العلامة الشهيد الداعية د. صبحي إبراهيم الصالح: مسيرة حافلة بالبذل والعطاء

clip_image001_165fe.jpg

(1345/1926- 1407/1986)

          هو الشهيد الداعية د. صبحي بن إبراهيم الصالح، المفكر الإسلامي اللبناني، رئيس المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى، وأحد علماء الدين السنة اللبنانيين البارزين. والأمين العام للجبهة الإسلاميّة الوطنيّة في لبنان، يتمتع بشخصية قوية مع حضور البديهة، وهو باحث محقق، وكاتب مبدع، وفقيه ومحدّث ومحاضر وخطيب مفوه، يهزّ القلوب بسحر بيانه .

          جمع الشيخ الصالح -رحمه الله - منذ بدايات دراسته الثانوية بين العلوم الشرعية والمدنية في دار التربية والتعليم الاسلامية في طرابلس، ولمع نجمه حيث رغب في ارتداء الزي الديني، وبدأ يخطب أيام الجمعة في المساجد، ولم يكد يبلغ الثانية عشرة من عمره، وكان خطيباً مفوهاً في مساجد طرابلس، يتنادى لسماع هذا الشيخ الفتي أهالي طرابلس مشدوهين معجبين، فمن هو هذا السيد الشهيد العلم، الذي كان نجماً هادياً، وكوكباً ساطعاً في سماء لبنان، وما هي سيرته وسريرته، وما هي معالم تفكيره، وكيف لقي الله شهيداً؟؟  .

مولده ونشأته:

        ولد الشهيد أبو أسامة صبحي بن إبراهيم الصالح في مدينة طرابلس في شمالي لبنان عام 1926م لعائلة تركية الأصل، نبغ فيها عدد من العلماء، مثل: أخيه الشيخ ناصر الصالح – رئيس المحاكم الشرعية بلبنان، والشيخ طه صابونجي مفتي لبنان الشمالي .

دراسته ومراحل تعليمه :

       تلقى الشيخ صبحي الصالح تعليمه الابتدائي في مدارس طرابلس، وأكمل تحصيله الإعدادي والثانوي في الثانوية المدنية والشرعية في دار التربية والتعليم بطرابلس في لبنان .

       وفي سنة 1367هـ / 1947م حصل على الشهادة العالية (الإجازة) من كلية أصول الدين بالأزهر  الشريف بمصر .

         كما نال الشهادة العالمية سن 1369هـ/1949م .

         وحصل على شهادة كلية الآداب من جامعة القاهرة بامتياز عام 1950م.

في جامعة السوربون :          وبعد أن استوفى الثقافة الاسلامية فكراً ومنهجاً وإيماناً، كان عليه أن يقتحم جامعة السوربون عام 1370ه / 1950م وبقي فيها طوال أربع سنوات دارساً وقارئاً ومنقباً في مكتباتها ومراقباً ومتأملاً وباحثاً، وحصل على  دكتوراه في الآداب إثر أطروحتين باللغة الفرنسية: الأولى بعنوان "الدار الآخرة في القرآن الكريم" و الثانية "الإسلام وتحديات العصر" عام 1374ه / 1954م .

         ولم يكن طوال إقامته الباريسية لينثني عن الدعوة، فأنشأ مع صديقه الباحث الاسلامي الشهير محمد حميد الله الحيدر أبادي أول مركز ثقافي إسلامي في باريس· وظل يخطب في تلك الفترة في صلاة الجمعة في جامع باريس، ويشارك في تعليم اللغة العربية للأفارقة المسلمين، ويحاضر في الأندية الثقافية الباريسية، ليستمع الفرنسيون الى أسلوب جديد في طرح الإسلام، حديث ما عهده أهل أوروبا من قبل علمائنا وقتذاك·

حياته العملية:

      – قضى حوالي ثمانية وعشرين عاماً في التدريس الجامعي، في جامعة بغداد (1954-1956م) .

- كما عمل في جامعة دمشق (1956- 1963م).

- وعمل في جامعة بيروت العربية عمل أستاذاً للإسلاميات وفقه اللغة منذ تأسيسها وحتى استشهاده .

- وعمل في الجامعة الأردنية (1971-1973م)، وكان فيها رئيساً لقسم أصول الدين .

- وعين أستاذاً في الجامعة اللبنانية منذ عام 1963، وانتخب رئيساً لقسم اللغة العربية وآدابها فيها منذ عام 1975، ثم عين مديراً لكلية الآداب والعلوم الإنسانية عام 1977م، ثم صار أستاذ كرسي الإسلاميات وفقه اللغة فيها.

- وحاضر أستاذاً زائراً في جامعة الإمام محمد بن سعود في الرياض، والكلية الزيتونية للشريعة وأصول الدين في الجامعة التونسية .

- وسمي في جامعة ليون الثالثة بفرنسة مشرفاً على رسائل الدكتوراه في الدراسات الحضارية واللغوية والإسلامية.

– نائب رئيس المجلس الإسلامي الأعلى، وهذا المجلس يرأسه المفتي الشهيد حسن خالد في لبنان، وهو أعلى سلطة إسلامية في لبنان .

– رئيس اللجنة العليا للقرن الخامس عشر الهجري في لبنان.

– الأمين العام لرابطة علماء لبنان.

– عضو مجمع اللغة العربية في القاهرة، وأكاديمية المملكة المغربية، والمجمع العلمي العراقي، ولجنة الإشراف على الموسوعة العربية الكبرى.

جوائز وتكريم :

       منحته المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم جائزة (التفكير الاجتهادي في الإسلام) بمناسبة حلول القرن الخامس عشر الهجري.

     أخلاقه وصفاته :

         كان الشيخ صبحي الصالح خطيبًا مفوهًا، ومحاضرًا بارعًا، ومدرسًا موفقًا، حاز ثناء الزملاء من الأساتذة وطلابه النجباء الذين يقدرونه، ويحترمون شخصه، وحسن أدائه، ودماثة خلقه، وتواضعه، وبساطته.

الانطلاقة في التجديد :          ولقد عاد الشيخ الصالح إلى طرابلس عام 1954 ليبدأ انطلاقة في التجديد ومسيرة تطواف تتلقفه منابر الجامعات العربية· ومنتديات الفكر وقاعات المؤتمرات ويتحلّق حوله تلاميذه يستلهمون منهجه، ويتنسمون عذوبة بيانه ولطيف مجلسه وأنيس معشره·

         خاض العلامة الشيخ في العلوم الانسانية واللغوية كلها وفي الدراسات الأدبية والفلسفية بصورة عامة، وعمل في شرح وتحقيق ودراسة العديد من الكتب التراثية، كما كتب باللغة الفرنسية، وترجم، وأشرف على تعريب عدد من المؤلفات والبحوث، وظل على امتداد أكثر من نصف قرن يزود كبرى المجلات الاسلامية والفكرية والعلمية بمئات البحوث والدراسات المستفيضة في كل شأن ومجال، كما كانت الموسوعات العربية والعالمية تستكتبه في أجزائها وخصوصاً فيما يختص بأبواب الحضارة الاسلامية والفكر واللغة والأدب·

مؤلفاته:

       له أكثر من عشرين كتابًا في قضايا الفكر واللغة والأنظمة السياسية والاجتماعية في الإسلام، وفي قضايا مواجهة الإسلام لمعضلات الحضارة المعاصرة، وله أيضًا عشرات البحوث العلمية والأدبية والإسلامية باللغتين العربية والفرنسية، نشرت في عدد من المجلات والموسوعات العربية والعالمية.

        لقد أضاف الشيخ صبحي الصالح إلى نتاج من سبقه من المباحث الإسلامية واللغوية ما يثري المكتبة الإسلامية بالكثير من البحوث والمؤلفات نذكر منها :

1-أحكام أهل الذمة/ابن قيم الجوزية (تحقيق وتعليق). - ط 2. - بيروت: دار العلم للملايين، 1401 هـ، 2 مج.

         وهذا من الغرائب، إذ أنه معروف موقف الشيخ من الحوار، ولا أقول التقارب ...لماذا ؟؛ لأن معالم الحوار والتقارب لم تكن واضحة !!  فمصطفى السباعي - رحمه الله - كان من المؤيدين، ثم تراجع لمعرفته بأكاذيبهم ومخادعتهم ( النصارى والشيعة ) ..وكذلك حسن خالد - رحمه الله -  والكتاب من مطبوعات جامعة دمشق ( عندما كانت عامرة بالألباني، والطنطاوي، والصالح، والسباعي، والزرقا والخن، والأفغاني .... ) .

2- شرح الشروط العمرية (مجرداً من أحكام أهل الذمة لابن القيم)، 1391 هـ.

3- دراسات في فقه اللغة. - دمشق: مطبعة جامعة دمشق، 1379 هـ، 412 ص (ط 5، 1393 هـ).

كتاب تخصصي، فشهادة الدكتوراه التي مع الشيخ في ( اللغة العربية )، يشبه كتاب ( الصاحبي ) لابن فارس، وهو مقرر في بعض الجامعات .

4- مباحث في علوم القرآن. - ط 14. - بيروت: دار العلم للملايين، 1402 هـ، 381 ص.

5- الإسلام ومستقبل الحضارة. - ط 2. - دمشق: دار قتيبة؛ بيروت: دار الشورى، 1410 هـ، 442 ص.

6- منهل الواردين: شرح رياض الصالحين للنووي. - ط 5. - بيروت: دار العلم للملايين، 1397 هـ، 2 مج.

7- الإسلام والمجتمع العصري: حوار ثلاثي حول الدين وقضايا الساعة. - بيروت: دار الآداب، 1397 هـ، 272 ص. - (سلسلة الإسلام الحضاري؛ 1).

8- فلسفة الفكر الديني بين الإسلام والمسيحية/لويس غرديه، جورج قنواتي؛ (ترجمة بالاشتراك مع فريد جبر). - ط 2. - بيروت: دار العلم للملايين، 1398 - 1403 هـ، 3 مج.

9- علوم الحديث ومصطلحه: عرض ودراسة. - ط 8. - بيروت: دار العلم للملايين، 1411 هـ، 448 ص.

        وهو كتاب عميق في هذا الباب، كان مقرراً في كليات الآداب في جامعتي دمشق وحلب، فنحن نعلم أن أفضل كتب المصطلح: قواعد التحديث للقاسمي، ورسائل اللكنوي، ومنهج النقد في علوم الحديث ...وأزيد هنا: هذا الكتاب، وقد نقل عنه الشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد - رحمه الله - في ( معرفة النسخ والصحف الحديثية )، وأثنى عليه، كما أثنى عليه د. نور الدين عتر في دروسه  .

10- معالم الشريعة الإسلامية. - ط 20 - بيروت: دار العلم للملايين، 1398 هـ، 422 ص.

كتاب ثقافة عامة، يتكلم عن أصول الفقه وتاريخه والاجتهاد وبعض النوازل الفقهية المعاصرة .

11-    النظم الإسلامية: نشأتها وتطورها. - بيروت: دار العلم للملايين، 1385 هـ، 608 ص.

12-       تجربة التقريب في المشرق العربي.

13-       أثر الدراسات التاريخية في علوم القرآن.

14-       المرأة في الإسلام - بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر، 1400 هـ، 57 ص.

15-       ضبط وتحقيق وفهرسة نهج البلاغة.

16-       مقاييس النقد عند المحدثين.

17- (الأمة ثم الدولة) .

18- (ردّ الإسلام على تحدّيات عصرنا) بالفرنسيّة

19-(المؤسّسات الإسلاميّة تكوّنها وتطوّرها)

20- وانكبّ على إخراج (المعجم العربي)

 21-و(المعجم الفرنسي) مع الدكتور سهيل إدريس.

22- الضمير الديني والتسارع التكنولوجي والحضاري، محاضرة، الرباط، 1974م.

23- الوعي الكوني في التصور الإسلامي، محاضرة بالرباط، 1983م.

صبحي الصالح : شهيداً :

         ولم يستطع التحقيق كشف هوية مطلق النار وشريكه، ولا هوية الجهة المحرضة على هذا الاغتيال .

         وأشار بعض الكتاب إلى أن جهة الاغتيال هي فرقة الأحباش لأن الشيخ قد ارتد – في زعمهم - ؛ لأنه شارك في حفلة تدشين كنيسة ، ويرى فريق آخر أن النظام السوري له غاية في اغتيال الشهيد صبحي الصالح؛ لأنه لا يريد أن يكون هناك رمز لأهل السنة في لبنان.

    رحم الله العلامة الشيخ الشهيد صبحي إبراهيم الصالح رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.

قالوا عنه:

        قال عنه المستشار عبد الله العقيل : ( كان الشيخ صبحي الصالح خطيباً مفوهاً، ومحاضراً بارعاً، ومدرساً موفقاً، حاز ثناء الزملاء من الأساتذة وطلابه النجباء الذين يقدرونه، ويحترمون شخصه، وحسن أدائه، ودماثة خلقه، وتواضعه، وبساطته.

          ولم تكن معرفتي به بادئ الأمر إلا من خلال كتبه، ثم بتعريف الإخوة بلبنان: فتحي يكن، وفيصل مولوي، وإبراهيم المصري، والإخوة بسورية: زهير الشاويش، ونزار الصباغ، الذين أشادوا بنشاطه الثقافي وانطلاقه في مجال الدعوة الإسلامية، وتحرره من قيود التقليد المذهبي والتعصب، وانفتاحه على الأفكار المعاصرة التي لا تصطدم بعقيدة الإسلام ولا بنصوص الكتاب وصحيح السنة، مع الالتزام الواضح بأخلاق الإسلام وسلوكياته، وواجب المسلم نحو عقيدته ومجتمعه وعدم التفريط بمقتضيات الإخوة الإسلامية والتكافل الاجتماعي والحرص على النهوض بالأمة وبذل قصارى الجهد لإقالة عثرتها وبيان الطريق الحق الموصل إلى تحقيق أهدافها.

         وقال عنه رجاء جارودي عندما سمع نبأ اغتياله:

 "شغفت بالإسلام دينًا ومنهج حياة، وعبر حوارات طويلة مع الصديق الذي سيعذبنا غيابه. تحسست نفسي جمالات هذه الرسالة الروحية السمحاء، ولطالما رأيت بالصديق الدكتور عن هذه السماحة. يا للبشاعة، ويا للهول أن يحدث هذا في لبنان".

           ويقول عنه الصحفي غسان إمام من مجلة الوطن العربي:

       صبحي الصالح رائد انفتاح على الحضارات والثقافات: العالمية من الأزهر، والدكتوراه من السوربون.

        صبحي الصالح منارة لعقول شابة متفتحة، وأستاذ لأجيال جامعية متعاقبة في بيروت، ودمشق، وبغداد، وتونس، والرياض، والرباط، وليون.

       صبحي الصالح همزة وصل وتقريب بين الإسلام وروح العصر. رائد لإسلام يتفاعل مع المكان والزمان.

        إسلام يعطي بثقة ما عنده في الدين والسياسة الفكر والمجتمع، إسلام لا يستسلم انبهارًا بما عند الآخرين، أو يتوارى منهم خوفًا وانغلاقًا وارتدادًا.

     ومن أجمع ما قيل في وصف الدكتور الشيخ صبحي الصالح رحمه الله، ما قاله عنه الشيخ الدكتور طه الصابونجي -مفتي طرابلس والشمال السابق-:

"كان عالماً تجديدياً، وكان مفكراً إبداعياً، وكان أديباً لوذعياً، وكان خطيباً يسحر الألباب بفصاحته، وكان لغوياً تشهد المجامع اللغوية ببراعته، وكان نهضوياً على مثال الروّاد الكبار الذين أحيوا أممهم من غفلتها وضياعها، وأثروها بأمجادها وطموحاتها، وكان حوارياً أرسى قواعد الحوار الديني والوطني والحضاري بالحقائق اليقينية، وبالحكمة الرصينة، وبالسماحة المترفعة"

           كانت للصالح أفكارٌ نهضوية لا يُذكر اسمه إلا مقترنا بها، من ذلك دعوته إلى إطلاق الاجتهاد من جديد، وأن يكون القرن الخامس العشر الهجري قرن الاجتهاد حتى يصبح الاجتهاد ظاهرة غالبة، قائلاً :

          "إن حاجة الأمّة إلى الاجتهاد بديهيّة، لم تكن في نظر القدامى تقبل الجدل، حتى تحتمل التأجيل عند المعاصرين، وأن المحقّقين من علمائنا شاركوا في مقاومة التقليد، وفي دعوة الناس إلى الاجتهاد، وإن كانوا لم يفتحوا بابه على مصراعيه، إلا للقادرين عليه"

         كما دعا إلى تنمية الفكر الاجتهادي، وتوسيع مجالاته، والتنسيق بين جميع عملياته بين روح الشريعة ومقاصدها العامة وبين إيجاد الحلول المناسبة لمعضلات الحياة العصرية في كل الميادين. وقال:

         "لن نكون بحاجة إلى أشخاص المجتهدين وألقابهم ومراتبهم، بقدر حاجتنا إلى نوعية تفكيرهم واجتهادهم واختصاصهم، تمهيداً إلى يوم نُوفَّق فيه إلى إنشاء 'المجتمع الاجتهادي الجماعي' على مستوى العالم الإسلامي"

         وكان يرى ضرورة أن يلمّ المجتهد إلماما تامًا بلغة حيّة على الأقل إلى جانب لغته الأم، كي يكون على دراية -من خلالها- بثقافة العصر وبكل مسألة طارئة في ضوء العلوم المتعلّقة بها، وبهذا يتحوّل الاجتهاد من الصيغة الشكليّة إلى جهاز حي دائم التحرك.

         كما كانت له رؤاه الخاصة ومواقفه الواضحة في السياسة ومفاهيمها، من ذلك رؤيته لـ:

- السياسة: بالنسبة إليه ليست سوى أفضل وسيلة لتنظيم الدولة، وما زال مجتمع اليوم الإسلامي مجرّد مشروع، ولم يصل بعد إلى نموذج المجتمع الإسلامي الذي رُسمت خطوطه الأولى في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم).

- الخلافة: رأى أن الخلافة ليست هي الشكل الأوحد للحكم في ظل الإسلام وقال: (علينا أن نكف عن الاعتقاد بأن هذا النظام التاريخي الذي لم يقم إلا على مبدأ الإجماع، هو شكل الحكم الوحيد في ظل الإسلام).

- الحرية: دعا إلى الحرية التي تقوم على مبدأ القبول بالآخر وبالرأي الآخر، والتي تتحقّق بكل معانيها وصورها وميادينها وأجنحتها السياسية والاجتماعية والفكرية والاقتصادية والدينية متضافرة.

- الماركسية: رفض المنهج الماركسي/الشيوعي المادي، لإهماله ومعاداته للحرية الفردية والسياسية.

- الرأسمالية: رفض المنهج الليبرالي/الرأسمالي، لإهماله ومجانبته للحرية الاجتماعية والعدالة بين طبقات وفئات المجتمع.

- الوحدة: كان داعية وحدة بين المسلمين، ففي مقدّمة تحقيق "نهج البلاغة" ناشد المسلمين جميعًا بالانضواء تحت راية التوحيد ودعا المؤرّخين إلى كشف الحقائق ليس انتصارًا لفريق على فريق بل دعوة خيّرة إلى تناسي المآسي الداميات.

        وإن كانت بعض رؤاه السياسية قد حظيت بنقدٍ نظرًا لتأثرها بـالأيديولوجية الناصرية، من ذلك ما ذكره د. محمود حمد سليمان:

         "في كتابه "النظم الإسلامية"، الذي أصدره عام 1965م، تلاقى مع المنهج الاجتماعي والاقتصادي الذي طرحته الثورة الناصرية أوائل الستينات من القرن الماضي والذي كان سائداً في الساحة العربية يومذاك، والذي يدعو إلى الربط بين جناحي الحرية: الحرية السياسية والحرية الاجتماعية أي (بين تذكرة الانتخابات ورغيف الخبز). وبذلك يكون الدكتور صبحي قد ساهم في تكريس هذا المنهج"

       وقال عنه الأستاذ محمد علي شاهين: ( وجدته صاحب علم غزير وبحث عميق واعتدال في المقاصد ومروءة ظاهرة

        رأى أن لا شيء يجعل جوهر الإسلام  يتعارض مع التطوّر والتقدّم، وأن السياسة بالنسبة إلينا ليست سوى أفضل وسيلة لتنظيم الدولة، وقال: لا بدّ من الاعتراف بأن المجتمع الإسلامي الذي رسمت خطوطه الأولى في عهد النبي (ص) لم يجد تحقيقه الملموس في الفترة المعاصرة، لنميّز سلفاً تمييزاً واضحاً بين العقيدة الإسلاميّة وتطبيقها في بعض البلدان الإسلاميّة ؛ ويقول: نشهد هنا وهناك مبادرات لا تخلو من شجاعة، لكن سرعان ما يتغلب النص على الروح في معظم الحالات، فما زال مجتمع اليوم الإسلامي مجرّد مشروع ؛ دعا إلى فتح باب الاجتهاد قائلاً: إن حاجة الأمّة إلى الاجتهاد بديهيّة، لم تكن في نظر القدامى تقبل الجدل، حتى تحتمل التأجيل عند المعاصرين، وأن المحقّقين من علمائنا شاركوا في مقاومة التقليد، وفي دعوة الناس إلى الاجتهاد، وإن كانوا لم يفتحوا بابه على مصراعيه، إلا للقادرين عليه.

          وقال:  هذه شريعة عدل كلّها، ورحمة كلّها، ومصالح كلّها، وحكمة كلّها؛ وإنّنا لن نكون بحاجة إلى أشخاص المجتهدين وألقابهم ومراتبهم، بقدر حاجتنا إلى نوعيّة تفكيرهم، واجتهادهم، واختصاصهم، وإنّنا لن نقيم وزناً لما فرضوه من الشروط التعجيزيّة على المجتهد المستقل الذي اختار أن ينفرد بقواعد ومناهج لنفسه، من جميع وجوه التشريع ؛ ورأى أنّه لكي نتحوّل بالاجتهاد من الصيغة الشكليّة إلى جهاز حي دائم التحرك، أن نضيف إلى هذا كلّه شرط الإلمام الكافي بلغة حيّة على الأقل إلى جانب لغتنا، نطل من نافذتها على ثقافة عصرنا بواسطتها، وكل مسألة طارئة في ضوء العلوم المتعلّقة بها ؛ ووجد أن ذهنيّة التخلّف، ومصالح المستفيدين من واقعنا المريض، عقبة في وضع صيغة اقتصاديّة متكاملة خالية من الربا يمكن أن تضعها نخبة من فقهائنا وأهل الاختصاص فينا ؛ وتبنّى اجتهاد من رأى من العلماء، إباحة صناديق التوفير، وشهادات الاستثمار - على تفاوت - في بابي المضاربة والقرض الإسلاميّين، بعد إجراء تعديل جزئي على صياغة بعض القواعد الفكريّة والشروط الاحترازيّة الاجتهاديّة ؛ وقال: لا يجوز أن نسوّي بين المعاملات النافعة لأخذ المال وصاحب المال معاً، وبين الربا الجلي المركّب المخرّب للبيوت.   

         وحول الخلافة قال: علينا أن نكف عن الاعتقاد بأن هذا النظام التاريخي الذي لم يقم إلا على مبدأ الإجماع، هو شكل الحكم الوحيد في ظل الإسلام.

          وكان داعية وحدة بين المسلمين، ففي مقدّمة تحقيق (نهج البلاغة) يناشد المسلمين جميعاً إلى الانضواء تحت راية التوحيد ويدعو المؤرّخين إلى كشف الحقائق لا انتصاراً لفريق على فريق بل دعوة خيّرة إلى تناسي المآسي الداميات.

          وطالب باحترام حق الحياة، ورفع العدوان والظلم عن الإنسان، وضرورة كفّ الجاني بالقصاص قائلاً: العدوان على حياة فرد واحد في نظر الإسلام عدوان على كل إنسان حي، وكف الجاني بالقصاص عن قتل حياة واحدة، هو في الواقع كفه عن إزهاق الحياة كلها في أشمل معاني الحياة، وأوسعها مدلولاً، وأكثرها تفصيلاً، فما القصاص إلا حياة لأنه الحياة، وفي سبيل الحياة ؛ ولكن أعداء الحياة من زمرة الحاقدين اغتالوه في بيروت، أمام مدرسة جمال لأيتام المسلمين، وهو في أوج العطاء ؛ ولقد كان لي شرف قراءة مادتي علوم القرآن، وعلوم الحديث عليه عندما كنت طالباً في جامعة بيروت العربية في منتصف الستينات، فما وجدته سوى صاحب علم غزير، وبحث عميق، واعتدال في المقاصد، ومروءة ظاهرة.

ويصفه أحمد العلاونة بأنه: "كان يتمتّع بشخصية قوية مع حضور البديهة، وكان ذا منزلة تؤهله لأن يكون له دور كبير في لبنان، مما جعل أعداء الإسلام يسارعون إلى اغتياله".

        وكتب الأستاذ الداعية معاذ الخطيب مقالة تحت عنوان : العلامة الشهيد الدكتور صبحي الصالح (1345-1407هـ/ 1926-1986م) جاء فيها:

        مثل الشمس الساطعة في أيام الشتاء الباردة، ومثل العافية بعد المرض كان قدوم صبحي الصالح في الساعة الثامنة والنصف من صباح كل يوم إلى مقر جمعية رعاية أطفال المسلمين في لبنان، فينفق وقته في الإشراف على مدرستها لرعاية الأيتام، ومتابعة مدرسة أخرى لتعليم العلماء المسلمين اللغات الأجنبية … ، وكان قدومه يملأ النفوس بهجة بعمامته المهيبة ووجهه المشع بالنور وابتسامته التي لم تكن تفارق شفتيه، والتي تبعث الأمل وتخفف عسر الحياة في وجه كل من يلقاه.

         تأخر الشيخ صباح يوم الثلاثاء الخامس من صفر 1407هـ / الموافق للسابع من تشرين الأول عام 1986 لأنه ذهب لرفع كربة طفل، ولمساعدة أحد طلابه الفقراء.

           كان يستقل سيارة أجرة كل يوم ويشتري في طريقه جريدة الصباح … لكنه في ذلك اليوم لم يقرأ سوى عناوينها، ولم يتح له أن يدخل جمعية الأطفال فعند وقفت سيارة الأجرة وهم بالنزول اندفع باتجاهه مجرمان ملثمان يركبان دراجة نارية ومن مسافة قريبة جداً أطلقت عليه ثلاث رصاصات دخلت في جبهته وتحت عينه وفي فكه … لتنقله فيما نرجو الله إلى عالم الشهداء.

         لم يكن صبحي الصالح يسد ثغرات عظيمة في مجتمعه وبلده وحتى في الأمة المسلمة فحسب بل كان يمثل بحق الإنسان الذي كرمه الله، فحقق كرامة الله فيه بنموذج قل نظيره في المعرفة والتقى والسمو والتسامح … لم يفقده فقط أيتام لبنان.. ولكن المسلمين جميعهم فقدوه، وخصوصاً أهل السنة والجماعة في لبنان، فقد خسروا باستشهاده أحد أهم مرجعياتهم التي أعطتهم توازناً ورؤية حضارية واسعة وآفاقاً إيمانية مؤثرة … وساهمت في نقلهم من الغبش الحضاري والتشرذم إلى الرؤية الحكيمة والنظر البعيد، “وكان الصالح مقتنعاً أن حضارة العصر دائرة في الفراغ، مستعدة للرحيل … وكان يؤكد أن ضياع قيمة الإنسان هو الذي أضاع قيمة الحضارة، بين جماد المتحرك وتحرك الجماد، وبين انتصار الغريزة وانهزام العاطفة، وبين نفاق السياسة وعزلة الدين … وبرغم هذا كله كان الشهيد الصالح يتوقع حلول حضارة تقبل محل حضارة ترحل، وتوقع نور يسطع في أعقاب نجم يأفل، وإيناع حقول تثمر وسط روضات تذبل ..

         إنها من الأفق البعيد تومض وتلوح …إنها من جديد حضارة الإنسان، لأنها حضارة الدين وقيم الروح”.

        – كان للعلامة الشهيد شخصية قوية، وبديهة حاضرة، وحضور محبب، وجاذبية عفوية، وقد كان له في التلفزيون الأردني منذ أكثر من ثلاثة عقود مساجلات علمية راقية جداً مع بعض العلماء، وكان يدير ذلك الأستاذ الكبير ظافر القاسمي وهو ابن العلامة الشيخ جمال الدين، رحمهم الله جميعاً، أما في العراق فكان جامع أبي حنيفة في منطقة الأعظمية يكتظ بالشباب الملتزم العطش إلى المعرفة والعلم عندما كان يحاضر فيه العلامة الصالح ، ومن الطرائف الأليمة أنه كانت بين الشيخ الصالح وسيدي الوالد (محمد أبو الفرج الخطيب الحسني) رحمهما صحبة عميقة، واجتمعا في كلية أصول الدين في الأزهر، وكان الوالد هو أول أمين عام لاتحاد الطلاب السوريين في القاهرة، وواضع نظامه الأساسي، وكان يكتب بعض الأوراق بالعربية ويقوم الصالح بترجمتها إلى الفرنسية (وقد كان بارعاً فيها) ولست أعلم بالضبط عن ماذا كانت تلك الأوراق! ما زلت أبحث لعلي أجد جواباً.

         ولكن كما كان لهما مشرب متقارب في الحياة فقد اجتمعا في مشرب الموت، ومساء الاثنين مات سيدي الوالد فجأة وبعد أقل من اثنتي عشرة ساعة    انتقل الصالح إلى جوار الله بطلقات مجرمة، فكان المصاب في قلبي مضاعفاً بفقد الوالد ثم استشهاد الصالح، رحمهما الله جميعاً.

      من بيروت مضت جنازة الصالح إلى طرابلس الشام بلد العلماء .. وفي الطريق وقفت كل مناطق لبنان وطوائفه ومذاهبة والدموع تترقرق في أعينها .. لأنه كان العالم الذي يلم الناس إذا افترقوا، ويحيي فيهم الإنسانية إذا أطلت غرائز الوحوش، وأحنى الجميع رؤوسهم إجلالاً لموكب العالم المهيب، أما قتلته من المجرمين فظنوا أنّ صبحي الصالح ومدرسته قد انتهوا، ومازالوا يجهلون أن وراء الدجى يلد الفجر الجديد.

وبعد :

        إن الشيخ الشهيد صبحي الصالح قد تعرض للإهمال والنسيان المتعمّد، وهو يستحق منا اهتماماً أكثر؛ لأنه مفكر مستنير، ومثقف جمع بين الثقافة الأدبية والإسلامية، ودرس، وعاش في فرنسا، وأسس أول مركز إسلامي فيها، وتضلع بالثقافة الغربية، ولم ينسَ ثقافته وهويته، وكان محبّاً للعلامة المجدّد مصطفى السباعي – رحمه الله –، ومن يقرأ كلمته في العدد الخاص من مجلة حضارة الإسلام يعلم صدق ما أقول، إنه رمز من رموز الصحوة الإسلامية في لبنان وبلاد الشام، خاطب شباب العصر باللغة التي يفهمونها، وعاش هموم أمته، وضحى لأجلها، ولقي الله شهيداً ...

       رحمه الله رحمة واسعة، وأدخله فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً .

وسوم: العدد 794