جمال فوزي الشاعر الداعية والمجاهد الصابر

المستشار عبد الله العقيل

(1330 - 1406ه / 1910 - 1986م)

مولده ونشأته

ولد الأستاذ جمال الدين إبراهيم فوزي في قرية (شنشور) التابعة لمحافظة المنوفية بمصر سنة 1910م، وتلقى تعليمه الأولي في القرية، وبعد ذلك اعتمد على نفسه في ثقافته وقرآنه، فكوّن ثقافة وعلمًا واسعًا، وقد انتظم في صفوف جماعة الإخوان المسلمين في بدايتها، وكان يعمل موظفًا بالبريد، وهو صاحب القصيدة الشهيرة المعروفة ب (ملحمة الدعوة) التي أنشدها العديد من المنشدين، وله ديوانان هما "الصبر والثبات" و"الصبر والجهاد".

صبره على البلاء

وابتلي الأستاذ جمال فوزي في كل المحن التي تعرضت لها الحركة الإسلامية المعاصرة تقريبًا، فكان متهمًا في قضية السيارة الجيب سنة 1948م، ثم محنة الطاغية عبد الناصر سنة 1954م، ثم في المحنة الثانية سنة 1965م، وأخيرًا في محنة السادات سنة 1981م، وقد تعرّض لتعذيب وحشي بشع، أتلف له أذنابُ السلطة وجلادوها نصف جسده طوليًا: إحدى عينيه، وعموده الفقري، وذراعه وخصيته ورجله، وهو الرقيق النفس، الرهيف المشاعر، فكان صابرًا محتسبًا، وهو شاعر رقيق، باسم الوجه، مرح الروح، وذلك رغم ما يعانيه من آلام خلَّفتها على جسده الأيدي الآثمة من زبانية السلطة الظالمة.

أطلق عليه إخوانه لقب (حسّان الدعوة) لأنه من أدق من وصف الدعوة في مراحلها المتنوعة شعرًا، خاصة وصفه مرحلة السجن والتعذيب أيام الطاغية عبد الناصر.

وله أشعار كثيرة، طبع منها ديوانان هما: (الصبر والثبات) و(الصبر والجهاد) فضلاً عن القصائد الكثيرة التي قالها داخل السجن وخارجه ولم تنشر.

كما كُتبتْ عنه وعن حياته وشعره، رسائل جامعية، منها رسالة للباحث عبد الباسط مصطفى في كلية اللغة العربية بجامعة الأزهر سنة 1988م.

من أقواله

"دخلنا مبنى ضخمًا وألقى بي أحدهم في إحدى حجراته، بعد أن طفنا وسط ممرات كثيرة، وبعد فترة وجيزة، صاح صوت من خلال مكبر صوت: أنت بالمخابرات العامة.. إما الاعتراف وإما الموت.. وبالطبع تبيَّنت الحقيقة بأنني في المخابرات العامة، ولكن عن أي شيء أعترف..؟! ولم يطل بي تفكيري، إذ دخل عليَّ زبانية المخابرات، ليوقعوا بالجسد المشلول المزيد من العذاب.. علقوني من ذراعيَّ إلى أعلى، وربطوهما في حبال، فصار جسدي معلقًا ومتدليًا، ثم ربطوا قدميَّ في اتجاهين مختلفين، ثم بدأت عملية الفسخ والسلخ، بشعة.. رهيبة.. قاسية.. صرت أتمزَّق، وأحسست آلامًا فوق الآلام.. فوق طاقة البشر، من صنع أناس ليسوا من البشر.. وجرَّب القوم معي في المخابرات شتى صنوف التعذيب.. وضعوني فوق ما يشبه الكرسي، ورُبطتُ من يديَّ ووسطي، ثم أخذ الجهاز يدور بي بسرعة مجنونة، ثم يتوقف عن الدوران فجأة، لتبدأ عملية المساومة.. ويمنحني الله قدرة على الاحتمال، فأواجه المساومة بالصمت.. فيدار الجهاز من جديد، حتى أحس نفسي مشرفًا على الموت.. ونزعوني من فوق الجهاز، ثم قذفوا بي على الأرض، ثم رفعوني ثانية وقذفوا بي، وهكذا مع الركل بالأقدام، وتهشيم جسدي بالعصي واللكمات، والقيد في يدي من الخلف، وعيناي معصوبتان، وأحس بحارًا من الدم تغمر ملابسي.. أمروني بالوقوف فما استطعت، فقد ماتت فيّ الحركة.. وجاء صوت قبيح كريه تحسُّ في نبراته غلظة وحش كاسر!! يقول:

- ضعوا له الخابور.

وشعرت ببقايا ملابسي الممزقة تنزع، وبجسم مدبب صلب يخزونني به.. وشعرت بالتمزق.. وكان آخر ما أذكره صيحة مدوية أفلتت مني، رغم تهافتي.. ثم رحت في غيبوبة تامة..

وأفقت من غيبوبتي، فوجدت نفسي في سيارة تنهب بنا الطريق، وأحد الضباط يوقظني.. نزع الطاقية من فوق عيني، فصرت أرى.. ويا لهول ما رأيت.. الدماء تسيل مني في نزف خطير.. وكانت بالضابط إنسانية.. أو ربما كانت حالتي من السوء حتى حرَّكت في نفسه مواطن العطف والرحمة.. حاول أن يعطيني جرعة ماء.. ولم تكن بي حاجة إلى الماء، فقد غمرتني الآلام، وكنت أشعر لهيب نار من آثار جريمة المخابرات العامة.. لم تكن مياه الدنيا بأسرها لتطفئها".

ومن أقواله أيضًا:

"إلى أرواح الشهداء الذين باعوا أرواحهم في سبيل الله..

إلى أولئك الذين عمَّقوا القرآن في قلوبهم، لتقوم دولة الإسلام على أرضهم..

إلى أولئك الذين ضمتهم سجون الطغاة، فما زادتهم إلا صقلاً وثباتًا وتمحيصًا..

إلى هؤلاء جميعًا أقدم أشعاري، تصويرًا صادقًا لأحداث جسام صاغت جنودًا للحق، يضعون أرواحهم على أكفهم فداء لدعوة الحق.

بين جدران السجون والمعتقلات صغت شعري تصويرًا لواقع مرّ برجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. وإنني لأصور بأشعاري جانبًا مما لاقاه الإخوان المسلمون على أيدي الطغاة والجبارين، ولا جريرة لهم إلا أن قالوا ربنا الله.

إلى أولئك الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه.

إلى أولئك الذين صبروا وصابروا ورابطوا..

إلى أولئك الذين انصهروا في بوتقة الإيمان، فاكتسبوا صلابة وثباتًا..

إلى أولئك الذين زادتهم السجون والمعتقلات صقلاً وعمقًا..

إلى هؤلاء جميعًا.. أهدي ترجمة صادقة لتاريخ محنة صنعت رجالاً يعضّون على دين الله بالنواجذ...".

نماذج من شعره

ذهبت يراود قلبها=أمل يحقق حلمها

ومضت تفكر كيف=تلقى غائبًا عن عشها

حملته في أحشائها=ربته في أحضانها

ودعت إله الكون أن=يرعاه من أعماقها

وتفتحت آفاقه=وتحققت آمالها

فإذا الوليد مجاهد=يرعى العهود جميعها

 

إلى الطاغية السفاح

 

تعارف

 

تحية مجلة الدعوة

 

معرفتي به

عرفته حين حضرت إلى محاكمة الإخوان المسلمين في قضية السيارة الجيب سنة 1951م برفقة أستاذنا أبي الحسن علي الحسني الندوي الذي كان يزور مصر آنذاك، وكنت وإخواني نرافقه في الكثير من زياراته ومحاضراته ومقابلاته، ومنها هذه المحاكمة التي كان من أبرع المحامين فيها، الشابُّ سعيد رمضان.

فرأيت الأخ جمال فوزي وإخوانه في قفص الاتهام، وكان شابًا وسيمًا يعتمر الطربوش، يقف بشموخ وعزة نفس ورباطة جأش، واثقًا بعدالة قضيته. وكنت قد رأيته قبل ذلك سنة 1949م، حين زرت السجن مع الشيخ مناع القطان أول قدومي لمصر للدراسات الجامعية، حيث كان سجناء الإخوان المسلمين في قضية السيارة الجيب يقبعون في السجون، في انتظار المحاكمات، لقاء جهادهم في فلسطين، ومقاومتهم للاستعمار والمستعمرين وأذنابهم، وقد تكررت لقاءاتي به في القاهرة وغيرها أثناء الرحلات والكتائب والمخيمات، ثم كانت المحنة سنة 1954م التي غيَّبت معظم الإخوان في سجون الطاغية عبد الناصر، وكنت تخرجت وغادرت مصر، ولم ألقه إلا في سنة 1976م في التوفيقية في مكتب المرشد العام الثالث عمر التلمساني، وفي منزله، حيث سعدت به كثيرًا في كل زياراتي، ورأيت فيه الرجولة والصلابة بكل معانيها في مواجهة الطغيان، والشفافية والرقة والحب والحنان في معاملة إخوانه، وعلاقته بالناس جميعًا، والأدب الجمّ، والتواضع، والطاعة، والامتثال لقيادة الجماعة، وبخاصة الأستاذ عمر التلمساني، الذي كان يحبه ويقرّبه منه، وكنت ألحظ ما يعانيه من آلام خلّفتها أيام التعذيب في السجون، فكان يصلي على الكرسي، ولا يستطيع الانحناء أو الركوع والسجود، ورغم ذلك، كان يمارس عمله الدعوي، ونشاطه الحركي، ودروسه وأحاديثه في تجمعات الإخوان وحلقاتهم بكل نشاط وحيوية، وكنت أرى احتفاء الإخوان به، خاصة الأخ جابر رزق الذي يذكر الكثير من مواقفه وثباته في المحن المتتابعة على الحركة الإسلامية المعاصرة. ولقد سعدت وإخواني بقصائده التي نشر معظمها في ديوانيه: "الصبر والثبات"، و"الصبر والجهاد"، ولقد سبق أن قمت باختيار بعضها ونشرها في مجلة المجتمع الكويتية الغرّاء.

كما قام الأخ الأستاذ حسني أدهم جرار، والأخ الأستاذ أحمد الجدع بنشرهما فيما أصدراه من كتب ودواوين وأناشيد.

قالوا عنه

يقول الأستاذ عمر التلمساني:

"... أنت ثائر على الظلم إذا استعرضته معك.. وأنت أسوان مع الحزانى إذا مُرَّ بهم أمام خاطرك.. وأنت غاضب على الظلم، كاره له إذا شاهدت من خلال الشعر أيديهم تعلو باللهب، وتنزل محترقة.. أنت معه في كل ما أراد منك أن تكون معه فيه، وهذا هو الصدق في القول".

ويقول الأستاذ عبد الله الطنطاوي:

"لله درّ دعوة الإخوان.. دعوة الرجل الرباني الذي لم تنجب الأمة الإسلامية مثله منذ بضعة قرون.. الإمام الشهيد حسن البنا (رضي الله عنه وأرضاه)، فقد صنعت هذه الدعوة رجالاً، واكتشفت معادن رجال ما كانوا ليُعرفوا، لولا هذه الدعوة الراشدة المباركة.. من هؤلاء الرجال: الشاعر الداعية جمال فوزي، عامل البريد، الذي عرف حقيقة هذه الدعوة، فالتصق بها، وكان من خيرة أبنائها، وعيًا، وإخلاصًا، وحركة، وتضحية.. وعرفت الدعوة كنه هذا الرجل الذي قد يزدريه "الخواص" في ثيابه، وفي المكان الذي يحتلّه في السلّم الاجتماعي، موظفًا بسيطًا، يتقاضى بضعة جنيهات كل شهر.. عرفته الدعوة، وكشفت عن مخبوءات رجل أين منه الرجال.. رجل تجاوز بعطاءاته من يحسبهم الناس كبارًا. فجّرت نفسه المتواضعة، مكوّنات العبقرية والعظمة الخاشعتين لله الواحد الأحد، الشامختين على الحطام والطواغيت والمال والجاه، وكل ما يقتتل من أجله أكثر الناس.

ولله در هذا الرجل البسيط في هيئته، العظيم في روحه ونفسه ومواقفه وشعره، وفي صبره وجلده في مواجهة الخطوب، وتحمّله للمحن، وشموخه على فراعنة العصر الحاكمين بأمر غيرهم، القادرين على شعوبهم بنذالتهم ونذالة من صنعوهم على أعينهم وبأيديهم في واشنطن، وموسكو، ولندن، وتل أبيب، وسواها من عواصم العدوانيين.

ما قرأت قصيدة أو مقطوعة لجمال فوزي إلا هزّت كياني.. فجعلتني أحسّ بعظمة هذه الدعوة، وخسّة أعدائها، من لدن فاروق، إلى العبد الخاسر، وأتباعهما من العبيد العبيد العبيد.

قد لا يكون جمال فوزي متفننًا في شعره، وما ينبغي له أن يكون كذلك، لأنه داعية، والدعوة هي التي تتحرك على لسان روحه شعرًا يهزّ كلّ من كان له قلب وعاطفة.. شعر هو السحر الحلال.. وهو تاريخ لهذه الدعوة، وخاصة الابتلاءات التي ابتُليت بها على أيدي من لا أستطيع أن أصفهم بما فيهم من خسّة، ودناءة، وبذاءة، ووحشية.

شعر جمال فوزي صورة لروحه الشفيفة.. لإيمانه العميق.. لثباته في وجوه الأعاصير.. ولعله واحد الشعراء بتأثيره فيمن يقرؤه أو يسمعه.. مع أن الشعراء الذين ابتلوا كثر، وأبلغ بلاغة من جمال فوزي، ولكن ما يتميز به شعر جمال فوزي هو غير البلاغة.. هو شيء تشعر به ولا تكاد تحسّه.. شيء لا أستطيع أن أصفه إلا بأنه قطعة حقيقية من جمال فوزي".

وفاته

انتقل إلى رحمة الله تعالى في الرابع من مارس سنة 1986م، قبل وفاة رفيق الدرب الذي كان لا يفارقه الأستاذ عمر التلمساني بشهرين، حيث شيعه إخوانه في موكب مهيب.

رحمه الله رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته، مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا، والحمد لله رب العالمين.

وسوم: العدد 843