خاصٍّ لا على مجرَّد أنَّ الموت قدرٌ لا حيلةَ فيه ولا سبيلَ إلى دفعه على نحو ما يُقال لكل من ذاق الموت من هذه المخلوقات.

لم يخسر الأستاذ (البنا) بموتته تلك شيئاً- أي شيء- هكذا يقول كل أحد، أو هكذا يجب أن يقول كل أحد، سواء المؤمن الذي يسمو بمعنى الجزاء حتى يلتمسه عند الخالق في خوالد الجنات، والكافر الذي يسف بمعنى الجزاء حتى يلتمسه عند المخلوقين في خلود الذكر واعتبار التاريخ.

لقد عاش الأستاذ (حسن البنا) لغاية آمن بها إيماناً شغله عن كل ما يشغل الناس سواه، شغله عن أهله وعن ولده وعن نفسه، فلو أنه سُئل عن كل ساعة أنفقها في تفكير محرق، أو رحلة جاهدة، أو كتيبة مؤرقة، أو صلاة خاشعة.. ولو أنه سُئل عن مقدار التضحية التي بذلها في سبيل إيمانه هذا لاستطاع أن يقول ضحيت بمالي، وبولدي وراحتي ولم أقصر حياة الشظف والخشونة على نفسي حتى جاوزتها إلى كل من لهم صلة بي، ثم أخيراً ضحيت بنفسي.

ولو أنه سُئل عن الغاية التي تحراها من كل هذا العناء العالي لاستطاع أن يقول باراً صادقاً: "لم أرد عرض الحياة الدنيا، وإنما أردتُ الله وابتغيتُ ثوابه العظيم، ومثل ذلك حق على الله أن يرضيه حتى يرضى وأن يفتح له أبواب جنته يتبوأ منها حيث يشاء إن شاء الله.

ولقد عاش الأستاذ (البنا) في الناس حبيباً إلى قلوبِ أوليائه، مهيباً في نفوس أعدائه، وكانت الكلمة تنطلق من فمه لتملأ الأسماع والقلوب والعقول فيجد فيها الولي بسمة الأمل ونشر الغبطة، ويجد فيها العدو بلبلة الفكر وشوك المضجع، ومن حقه - رحمه الله- وهو بهذا المحل الرفيع في أمته الإسلامية جمعاء أن يتحرك التاريخ مزهواً ليروي سيرته بين مَن يروي سيرهم، ممَن قامت دعائم عظمتهم على الإيمان والإنتاج لا على الدعاية والتهريج.

لم يخسر الأستاذ إذن شيئاً بميتته تلك.. وإنما خسرت الإنسانية، نعم خسرت الإنسانية ولا أقول خسر الإسلام.. فإن الإنسانية تتعرض في هذه الظروف لأشد محنة تعرضت لها في تاريخها الطويل، وهي محنة المادية الثقيلة التي تريد أن تظفر بالمعاني الروحية، لتعود الإنسانية كلها بعد ذلك حيوانية تتحرك في دفع الشهوات كما تتحرك الآلات في دفع البخار، وقد كان (حسن البنا) لسان الروحانية المبين، وكان حجتها الواضحة ودليلها الهادي، وكان قوتها المليئة حيوية ونشاطاً.. ولا نحب أن نستمرئ أحضان اليأس حتى نقول: لقد كان الأستاذ كل شيء وبموته انهار كل شيء.. فإنَّ رحمه الله بالناس أرحب من هذا وأوسع، ولئن مضى (حسن البنا) إلى ربه، لقد كان فيمن ترك من أبنائه مجتمعين القوة التي تكفل لهذه الدعوة أن تهدي وأن تنقذ - إن شاء الله-.

إنَّ خيرَ ما يحيى به المؤمنون ذكرى الأستاذ المرشد هو أن يجتمعوا على الحق، وأن يعاهدوا الله في صدق وإخلاص أن يكونوا أصحاب رسالة، وأعلام خير، ودعاة أخوة، ورسل إسلام وسلام"..