الشيخ بدر الدين الحسني

الشيخ: علي الطنطاوي

قال الأديب الناقِد الأستاذ علي الطنطاوي العُقيبيُّ رحمه الله بكتابه (رجال من التاريخ):

الشيخ بدرُ الدِّين الحسني (1354هـ - 1935م): لقد فَتحتُ عينيَّ على الدنيا وأنا أسمعُ الناسَ في دمشقَ ـ العالِمَ منهم والجاهلَ ـ يَصِفونَه بأنه شيخُ الشام، وأنه المَرجِعُ في كلِّ أمرٍ، في الخاصِّ والعامِّ ...

إنْ قالَ وقفَ العلماءُ عندَ قولِه، وإنْ أمرَ لم يُخالِفْ أحدٌ عن أمرِه

يُجمِعُون على تقديمه وتعظيمِه، يَرونَ طاعتَه مِن طاعة الله؛ لأنه يُبيِّن للناس حُكمَ الله، ويُعلِّمهم شريعةَ الله

رجلٌ عاش ثمانين سنةً بالعِلم وللعِلم، ما جَرى فيها بغير العِلم لسانُه، إلّا أنْ تكونَ كلمةً لا بُدَّ منها

ما تَرك الدَّرس قطُّ ولا يومَ وفاتِه، وما تَركه إلّا ساعةَ احتضارِه

كان عجبًا في عِلمِه وإحاطتِه، واستقامةِ ذاكرتِه التي لم تَلْوِها الأيام

كان فِهرِسًا حيًّا لكُلِّ مخطوطٍ ومَطبوعٍ مِن الكُتُب في كلِّ فنٍّ، فلا تكادُ تَسألُه المسألةَ حتى يقولَ لك: هاتِ الكتابَ الفُلانيَّ وافتح، فتفتحُ كيفما جاء معك، فيقولُ: قبلَ أو بعدَ، حتى إذا دَنوتَ أخذَ الكتابَ، فقَلَب صفحتَينِ أو ثلاثًا؛ فإذا جوابُ مسألتِك كأنما وضعَه بيدِه!

كان هذا شأنُه أبدًا، لم تكن هذه نادرةٌ مِن نوادرِه، وكان ذلك منه في صِعاب المسائل وغرائبِها، يقعُ عليها في غرائب الكتب قبلَ أن تقعَ أنتَ على الكلمة في القاموس!

وكان ـ والعلماءُ في دمشقَ مُتوافرونَ وأهلُ الاختصاص كثيرونَ ـ يُعَدُّ الإمامَ المرجعَ في كلِّ فنٍّ: في اللُّغة وغريبِها، وفي الصَّرف والنَّحو، وفي فقه المذاهب الأربعة المُدوَّنة، والمذاهبِ التي لم تُدوَّن، وفي البلاغة، وفي الحديث روايةً ودرايةً، وفي معرفة الرِّجال والأسانيد، وفي الكلام والفلسفة والأخبار ...

يقرأ دئمًا، لا يَشغَلُه عن القراءة إلّا أنْ يكونَ نائمًا، أو في صلاةٍ أو درسٍ، أو في طريقه مِن المسجد إلى البيت

ما فارقَ الكتبَ قطُّ، ولا استعانَ على النَّظر بنظارةٍ، وقد مات وهو حديدُ البَصَر صحيحُه!

ما أحبَّ في الدنيا غيرَ الكتبِ وأواني الخَزَف الصِّينيِّ، فكان يشتري الكتابَ يسمعُ به ولو كان مطبوعًا في أقصى الهند، ولا يَدعُ كتابًا حتى يَقرأَه أو يتصفَّحَه تصفُّحَ المتثبِّت، كأنَّ عينَيه زجاجةُ فتوغراف، ودماغَه لوحتُه، فلا يَرى مسألةً إلّا ثَبتتْ صورتُها فيه

فكان يَقرأ ويُقرِئ أبدًا ما شاء وشاء الطَّالبُ، أقرأ الرِّياضياتِ قومًا لما طَلبوها منه، والفَلكَ والفلسفةَ كما أقرأ الحديثَ

كان درسُه في الأُمويِّ أُعجوبةً، مَن رأها ووعاها فقد رأى إحدى عجائبِ الزمان، وكان كمجالسِ الإملاء الأُولى التي كانت الدَّعائمَ الكُبرى في صَرحِ تاريخنا العِلميِّ!

فكان يأخذُ حديثًا كيفما جاء، فيَذكرُ طُرقَه كلَّها، ويُعرِّفُ بالرُّواة جميعِهم، ثمَّ يشرحُه لغةً ونحوًا، وبلاغةً شرحَ إمامٍ مِن الأئمَّة الأوَّلين، فكلُّ كلمةٍ بشاهدِها، وكلُّ شاهدٍ بتفسيره، ثمَّ يَذكرُ تعليقاتِ المحدِّثينَ بأسانيدِها ومصادِرِها، ثمَّ يَذكرُ ما أخذَ منه الفقهاءُ وما اختلفوا فيه، وأدلَّةَ كلٍّ منهم، ثمَّ يُوازنُ بينَها ويُرجِّحُ راجحَها، مِن انتهاء الصلاة إلى أذان العصر، ما يَقِفُ ولا يتلعثمُ، ولا يُعيدُ كلمةً ولا يَقطعُ جملةً، كأنما يقرأ مِن كتابٍ مفتوح

وكان يُبدِّلُ موضوعَ الدَّرس بمناسباتٍ عجيبةٍ إذا رأى ما يدعو إلى تبديلِه، وقفَ مرَّةً على درسه العلامةُ الأَجل، أُصُوليِّ العصرِ الشيخُ محمَّد بِخِيت المطيعي، فأَوسعَ الناسُ له ودَعَوه إلى الدُّخول، فدخلَ كالكارِه، وقعد مُتعظِّمًا، كأنه يترفَّعُ عن أنْ يَجلِسَ مجلسَ التلميذ، وكان بعلمه وفضله أهلًا لهذا الترفُّع، فحوَّل الشيخُ الدرسَ حتى جاء على مسألةٍ أُصوليَّة، وأَفاض في علم الأُصول ساعتَينِ ورُبعًا، والشيخُ بخيت يَلُمُّ أطرافَه، ويَضُمُّ ثوبَه، حتى جلس على ركبتِه، وطَفِق ينظرُ مَشدوهًا، فلمّا انتهى قام إليه كأنه يُشير إلى تقبيل يدِه، والشيخُ يتملَّصُ؛ إذ كان يكرهُ أنْ تُقبَّلَ يدُه، ولا يُحبُّ ذلك مِن العامَّة، فكيف مِن شيخ الإسلام؟! وقال له الشيخُ بخيت: «ربِّنا يخلِّيك، ما فيش في الدنيا النهار ده واحد تاني زَيَّك!»

كان علمُه عجيبًا، وكانت سيرتُه أعجبَ مِن علمه، عاش أكثرَ مِن ثمانين سنةً، وما عاش في الحقيقة إلّا يومًا واحدًا أُعِيد ثلاثينَ ألفَ مرَّة

كان ينهضُ مِن منامه بعد نِصف الليل، كتلميذٍ ليلةَ الامتحان، فإذا غَلَبه النعاسُ أمالَ رأسَه على الوِسادة فأَغفل، ثمَّ أَفاق والمصباحُ إلى جانبه، فإذا نهض توضَّأ مِن البِرْكة في داره، وكان في شبابه يَكسِر بيده الجَلِيدَ ويتوضَّأ في الشتاء، فلمَّا شاخَ كان يُعَدُّ له الإبريقُ على المِدفأة ليَجِدَه إذا احتاج إليه ساخنًا، ثمَّ يقوم فيُصلِّي ما شاء الله أنْ يُصلِّي ...

فإذا كان السَّحَر خرجَ فوجدَ بعضَ مُرِيديه وتلاميذِه ينتظرونه أمامَ الباب، لا يُثنِيهم مطرٌ ولا بردٌ حتى يَخرُجَ، فيَمشوا معه إلى الأمويِّ، فيُصلِّي فيه مع الجماعة، ويَمضي إلى دار الحديث إلى غرفةٍ له فيها صغيرةٍ مبسوطةٍ بالبُسط، ما فيها إلّا جِلدٌ وطرَّاحة ومخداتٌ مِن قشٍّ

ولطالما دخل هذه الغرفةَ مِن ناس، من رجالِ الدِّين ورجالِ الأديان، وطالما دَخَلها علماءُ أعلامٌ، وأمراءُ وحكَّامٌ، كانت ترتجُّ الأرضُ مِن تحتهم، وتَرتجفُ القلوبُ مِن خشيتِهم، فإذا دَخلوها نَزعُوا أحذيتَهم وجلسُوا على رُكَبِهم، وتخشَّعوا وصمتوا، فيَبقى فيها في إقراءٍ وذِكرٍ وصلاةٍ حتى يقتربَ الغروب، فيَمشي إلى داره ليُفطِر؛ لأنه كان يصومُ الدَّهرَ وفاءً بنذرٍ نذرَه!

ولقد كان موعدُ درسٍ مِن دروسِه قبلَ وفاتِه بساعتَين، فلمّا رأى الطَّلَبَةَ ما به همُّوا بالرجوع، فأشار لهم أنْ يقرؤوا وهو يستمع!

وكان مِن أعجب أمرِه أنْ لم يَغتَب أحدًا قطُّ، ولم تَجرِ في مجلسِه غِيبةٌ، وهذه مسألةٌ قد يَستَسهِلُها مَن لم يُجرِّبْها، فجرِّبُوا أن تَدَعُوا الغِيبةَ وسَماعَها يومًا واحدًا فقط، ثمَّ قولوا: يَرحمِ اللهُ الشيخَ، الذي كان في عملِه وفي سيرته بقيَّةَ السلفِ ونادرةَ العصر، والذي سيمرُّ وقتٌ طويلٌ قبلَ أن تَرَى مثلَه ديارُ الشام، لا، بل بلادُ الإسلام ...

وسوم: العدد 794