محمد سعيد الطنطاوي1 - مدرسة علمية تربوية متميزة

الشيخ منير الغضبان

clip_image002_d5286.jpg

يسر موقع رابطة العلماء السوريين أن تقدم هذه الترجمة المحفزة عن فضيلة العالم المربي الزاهد الشيخ محمد سعيد الطنطاوي التي قدمها تلميذه الوفي الحفي الدكتور محمد منير الغضبان جزاه الله خير الجزاء، وهذه الدراسة لم تستوف جوانب الشيخ ومواهبه المتعددة

وتلاميذ الشيخ كثيرون، والناهلون من علمه وفضله متنوعون، ولدى كل واحد من نوادر أخباره وعجائب أحواله، ما ليس لدى الأخر، ولهذا ندعو الإخوة عارفي الشيخ ومحبيه أن يوافونا بما لديهم من ذكريات وأخبار عن الشيخ لنستوفي ترجمته ونعرف بفضله ونجدد الدعوة لاستيفاء كثير من التراجم المنشورة إذ لدى بعض الإخوة من المعلومات والأخبار ما لم نوفق لنشره فنجدد الدعوة لإرسال ما لديهم، لإضافتها إلى الترجمة مع إضافة الفائدة لصاحبها.

وستقوم رابطة العلماء السوريين بجمع هذه التراجم وتقديمها في كتاب يعرف بعلمائنا وجهودهم وجهادهم العلمي والدعوي والتربوي والله الموفق.

محمد سعيد الطنطاوي

مدرسة علمية وتربوية متميزة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على سيدنا محمد الرحمة المهداة وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

علامة الشام الشيخ محمد سعيد الطنطاوي، يصعب الحديث عن علمه وفكره دون الحديث عن شخصه لأنه لم يكن يوماً مجرَّد عالم فقط، أو مفكر فحسب، لقد كان طيلة حياته مدرسة تربوية كاملة.

قد تلتقي مع كل فروعها، وقد تختلف مع بعضها، لكنك في النهاية تحترمها، ولو خالفتها في بعض جزئياتها، وهو اليوم ـ فيما أرى ـ الحجة على الأمة، في سلوكه، والقدوة لشبابها في عمله، في الوقت الذي يرفض أن يعتبر نفسه كذلك.

ولن تستطيع أن تتناول جوانب شخصيته كاملة إلا من خلال كتاب موسع، أو سفر كبير، ومن أجل هذا سيكون الاختصار غير المخل هو طابع هذه الكتابة، مرجئاً التفصيلات والتحليلات إلى ذلك الوقت، وأجدني محاصراً خلال أسبوعين لكتابة هذه الإلمامة عنه، أو التعريف فيه، من دون أن أتفرغ لذلك في قلب مشاغلي، وكتاباتي وأعمالي الأخرى، راجياً القربى من الله تعالى في تعريف الأمة على هذا العالم الحبر، والشيخ القدوة، آملاً من الله جل ثناؤه القبول والرضا، إنه على ما يشاء قدير، وبالإجابة جدير، والحمد لله رب العالمين.

الشيخ العلامة محمد سعيد الطنطاوي

1ـ ولد في دمشق عام 1923للميلاد.

2ـ توفي أبوه وعمره ثلاثة أشهر، وتوفيت والدته وعمره سبع سنين.

3ـ اسم أبيه مصطفى بن أحمد بن علي بن مصطفى الطنطاوي، ومصطفى هذا هو الذي قدم من مصر.

4ـ كان أصغر إخوته جميعاً، وكان الإخوة الأربعة: العلامة الشيخ أديب العربية علي الطنطاوي وهو أكبر إخوته وهو الذي رعاه في صغره، وأشرف على تربيته، والذي كان عمره ثلاثة عشر عاماً عند وفاة والده.

5ـ يلي الشيخ علي الطنطاوي، ناجي الطنطاوي الذي عمل في حقل القضاء طيلة حياته وساهم في عالم الأدب والعلم الشرعي.

6ـ يلي ـ ناجي ـ الدكتور عبد الغني الطنطاوي أستاذ مادة الرياضيات في جامعة دمشق، وأول دكتور في الرياضيات في سورية، كما درس في جامعة الملك عبد العزيز، وجامعة أم القرى في المملكة العربية السعودية.

7ـ جدُّه أبو الفتح الخطيب ، من جهة أمه، له ثلاثة أولاد: محب الدين، ورئيفة والدة الشيخ، وبهية. وأسرة الخطيب كانوا خطباء المسجد الأموي بدمشق، ومحب الدين الخطيب الداعية الكبير والصحفي الشهير خاله .

8ـ دخل الكُتَّاب لنصف يوم، ولم يُعجبه لأن الذي يدرس فيه امرأة عجوز،ثم دخل المدرسة في مسجد الأقصاب بدمشق(مز القصب) في حي السادات، ثم دخل المدرسة الإعدادية.

9ـ ترك الدراسة في الصف الثاني متوسط، ثم تقدم لدراسة حرة لشهادة الإعدادية، فنجح وعاد فانتظم في دراسته الثانوية.

10ـ حين فتحت كلية العلوم بجامعة دمشق بعد الاستقلال، كان من الفوج الأول الذي دخلها وتخرج فيها .

تعرفي عليه:

كنت في سن المراهقة دون الخامسة عشر من العمر، حين كنت أسمع عنه من أحبابه، وعلى رأسهم الأستاذ عصام العطار، الزعيم السوري الكبير ، وكان له صورة في مخيلتي ، من خلال الثناء العطر عليه، في عمامة كبيرة، وجبة واسعة، مثل ما يلبس علماء الشام العريقون.

وقُدِّر لي أن ألتقيه بعد سنة من هذا العمر، وأنا طالب في الصف الأول الثانوي في صلاة الظهر في بلدي ـ التل ـ التي تبعد خمسة عشر كيلاً عن العاصمة دمشق، ومعه خمسة عشر طالباً بسني معظمهم في هذا الصف ـ وفي عطلة الصيف ـ حيث نستعد لدخول ـ الحادي عشر ـ مع افتتاح المدارس، دلوني عليه، فإذا هو شيخ شاب أسود اللحية فاحمها، على رأسه قلنسوة عاديَّة، يلبس معطفاً طويلاً تحته بنطال يرتفع فوق الكعبين، سمته البساطة المتناهية، سلَّمت عليه بحرارة، ودعوته لتناول الغداء عندنا مع هؤلاء الفتيان، فوافق على شرط أن لا أضع على الغداء إلا زيتوناً وبندورة، وهو يشتري سطل اللبن الرائب، ورأيت الجدَّ الصارم منه في هذا الأمر.

فوافقت، راح يشتري اللبن، وجد البائع قد علَّق صوراً لنساءٍ في حانوته، نصحه، وناقشه، فانزعج البائع منه لتدخُّله في خصوصياته، فتركه ومضى إلى بائع آخر، اشترى منه اللبن، وكان ذلك عام ثمانية وخمسين وتسعمائة وألف للميلاد، ومضى مع هؤلاء الطلبة إلى بيتنا، وتناولوا الغداء عندنا من الزيتون واللبن والبندورة، ودعاني لمرافقتهم إلى منين، القرية المجاورة مشياً على الأقدام.

جلسنا بجوار نهر منين في ظل شجيرات جميلة، وتنوَّع الحديث فيما أذكر عن الجانب العلمي في التاريخ الإسلامي، ومن أين أتى اسم مادة الكيمياء، وأن أصلها ـ السيمياء ـ وهو علم السحر، ومحاولة صنع الذهب من المعادن العادية، وعرفت فيما بعد أنه أستاذ مادة الكيمياء والفيزياء في أكبر ثانويات دمشق (التجهيز الأولى)، وهؤلاء طلبته فيها، وهذا هو اختصاصه العلمي، وكان الجانب الآخر من الحديث عن الزهد في الدنيا، والشوق للآخرة، وكان الحديث من القرآن والسنة والشعر، وسمعت أبياتأً رائعة لأبي العتاهية وحفظت منها:

بين عيني كلِّ حيّ عَلَمُ الموت يلوح

لَتَمُوتنَّ ولو عُمِّرت مثلَ ما عُمِّر نوح

واستمرَّ الحديث قرابة الساعتين والنصف لم نحس به إلا وكأنه دقائق، ولاحت الشمس للغروب، فانفضَّ مجلسنا عائدين إلى التل، حيث صلينا المغرب هناك، ولم نجد سيارة تقلُّهم فمضوا إلى الوادي، بينما كان الشباب القادمون بالدراجات قد غادرونا إلى دمشق، حيث وجد الباقون والشيخ معهم سيارة في وادي التل ماضية إلى دمشق قريب العشاء فاستقلُّوها إليها.

وعرفت فيما بعد أن هذا ديدنه مع هؤلاء الشباب كل أسبوع، حيث يمضون لإحدى القرى المجاورة لدمشق مشياً على الأقدام وبعضهم على الدرجات ويمضون الوقت بين عبادة ورياضة وتدريب وموعظة وطعام يسير، وأصبح هؤلاء فيما بعد قادة فكريين أو علماء أو أساتذة لامعين.

في ثانوية جودت الهاشمي:

قُدِّر لي أن أكون طالباً في التَّجهيز الأولى ـ ثانوية جودت الهاشمي فيما بعد، وكان أساتذة المادة خمسة مدرسين، ولم يقدر لي أن أكون عنده، ولم أكن من المبدعين في الجانب العلمي، حيث اخترت أن أُتم الشهادة الثانوية فيما بعد في الفرع الأدبي، وكنت أسمع عن قصصه العجيبة في الثانوية فلم يكن ليدخل قاعة المدرسين في الفرصة إطلاقاً، إنما يتجمع الطلاب حوله في نقاش فكري معه، وأسئلة علمية وأذكر إحدى هذه الفرص، فقد علَّم طلابه أن عندهم امتحاناً (مذاكرة) على رأس كل شهر عربي ، فجاءه طالب وسأله:

أستاذ: هل عندنا امتحان في شهر جَماد الأول؟

قال له: شهر جَماد؟ (مستنكراً) شهر جُمادى. أما سمعت قول الشاعر؟

ركبت من المقطم في جمادى إلى بشر بن مروان البريدا

قال: لا ، قال له: ألا تعرف بشر؟ قال: لا . قال: أخو عبد العزيز. أما تعرف عبد العزيز؟ قال: لا . قال: أبو الأشج، ألا تعرف الأشج؟ قال: لا (وكلنا نستمع وكلنا لا نعرف شيئاً مما يسألنا عنه) قال: الأشج والناقص أعدلا بني أمية، ألا تعرف الناقص؟ قال: لا . قال: بشر هو بشر بن مروان بن الحكم، وأخوه عبد العزيز بن مروان والي مصر لأخيه عبد الملك بن مروان، وعبد العزيز هو أبو الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز، الذي سُمِّي بالأشج، لشجَّةٍ كانت في وجهه أو رأسه، والناقص هو يزيد بن الوليد الذي ثار على الوليد بن يزيد وقتله.

وكان عمر بن عبد العزيز ويزيد بن الوليد هما أعدل بني أمية ، وقُرع جرس انتهاء الفرصة ومضينا إلى صفوفنا.

وشهدت آنذاك، ثقافته التاريخية الواسعة، وعرفت أنه داعية في كل لحظة من لحظات حياته، فهو مع الطلبة والشباب في كلِّ لحظة ينهلون من علمه، ويستفيدون من ثقافته.

وحدثني ـ فيما بعد ـ أنه كان يُعطي الطلبة في دمشق أربع دورات علمية في الصيف: بعد صلاة الفجر، الذين كانوا يمشون ما بين الخمسة والعشر كيلو متر كل يوم قبيل الفجر ليحضروا هذه الدورات في الحديث والفقه والسيرة والتفسير، إضافة إلى رحلاته الأسبوعية التي لا تنقطع معهم.

منهجه التدريسي:

مما عرفته عنه أنه كان دائماً ينهي المنهاج التدريسي قبل زملائه جميعاً لأنه يعتكف في العشر الأخير في رمضان كل عام، سواءٌ وافقت الوزارة أم لم توافق، ولا يمكن للوزارة أن تحاسبه، فتدريسه وطلابه أكثر الطلبة جداً واجتهاداً، وكان لا يخل إطلاقاً في لحظة من لحظات تدريسه، وينهي المنهاج قبل زملائه المدرسين، ولا يقبل أي عذرٍ لتغيُّب الطَّلَبة عن الحصَّة الدراسية.

كيف أعفيت لحيتي؟

كنت قد غادرت الثانوية، فالتقيُته مرَّة في أحد مساجد دمشق، صلينا ووقفت معه قال لي: لم لا تربي لحيتك؟ وصرت في الصف الثالث الثانوي. قلت له: لو ربيت لحيتي لأخرجني أهلي من البيت وطردوني، فليس في بلدناكلها أحد له لحية، فلو فعلت لاتهموني بالجنون، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها، قال: ما معنى: {لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}؟ وكيف تطبقها على إطلاق اللحية؟

قلت: هل يطلب الله تعالى مني أن أبقى مشرَّداً بلا بيت، قبل أن أنهي دراستي، وأعمل بوظيفة أرتزق منها؟ وحيث أن إطلاق اللحية سوف يقودني إلى هذا المصير فهذا فوق وسعي، ولا يكلِّف الله نفساً إلا وسعها.

قال لي دقّق بقول الله عزّ وجل:{لَا يُكَلِّفُ اللهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}فهذا يعني أنه ما من تكليف يكلف الله تعالى به عبده إلا وهو في وسع الإنسان، فإذا كان الله تعالى قد حرَّم عليك حلق لحيتك، فهذا يعني أن إطلاقها بوسعك، لأن الله تعالى لا يكلِّف بأمر ليس بوسع الإنسان.

أحسست أنه قلب معنى الآية عندي قلباً جذرياً، واختلف تفسيرها كاملاً عما كنت أفهمه، ثم تابع: هل تعلم أنَّ قلب أبيك وأمك هو بيدهم، أم بيد الله عزّ وجل؟

قلت: بيد الله عزّ وجل. قال: هل يمكن أن يتركك ربك وحدك حين تطلق لحيتك، ولا يغيِّر قلب أبويك لقبول هذه الطاعة، جرِّب الأمر ثم قابلني بعد ذلك.

وبقيت هذه الكلمات ترنُّ في أعماقي أربع سنين، لا أجرؤ على توفير لحيتي، وضميري يعذبني على حلقها، وبعد أربع سنين عُينت معلماً ابتدائياً بإحدى قرى دير الزور، وصمَّمت أن أدخل على بيتي بلحيتي الخفيفة، حيث كنت قد جئت مع امتحان السنة الثانية ـ شريعةـ

كانت والدتي تخبز الخبز على التنور، ورأت لحيتي ـ رحمها الله تعالى ـ وصرخت: ربيت لحيتك ، عد فاحلقها، قال لها والدي ـ رحمه الله تعالى ـ: يتأخر على الامتحان يحلقها بعد العودة من امتحانه، فصمتت أمي على مضض على أن أحلقها بعد العودة من الامتحان .

قالت لي في اليوم الثاني: إذهب واحلق لحيتك، قال لها أبي: عيب لقد رآه الناس بلحيته، ثم يحلقها، دعيه عندما نزوِّجه يحلق لحيته، ثم صمتت على مضض، وحُلَّت أعقد مشكلة بقيت تؤرقني أربع سنين.

وغيَّر الله قلب أمي وأبي، وكنت أول من أطلق لحيته في بلدي، وعرفت صدق فراسة الشيخ وتحليله وتفسيره للآية الكريمة.

هكذا كانت تربيته، وكنت أول من سنَّ هذه السنة، فبدأ الشباب من إخواني يتقاطرون على تقليدي.

أثره في صفوف الشباب المسلم:

استطاع رحمه الله أن ينشر هذه السنَّة في صفوف الشباب والدعاة في الوقت التي لم يكن لها وجود عندهم، وأن ينشر تلقّي العلم الشرعي والمحافظة على صلاة الجماعة، والدعوة إلى قيام الليل، والجمع بين الجدِّ في الدراسة ومتابعة العلم الشرعي، والسلوك الإسلامي ، وكوَّن مدرسة من الشباب الإسلامي يتحدى واقعه الآسن، ويهتم بدينه ودعوته بدل أن يكون متسكّعاً في الطرقات، هائماً وراء ملاحقة البنات.

اللقاء الرابع في دمشق:

لقيته مرة رابعة في مسجد في أحياء دمشق الراقية، وسألته عن أحواله، وكان ذلك اللقاء قبل نهاية الوحدة بين سورية ومصر، حيث صرت طالباً في السنة الثانية بكلية الشريعة عام 1960م ، فقال: انظر . وأشار إلى مبنى المجلس الأعلى للعلوم والآداب، وهو الذي لا يصل إليه إلا جهابذة العلماء، وكبار الأساتذة.

قال: أنا مسجون هنا، واعتبر نقله لهذا الموقع سجناً له، ومنعاً له عن ممارسة نشاطه في صفوف الطلبة ، فكيف وصل إليه؟.

أخذت الجواب منه بعد ثلاثين عاماً في شوارع مكة المكرمة.

في دار المعلمين:

حدَّثني عن مرحلة دار المعلمين، حيث نقل إليها، ومعظم الطلبة من الفئات الجاهلة، المنتسبة إلى الإسلام، والقرى، وقد صاروا حزبيين والأساتذة يُسايرونهم، وقد ضجوا منهم، ولكن باستعمال أسلوب إخافة الكبار سيطر على الصفوف سيطرة تامة، وعجز الحزبيون عن إيذائه، إلا عن طريق التقارير بحقّه إلى المخابرات، وقد استُدعي مرتين، وناقش مسؤول المخابرات لمدة لا تقل عن خمس ساعات، وكانت المناقشة تحمل الاحترام له.

تدريسه في طرطوس ونقله إلى المجلس الأعلى للعلوم والآداب:

ثم تلقَّى خبر نقله إلى طرطوس في آخر العام الدراسي 1959ـ1960، في عهد الوحدة وعهد الرئيس عبد الناصر، ووصل إلى هناك أثناء تصحيح أوراق الامتحان، أو قبل ذلك بقليل ابتدأ التصحيح وطلب منه المشاركة فرفض أن يشارك في جوِّ الاختلاط بين المدرسين والمدرسات، جادله رئيس القاعة فرفض وجلس في قاعة مستقلة.

استدعاه مدير التعليم ـ وهو دمشقي ـ مثله، واستمرت المناقشة بينهما من الصباح حتى الثانية ظهراً أو أكثر، وحدث في اللقاء أن ذكر مدير التعليم ضرورة تنفيذ أوامر الوزارة، فأخرج مصحفاً كان في جيبه وقال له: هذا هو القانون الوحيد الذي أسمع له وأطيع وما عدا ذلك فهو تحت قدمي.

استدعاه مدير التعليم ثانية بعد الظهر، وحاول استعمال اللين معه، وأنه يعمل لصالحه، ويطلب منه الموافقة فرفض. طلب منه أن يكتب رفضه فقال له: سؤالك شفهي وإجابتي شفهية، وبعنف أخذ مدير التعليم ورقة، وكتب عليها السؤال، وطلب منه الإجابة عليه:

فراح يكتب الجواب ويهاجم الاختلاط في التصحيح بين المدرسين والمدرسات، وأحسَّ أنه سيخسر الجولة، فتطرق إلى عبد الناصر وأحاديثه عن الأخلاق والتدين، وأنكم تخالفون تعليماته، قرأ مدير التعليم الجواب، فَسُرَّ بأوله وانفعل بآخره انفعالاً شديداً.

ثم كان لقاء اليوم الثاني معه، واستعمل معه الليونة دون جدوى، فاستدعى وكيله وقال له: ناقشه ، وإن بقي مُصراً على موقفه، فأعطه إذن سفر ليغادر إلى دمشق، ودون جدوى وأُعطي إذن سفر، رغم أن الأمر من الصعوبة بمكان.

وصل إلى دمشق ليرى أمر نقله إلى المجلس الأعلى للعلوم والآداب، وهناك وجد مكتبة، وراح ينظمها ويقرأ ما فيها، وخاصة سلسلة الألف كتاب، وكان هذا حبسه الذي حدَّثني عنه.

*******************************************

مفتاح شخصيته:

سمته ومفتاح شخصيته: أنه كان لا يخشى في الله لومة لائم، يستشعر عظمة الله، فيصغر المسؤولون والآخرون في عينيه كأنهم ذباب، ولا يضيره في سبيل الحق ما أصابه أو نزل به.

مواقفه في الجهر بالحق:

وحتى نلقي إضاءات أكثر على مفتاح شخصيته في أنه لا تأخذه في الحق لومة لائم، وأنه يقول الحق مهما كلفه من ثمن، نعرض لبعض هذه المواقف.

أ ـ وهو طالب في الجامعة:

أسس مسجد الجامعة، وكانت تقام فيه الصلوات الخمس، ثم خطط لإقامة صلاة الجماعة فيه، وأصبح يقصد من كل أنحاء دمشق، حيث كان خطباؤه علي الطنطاوي، ومصطفى السباعي، والشخصيات الإسلامية التي تزور سورية مثل سيد قطب، وأبي الحسن الندوي، وتقي الدين الهلالي، وكان شوكة في عيون أعداء الإسلام، حيث أرادوا تحويله إلى نادٍ بصفته في منتصف الجامعة وحوله حديقة الجامعة، وكانت أعنف هذه المحاولات أيام الدكتور قسطنطين زريق والذي صار رئيس الجامعة السورية، وهو من أركان دعاة فكرة القومية العربية.

جاء إلى الشيخ سعيد أحد الطلبة وأخبره أن القرار بتحويل المسجد إلى نادي من رئيس الجامعة قد صدر، ولم يبق إلا التوقيع، فأخذ بيد هذا الطالب، ومضى به لمقابلة رئيس الجامعة، وعلى الطريق التقى ثلاثة طلبة آخرين فأخذهم معه، وكان تخطيط قسطنطين زريق رهيباً، فله مساعد ، وله ديوان ورئيس ديوان،وحُجُب.

حاول الدخول عليه عن طريق رئيس الديوان فلم يفلح، أتى إلى باب رئيس الجامعة وقرع الباب بعنف ففتح الباب، حيث كان رئيس الجامعة قد انفضّ من اجتماع عام، وبدبلوماسية جلس رئيس الجامعة يسمع له.

وبقي الشيخ سعيد يدور برئيس الجامعة، ولم يعرف الرئيس طلبه بعد، قال له: نحن طلبة في الجامعة ونحن طلبة متدينون وخلوقون، وأنتم أوسدت لكم رئاسة الجامعة لما تملكون من الحكمة والتوازن، ورجاحة العقل، والمشكلة هي أن الطلاب المغرضين يصدرون الإشاعات المغرضة عنكم لتحطيم سمعتكم، ومما يشيعون: أنك صليبي حاقد على الإسلام والمسلمين، طائفي تريد أن تنتصر لطائفتك من النصارى، ولا أدل على ذلك من السعي لإزالة معالم الإسلام من الجامعة وإلغاء المسجد.

اكفهرَّ وجه رئيس الجامعة قسطنطين، واضطر إلى نفي صلته بهذا الموضوع، وتمَّ إيقاف القرار بالاعتماد على هذا الأسلوب.

ب ـ في أول الطريق: سنة أولى تدريس:

تمَّ تعيينه بجبل الدروز فرفض ذلك التعيين، وكان المدرسون يتمنونه لقربه من دمشق، وخُيِّر بين محافظات حمص وحلب واللاذقية، واختار اللاذقية ليتعرف عليها، وعيِّن في ثانوية طرطوس عام 1953، مدرساً على طلاب الثانوية العامَّة كان عدد الطلبة أربعة وأربعين طالباً ليس فيهم إلا أربعة طلاب مسلمين سنة، وكانت سورية آنذاك في وضع قلق ، فكانت المظاهرات السياسية تجوب البلاد ، وكانت تنعكس على الخطة التعليمية في سورية.

خرج طلاب المدرسة الذين ينوفون عن ألفي طالب في مظاهرة صاخبة، ولم يبق إلا الفصل الذي يدرس فيه الشيخ سعيد، وتقدّم زعيم الطلاب واستأذن ابتداء بأدب، وطالب بإخراج الطلبة لينضمّوا إلى زملائهم، ورفض الشيخ ذلك، وغضب الزعيم الطلابي، فطرق الباب ثانية، ومدّ يده وشق أوراق الطالب الأدنى إليه، فغضب الشيخ وأخرجه، ثم طلب من إدارة المدرسة معاقبته.

كان المدرسون حوالي سبعين مدرساً، وكلهم أو معظمهم متعاطفون مع الطالب، فالكل يجمعهم التيار الشيوعي، وأصرَّ الشيخ على أن لا يدرس ما لم يعاقب الطالب، ورُفع الأمر إلى المحافظة (اللاذقية)، ثم إلى الوزارة، وحضرت لجنة وزارية من دمشق، واجتمع المدرسون واللجنة الوزارية ولجنة المحافظة جميعاً لحل مشكلة الطالب مع الشيخ. أثناء الاجتماع أذن الظهر، فوقف الشيخ، وغادر القاعة، ومضى لصلاة الظهر في المسجد، والكلُّ مجتمعون من أجله، والثانوية في شرقي البلدة والمسجد في غربها، وصاروا في حالة من الغضب والغيظ، لا يعلم إلا الله مداها، انتظروه قرابة نصف ساعة، أو أكثر حتى عاد من المسجد، وقام رئيس اللجنة الوزارية بعد عودته، وقد ضبط أعصابه وكظم غيظه، وهو الأستاذ جودة الركابي وقال: باسمي وباسم اللجة الوزارية وباسم إدارة الثانوية نتقدم من الشيخ سعيد أن يصفح عن هذا الطالب ويعود للتدريس.

رفض الشيخ سعيد كلَّ هذه الطلبات، مُعلناً أن العفو لا يكون قبل تحديد العقوبة، وبعدها يكون العفو، وأرفق ذلك ببيت مناسب من الشعر، وانفض المجلس دون حل للمشكلة، وكلفت إدارة الثانوية مدرساً آخر لتدريس طلاب الثانوية في هذه الشعبة مادة الكيمياء والفيزياء.

الطريف في الأمر أن هذه الشعبة قامت بإضراب معاكس، ورفضت المدرس البديل، وأصرَّ الطلاب على أنهم لا يرضون مدرساً إلا الشيخ، فهم يعرفون قدرته العلمية ، وطريقته التقنية، وانتهى الأمر باعتذار الطالب للشيخ، وعودته لتدريس المادة.

لا كبير عنده إلا الله. وصلاة الظهر، وإجابة الداعي، والصلاة مع الجماعة شيء أساسي في حياته، ولا أذكر خلال ثلاثين عاماً رافقته في السعودية، أن فاتته صلاة جماعة في المسجد أو أُحرج من ضيوف عنده فتلكأ عن الصَّلاة.

 ج ـ في نهاية الطريق في سورية : سنة أخيرة تدريس:

نقل الشيخ سعيد إلى ثانوية الثقفي، ودخل الثانوية بثوب وشحاطة وغطرة(حطة) وحسبوه آذناً، ودخل على الصف الأول الثانوي، ووجد الطلاب يجلسون فوق المقاعد.

ابتدأ حديثه عن العلم، وعن المادة الكيمياء، وساد الوجوم والخوف والإنصات، وحدثهم عن طريقته في إعطاء المادة وأنها غير مرتبطة بالكتاب، وكان يعطي اهتمامه لحل المعادلات والمسائل، وصار طلاب الثالث الثانوي الذين لا يدرسهم يأتون ليسألوا طلاب الأول الثانوي الذين يدرسهم.

وفي عام 1963ـ1964حيث قام انقلاب الحزب، ثم سيطرته بعد عدَّة أشهر، وقضائه على خصومه الناصريين، وراحوا يكتبون على الجدران بعض الشعارات الحزبية، اعترض على ذلك.

قال له المدير: سنمحوها عندما تهدأ الأحوال، وطالب بمحوها حالاً، فلم يستجب المدير لطلبه، قال له: دراسة وحزبية لا تجتمعان، أنا جالس في بيتي إلى أن تُمحى هذه العبارات، فبعث له المدير كتاباً يطلب منه الإجابة كتابياً عن سبب انقطاعه فكتب الجواب الذي أجابه للمدير كتابياً.

وصل الكتاب للوزير فاعتبره مستقيلاً لتغيبه خمسة عشر يوماً، وأصدر قرار فصله، لكن المستشار القانوني في الوزارة، اعترض على القرار، لأن المدرس كان له نصابان، نصاب في ثانوية الثقفي ونصاب في المعهد العربي الإسلامي ، وهو لم ينقطع يوماً واحداً عن الدوام في المعهد العربي. والمادة تنصُّ على الفصل حين يكون الانقطاع خمسة عشر يوماً متتالية, فأُلغي القرار، ونقل إلى الثانوية الصناعية، وجُمع نصابه كله فيها، ذهب إليها ، وجد الأجواء الحزبية كذلك على أشُدّها.

وفي اليوم الثاني من ذي الحجة سافر إلى الحج، ووقع خلاف بين وزير الداخلية ووزير التربية: كيف سمحوا له بالخروج، وصدر قرار فصله من التدريس من رئيس مجلس الثورة ورئيس الوزراء ووزير التربية، أمين الحافظ، وصلاح البيطار، ومصطفى حداد.

دـ عام 1958م كان مدرساً بثانوية (جودة الهاشمي) بدمشق أول ثانويات دمشق وأهمها، وتشكَّلت لجنة لمحاكمته مؤلفة من الأمين العام للوزارة أحمد الفتيح ورئيس هيئة التفتيش هاشم الفصيح، ورئيس التعليم الثانوي، وشخص رابع بناءً على التقارير المرفوعة عنه، وأبلغوا مدير الثانوية لإحضاره، فجاءه الموجه وكان في حصة دراسية، وطلب منه أن يمضي إلى الوزارة لأن اللجنة في انتظاره، تهكَّم على الموضوع وقال: هل أنا متعاقد مع الأمين العام للوزارة؟ أنا متعاقد للتدريس، والآن حصة دراسية لا أستطيع المغادرة.

حاول الموجه وتململ، ولكن دون جدوى، أنهى حصته، ثم مضى إلى الوزارة، فوجد اثنين من اللجنة قد غادراها بعد انتظاره ساعة ولم يصل، وابتدأ الحديث مع العضوين الباقيين، وناقشاه في التقارير وهو يستمع لهم

بعد ذلك ابتدأ بالرد والدفاع عن نفسه خلال ربع ساعة، ثم راح يهاجم الوزارة والمناهج وسلوكيات الوزاره وقراراتها المتناقضة مع رسالة التعليم، وانفض الاجتماع دون جدوى ومضى إلى بيته.

لم يكن عظيماً في قلبه إلا الله، وكل الناس مهما كبروا بمواقعهم ووظائفهم، فهم أصغر من الذباب عنده، يضع بين عينيه حديث رسول الله ^: بايعنا رسول الله ^ على السمع والطاعة في العسر واليسر، وفي المنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى أن لا ننازع الأمر أهله، وعلى أن نقول في الحق أينماكنا، لا نخاف في الله لومة لائم» البخاري (7199)، مسلم(1709).

كلمة الحق حيثما كان:

أن يقول الحق حيثما كان. لقد قال كلمة الحق في سورية، وقالها في السعودية عندما جاء متعاقداً معها بعد تسريحه من سورية بعد سنوات من التدريس فيها، فجاء مدرساً إلى الطائف، فاختلف مع مدير الثانوية، حيث كُلِّف بتدريس الكيمياء، ثم نقل إلى المراكز التكميلية لتدريس الفيزياء والرياضيات، فوجَّه انتقاداً عنيفاً إلى مناهج الرياضيات، وطلب تفسير ما يتعلق بالشيكات والفائدة والربا في مادة الرياضيات، وحاول مدير التعليم التفاهم معه فلم يفلح، إذ كيف تدرس هذه الأمور دون نقد وهي في دولة إسلامية، ورفض تدريسها، وجاء الموجه التربوي، وفوجئ بموقفه، ورفع تقريراً فيه مطالباً بإلغاء عقده،وأُلغي عقده، للعام الجديد، ثم نقل إلى مكة ليتمَّ التدريس فيها،فاختلف مع مدير ثانوية العزيزية، حين وجد أعقاب السجائر في المدرسة، وأخيراً وظَّفه مدير التعليم في مكة عنده حيث كان يدرس المناهج والكتب المدرسية في المرحلة المتوسطة والثانوية، ويبعث بتقارير تقويم لها إلى وزارة المعارف في الرياض، ولنا مع آثار هذه الدراسة حديث آخر.

لم يكن يؤمن بأدنى انحراف عن المنهج الإسلامي في حياته، مع طلبته ورفاقه، في تدريسه، وفي علاقاته، وليس في منهجه إطلاقاً أي مسايرة لذرة انحراف في هذه الحياة، لقد وطن نفسه أن لا يهاب البشر أبداً،وأن تكون خشية الله وطاعته هي التي تحكمه في حياته.

زهده وتحريه الحلال من المال

«ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد بما في أيدي الناس يحبك الناس».

لقد كانت البساطة ديدنه الكامل في حياته، ويحاول أن يكون على ما كان عليه السلف الصالح الزاهدون من الصحابة والتابعين، ولم تغيره الدنيا ولا صلاته مع أكابر القوم وعلاقاته مع الوزراء والوجهاء أدنى ذره، ولم يغيره راتبه الكبير، فهو هو عندما تقاعد من الوظيفة، وهوهو عندما كان في لجنة المناهج العليا للتعليم،أو مستشاراً لمدير جامعة أم القرى، عاش بسيطاً متخففاً من الدنيا وأعبائها، لكن هذه البساطة في المظهر كان يرافقها دائماً أعلى مستويات النظافة فمن يراه اليوم في لباسه هو اللباس منذ ثلاثين سنة، ويحسب أنه يلبس ثوباً واحداً خلال ثلث قرن، أبداً فلبيته ثوب، ولخروجه للصلاة ثوب، لكنه اختار لوناً واحداً لهذه الأثواب التي يقوم بغسلها وتنظيفها بنفسه، الأناقة والبساطة والنظافة هذا الثلاثي الذي يحكمه في حياته.

سبب عزوفه عن الزواج:

لا يحبُّ أكل اللحم، ولا يدخله إلى بيته، وأمضى حياته دون زواج، والتفسير العميق عندي لذلك هو أنه لن يجد امرأة تستطيع ما يستطيعه، وهو لم يكن يقول ذلك.

سألته مرة: لم لا تتزوج؟ قال: الزواج في الإسلام تنطبق عليه الأحكام الخمسة: فرض، وسنة، ومباح، ومكروه، وحرام، وأنا آخذ بواحد من هذه الأحكام التي تُناسبني، وكان السؤال وهو في ذروة شبابه يوم تعرَّفت عليه، أو بعيد ذلك بقليل.

وعدت وسألته بعد ثلاثين عاماً: أليس الزواج سنة، فكيف تترك هذه السنة؟ قال: هل تقرأ في كتب الفقه؟ قلت: نعم، قال: ارجع إلى أي كتاب في الفقه، وائتني منه بحكم الزواج، ورجعت إلى كتب الفقه، وقرأت الحكم الأصلي له ،فإذا هو كما في الفقه على المذاهب الأربعة:«النكاح ترد عليه الأحكام الشرعيَّة الخمسة: الوجوب، والحرمة، والكراهة، والسنيَّة أو النَّدب، والإباحة، أما المواضع التي يجب فيها النكاح ففيها تفصيل المذاهب».

قلت له: إذن كيف نفسر الحديث:«ومن رغب عن سنتي فليس مني»في قوله:«أصوم وأفطر وأرقد وأتزوَّج النساء»؟. قال: من حرَّم الزواج على نفسه بحُجَّة الترهُّب والتقرُّب من الله، فهذا خارج على الإسلام أو الفطرة، وعلى منهج رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الذي هو منهج الفطرة.

وحاول مرات أن يتزوج ، ولم يتيسَّر الأمر كما يريد.

فقه الزهد:

لابدَّ أن نقف عند فقه الزهد عنده. فالزهد عنده: الورع عن الحرام، والتقلُّل من الدنيا، كما يتجلَّى هذا المعنى في الحادثة التالية:

جاء ليستلم راتبه من المحاسب في دمشق، فوجد الراتب ناقصاً خمس ليرات سأله عن سبب ذلك؟ فقال: جاء تعميم من الوزارة باقتطاع خمس ليرات، من الراتب ثمناً لبطاقة حضور مسرحية دعت الوزارة إليها، وفي فهمنا أنه زاهد وهو يتصدق بكثير من راتبه فما قيمة الليرات الخمس؟

رفض استلام الراتب ، وقال: لا أستلمه إلا كاملاً فمن فوَّض الوزارة باقتطاع هذه الليرات الخمس من راتبي؟ ولم يقف عند هذه النقطة فهذه الليرات هي حقه سيسأله الله تعالى يوم القيامة: أين صرفها، فهل يكون جوابه أنه صرفها ثمن مسرحية، وهو صَرْف حرام، كان يمكن أن يقنع نفسه بأن الدولة اغتصبتها منه ولا سلطان له على الدولة، إلا أن ورعه كان أعظم من ذلك بكثير، فأقام دعوى على الدولة، ووكّل محامياً مسلماً صديقاً له، وكان ثمن توكيل المحامي أكثر من مائة ليرة، وفعلاً تمّت المحاكمة، وحضر رئيس الوزراء آنذاك صبري العسلي، ممثلاً للدولة،وحكم عليه، فأعيدت له الليرات الخمس، وغرم رئيس الوزراء بتكاليف المحامي، وقبض راتبه كاملاً.

مقابل هذه الصورة، وعندما كان في المملكة العربية السعودية، كُلِّف من وزير المعارف بوضع تقويم للمملكة كان هو أساس تقويم أم القرى، وعندما صرفت له مكافأة على هذا الجهد، رفض أن يأخذها لأنه فهم الأمر من باب الصداقة لا من باب الوظيفة، ولهذا لا يستحق هذا المبلغ ورفض استلامه.

لم أجد أحداً فيمن تعرفت عليه في حياتي تصغر الدنيا في عينيه مثله، هي عنده كما يريدها الله تعالى عند عباده الصالحين.

«ولو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى منها كافراً جرعة ماء».

يصغر في عينيه المال والجاه فيعيش صورة من السلف الصالح حية بين ظهرانينا.

صحبتي له في الحج:

خرجت معه مرات إلى الحج مشياً على الأقدام من مكة إلى منى وعرفات ذهاباً وإياباً، ومن عرفات لمزدلفة لمنى للحرم، ثلاثة أيام يحمل معه كيساً صغيراً من التمر الرديء، حتى لا نأكل كثيراً ونخرج كثيراً، وإبريقاً من الماء الفاتر، حتى لا نشرب كثيراً ولا نتبول كثيراً، نزور أفخم المنازل، وأكبر المعسكرات.

يشارك في وعظ أو حديث جانبي، ونتوسد الأرض عند النوم، وقد سبق وحج من الطائف إلى مكة ماشياً على الأقدام حين كان معلماً في الطائف، مسافة تسعين كيلاً تقريباً .

ولم تتغير حياته وسلوكه لحظة واحدة، البساطة والنظافة والأناقة كما ذكرت هي ثلاثية دائبة في مسيرة حياته.

لكنه حين يتعامل مع الدنيا يرفض أن يكون ساذجاً أو مغفّلاً، يحاسب على الدرهم ويتصدّق بالمئات، وها هو قد مرَّ على تقاعده من عمله في المملكة قرابة خمسة عشر سنة، لم يحتج إلى أحد ، بل أقصده إذا احتجت وأقترض منه، يحسب حساب المستقبل.

له بيته المتَّسع لأسرة كاملة، لا تتجاوز علاقة الناس عنده غرفة استقباله، وها هو قد تجاوز الثمانين يقوم بخدمة نفسه،وخدمة ضيوفه ويرفض معونة أحد داخل بيته، له نظام الصارم في التعامل مع الآخرين، وبيته مفتوح للزائرين في كل لحظة، لا يجد حرجاً أن يعتذر إن كان مشغولاً، وينفذ عملياً الأدب الإسلامي : [وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ] {النور:28} .ورغم انصباب الأمراض عليه التي لا تغادره لحظة، يرفض أن يصلي إلا في مسجد مُعيَّن، وليس المسجد الذي هو بجوار بيته.

 صلاة الجماعة حياته، وليست جزءاً من حياته.

ومن يتوكل على الله فهو حسبه.

هذا أمر قرآنيٌّ واضح، تجد معه حديث رسول الله ^، المشهور في وصيته لابن عباس:«يا غلام إني أعلمك كلمات، احفظ الله يحفظك، احفظ الله تجده تجاهك، إذا سالت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف».

لم أجد تطبيقاً عملياً لهذا الحديث: في حياتي كما وجدته عند شيخنا الشيخ سعيد.

عندما يفكر في تغيير منكر، أو أمر بالمعروف، أو عمل بسنة، أو مواجهة لانحراف لا يفكر أبداً إلا بالواجب المترتّب عليه، فهو يغضب لله تعالى ، ويرضى لله، ليس له شيء ذاتي يحرص عليه في حياته .

ولا يحسب احتمال ما يجر عليه من ضرر أو يقع عليه من أذى، ولهذا فهو يجد الله تعالى دائماً أمامه ، يجد حفظ الله ورعايته يحوطه من بين يديه، ومن خلفه، ولا يجد شيئاً في الدنيا لا يمكن تغييره باللسان أو اليد إذا كان منكراً، ويجد حفظ الله تعالى ماثلاً أمامه، ولن تتضح هذه المعاني إلا بالأمثلة الحية.

حياته الجامعية:

1ـ أمضى حياته الجامعية كما رأينا يواجه كل الطغاة والمتنفّذين ، ولا يهاب أحداً مهما كان عظيماً، وكان من المتوقع في كل موقف أن يفصل من الجامعة، أو يمضي به إلى السجن، يغيّر الأنظمة الجامعية على فهمه ولا يتغير، ومع ذلك أنهى إجازته الجامعية بالكيماء والفيزياء، وغيَّر نظام الاختلاط في التدريب العملي الذي وضعه جميل صليبا بحيث يقوم كل طالب وطالبة بالعمل المشترك واختاروه لذلك لاطمئنانهم إلى دينه، فرفض الأمر، وألغى الاختلاط، وعملوا كما رأينا على أعلى المستويات على إلغاء مسجد الجامعة، وخطبة الجمعة فيه، ودون جدوى ومن مسجد الجامعة حين كان يخطب أخوه الشيخ علي الطنطاوي، وكانت الخطبة منقولة على الهواء في الراديو، وانطلق الشيخ الطنطاوي الأكبر في نقده للحكومة، وهجومه على الدولة، دون أن يتنبَّه المسؤولون عن البث المباشر، ثم عوقب المشرفون، ولم ينل من مسجد الجامعة وخطبائه شيء حتى غدا المسجد منطلقاً للحركة الإسلامية.

تسقط منه الوزارات، وتقام فيه الوزارات، وتحدد ساعة الصفر، ولم يتمكن أحد من السيطرة عليه.

ثم درس دبلوم التربية العام، وتخرج بدرجة جيد، ومضى إلى التدريس محفوظاً بعناية الله ورعايته.

حياته التدريسية:

2ـ أمضى حياته التدريسيه عشر سنوات، لم يهدأ لحظة واحدة، ينقل من ثانوية لثانوية، ومن محافظة لمحافظة، وينقطع كل عام عشر أيام عن التدريس، حيث يعتكف في رمضان بالمسجد، وانتهت السنوات العشر بعد السيطرة الحزبية على الوزارة، ورأينا كيف اتخذ قرار التَّسريح أخيراً من ثلاثة وزراء.

وهو يؤدي فريضة الحج عام 1964، فعاد إلى لبنان ليجد من ينتظره ليعمل محققاً في المكتب الإسلامي، واصطدم بلبنان بالناصريين، وتعرض للخطر.

ودُعي من زميل له لزيارة البعثة السعودية، وتعاقدوا معه على صورة لشهادة للبكالوريوس، حيث لم يكن معه دبلوم التربية ولا الشهادات الأصلية، ومزق العقد عدة مرات، حتى كُتب بأحسن صيغة وحسبوا له سنوات الخدمة العشر والدبلوم بناءً على كلامه، ومضى متعاقداً إلى السعودية.

تدريسه في السعودية:

3ـ لم يكن الجو أهدأ في التدريس في السعودية منه في سورية، فتمَّ نقله خلال عام واحد بين الطائف ومكة ولعدة ثانويات، ولم تحل قضيته إلا بالعمل داخل المديرية في العام الثاني، حيث أشغله مدير التعليم بمكة بنقد الكتب والمناهج، ريثما ينتهي العام الدراسي، وألغي عقده في العام الأول، ثم جُدِّد بقرار من وزير المعارف، ليكون مدرساً في ثانوية العزيزية بمكة.

4ـ كان الله تعالى يهيء له الموقع المناسب، فقد كانت الدراسات النقدية للمناهج والكتب تصل تباعاً إلى وزير المعارف حسن آل الشيخ رحمه الله تعالى ، فأُعجب بها أيما إعجاب، وشهد عبقريته الفذة وحسّه الإسلامي النقدي، فبعث يستدعيه إلى الرياض، وبينما هو يعد العدة ليغادر مكة، والسعودية بعد إلغاء عقده، وهو جالس في الكعبة المشرفة، جاءه الداعية المجاهد الشيخ محمد محمود الصواف، وأبلغه بطلب الوزير له، فمضى إلى الرياض، فاستقبله الوزير ورحب به، وأثنى على دراساته النقدية للمناهج والكتب، وأعلمه أنه هو بصدد تغيير المناهج، وأن عمله سيكون في هذه اللجنة، وابتدأ عمله سكرتيراً للجنة العليا، لتطوير المناهج والمكونة من كبار شخصيات المملكة الفكرية، والثقافية، فوزير المعارف عضو فيها ، والرئيس العام لتعليم البنات، ومدير جامعة الرياض ورئيس المحاكم الشرعيَّة، ومدير معهد القضاء العالي، ورئيس الكليات والمعاهد، وغيرهم، أما اللجنة التنفيذية ففي كل مادة كان الاختصاصيُّون في المادة هم الذين يضعون التفاصيل والجزئيات ،وترفع للإقرار من اللجنة العليا للمناهج.

لقد كان عضواً في كل لجنة من لجان مناهج العلوم الدينية والتربوية والاجتماعية والعلمية والأدبية، وكان له الدور الرائد، في تقويم السياسة التعليمة العليا للمملكة، وبقي عشر سنين يعمل في بلورة هذه المناهج جميعاً على أسس إسلامية حيث أقر المنهج من السلطات العليا.

مستشار في جامعة الملك عبد العزيز:

5ـ عُيِّن الدكتور محمد عبده يماني مديراً لجامعة الملك عبد العزيز . فدعا الشيخ سعيداً ليرافقه إلى جدة ومكة، ويعمل معه مستشاراً في الجامعة، وكانت كلية التربية في مكة تضمُّ كليتي الشريعة واللغة العربية فرعاً تابعاً لجامعة الملك عبد العزيز.

ثم انتقل الدكتور محمد عبده يماني بمرسوم ملكي ليكون وزيراً للإعلام، فتابع عمله مستشاراً لخلفه الدكتور عمر زبير، وانقطع بعد فترة عن العمل، حيث لم يجد أثراً لمطالبه الإصلاحية، وتوقف عن استلام الراتب.

6ـ كان العلامة الشيخ ناصر بن حمد الراشد، قد نُقل بعد أن كان الرئيس العام لتعليم البنات إلى المنطقة الغربية ليكون الرئيس العام لشؤون الحرمين الشريفين، فزار الشيخ سعيداً في مكة المكرمة.

وكان يُعظِّمه جداً ويحترمه ، وعرض عليه العمل معه في شؤون الحرمين بمكة المكرمة، حيث المركز الرئيسي للرئاسة فيها، فوافق .

وقام الرئيس العام بمتابعة عملية نقله من خلال جامعة الملك عبد العزيز إلى الرئاسة العامَّة لتعليم البنات، واستصدر القرار بذلك، ودعا الشيخ للدوام في العمل.

7ـ انتقل الشيخ للرئاسة العامَّة لشؤون الحرمين الشريفين طيلة عهد العلامة الشيخ ناصر مستشاراً له، وعندما نقل الشيخ من الرئاسة، ترك العمل واعتكف في بيته.

8ـ اتَّصل به مدير جامعة أم القرى، والذي كان قبل عميد كلية الشريعة الدكتور راشد الراجح، وعرض عليه العمل مستشاراً له بعد تكليفه بإدارة الجامعة، فوافق وقام مدير الجامعة بمتابعة عملية نقله من الرئاسة العامَّة لتعليم البنات، إلى ملاك إدارة الجامعة، وبعد أخذ الموافقة وصدور القرار بذلك، جاء إلى العمل في مكتب مدير الجامعة مستشاراً له، حيث كان يعرض عليه الكثير من الأمور، فيأخذ رأيه فيها، هذا ولم يتركه وزير المعارف الشيخ حسن حتى بعد انتقاله إلى مكة، إذ كان يبعث إليه كل فترة بعض الكتب طالباً منه تقويمها له.

9ـ قدمت معتمراً إلى السعودية عام 1407، وزرته في بيته، وقلت له: إني أريد الاستقرار والعمل في السعودية، فهل من مجال للعمل في جامعة أم القرى؟ قال لي: امض وقابلني بعد أسبوع حتى أتأكد أنك لن تغيِّر رأيك؟ فجئت بعد أسبوع وأكدت له رغبتي في العمل، فقال : عندك ورقة تسمَّى الماجستير هل هي معك؟ قلت: نعم. قال: يسكن فوقي الدكتور رويعي الرحيلي، وكيل معهد البحوث العلمية فاسأله إن كان عنده شاغر، وامْضِ إلى الأستاذ محمد قطب يسأل لك عميد المعهد، وتمَّ التعاقد بفضل الله عزّ وجل، ثم بمعونة الشيخين الكريمين، وبدأت أتحرش بالشيخ ليغادر مكتب مدير الجامعة، ويأتي عاملاً معنا في معهد البحوث العلمية، وأثيرت فكرة كتابة تاريخ مكة، ورُشِّح لهذا الأمر، وأصبح يعمل باحثاً بمعهد البحوث العلمية بعد أن كان مستشاراً لمدير الجامعة، لسنين ثم تغيِّر مدير الجامعة، وجاء مدير جديد لا يعرف قيمة العلم والعلماء، فكان أول إنجازاته إلغاء عقد كبار العلماء فيها، ومنهم الأستاذ: محمد قطب، والشيخ سعيد الطنطاوي، بحجة تجاوزهم السن القانوني الـ65 عاماً، ومنذ ذلك الوقت والشيخ مقيم في بيته بين المسجد والبيت، يعيد سيرة السلف كالشيخ سعيد بن المسيب، يزوره من يريد، وينهل من علمه، ويتلقى من تربيته من يقصده.

وكثيراً ما تثار الأسئلة بين يديه: لماذا لا تكتب؟ لماذا لا تؤلف؟ لماذا لا تنشر علمك؟ ، وكنت واحداً ممن له هذه الدالة عليه، فكان يقول: تتكاثف الأفكار عليَّ عند الكتابة، فأتوقف وأنا لست مؤلفاً، وليس هناك من يُحسن تلقي هذا العلم على هدي الجيل الأول.

أذكر أنه وافق مرة معي بعد إلحاح على أن أقرأ كتاباً بين يديه في اللغة والأدب، مرتين في الأسبوع، سافرت بعدها لمدّة شهر، ولم أعلمه، وكل تصوري أني أعلمته، فعدتُ وطلبت العودة كما كنا عليه فغيَّر الحديث، وعرفت أنها تربية العقوبة على الاستهانة والإخلال بالموعد.

9ـ ولابد هنا ونحن بصدد عون الله ورعايته له، أن يهيء له من الإخوة والمحبين من يتسابق في خدمته بعد إنهاء تعاقده مع الجامعة، كان لا بد من نقل كفالته، ونقل الكفالة عمل يستهلك الوقت، ويستنزف النفس حتى يتحقق، ولابد من متابعة صاحب العلاقة له، فقد أمضيت شهرين عندما أردت أن أنقل الكفالة، أتردد على الجوازات، وقابلت مدير الجوازات، وكتبت له رسالة، ولم تتحرك المعاملة من أول موظف وصلت إليه، وأفهمت أن الأمر يحتاج إلى معقب حاذق للمعاملات يأخذ أتعابه وأتعاب غيره، وأتذكر الشيخ سعيداً. فماذا سيفعل والجامعة تلح عليه بنقل الكفالة، وتابعت بحهدي الضعيف بعض مراحلها، فماذا كان بعد ذلك؟ هيأ الله تعالى له الأستاذ الدكتور الشيخ أحمد الكبيسي الأستاذ بكلية الشريعة والذي يحمل الجنسية السعودية، ورغم أنه كفيف البصر، فقد اتصلت به ذات يوم وأخبرته بما جرى في المعاملة. قال لي بصريح العباره: اجلس وارتح لا عليك من المعاملة أنا أتابعها وأنا أتلذذ بخدمة الشيخ، وأتعبد بخدمة الشيخ، وفعلاً جاءه بالكفالة الجديدة عليه، وسلَّمه جواز السفر بإقامة جديدة دون أن يتحرك من بيته.

10ـ وأغرب تصريح سمعته في حياتي منه، ولو قلته عن غيره لأكَّد لي أن هذا ضربٌ من الجنون، قال لي: أمضيت ثلاثين عاماً في المملكة العربية السعودية، وتنقلت في الوظائف، وسرحت من العمل، وأُعدت إلى العمل، ونقلت كفالتي مرات ومرات، ولكني أخبرك بأني لم أتقدم بطلب واحد طيلة أعوامي الثلاثين إلى دائرة حكومية أو غيرها، ولم أقف بباب دائرة حكومية.

إنها حقاً رعاية الله له المتمثلة بقوله عزّ وجل {وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا}

[ الطلاق: 2-3].

وقول رسول الله صلى الله عليه وسلم:«احفظ الله يحفظك احفظ الله تجده تجاهك، إذا سألت فاسأل الله وإذا استعنت فاستعن بالله».

11ـ نزل به مرض شديد قبل ثلاثة أعوام تقريباً، أقام حوالي عدة أشهر في مستشفى فقيه بجده وقام على خدمته وصحبته الأخ الكريم الشيخ عبد الرحمن حجار، وهو من خلص أحباب الشيخ. وقلت: انتهى المسجد عند الشيخ بناءً على هذا المرض، وستكون صلاته في بيته، فقد كانت حركته داخل المستشفى بصعوبة بالغة، ورافقه هذا المرض بعد خروجه منها.

وإذا الشيخ سعيد هو الشيخ سعيد، وقد ناف عن الثمانين من العمر، وعليه أن يتوضأ بعد الأذان، ولم يغيِّر ذلك من همته شيئاً، وعاد لما كان عليه، يحافظ على الصَّلاة في المسجد جماعة.

له همة قعساء، لا يعرف التعلُّل ولا الأعذار، ويحرص أن يكون دائماً على نهج السلف الصالح في كل شيء .

12ـ كثير من الناس يحسبونه من بعيد من كبار الصوفية، لكن الذين يعرفونه عن كثب، يعلمون أنه يرفض جميع ممارسات الصوفية التي لا أساس لها من الشارع الحكيم ولا يتساهل فيها، ويأخذ رأي الفقه الدقيق الذي يعتبر حلقات الذكر والموسيقى خروجاً على نهج السلف، ويسميها الرقص كما يبتعد عن الأذكار غير المأثورة والمستحدثة، غير أن أدبه معهم من جهة ثانية تجعله ينفذ إلى صميم الفكر الصوفي السلفي الذي يركز على نقاء القلب، والزهد في الدنيا، وحب الله ورسوله ويعالج أمراض القلب من الحسد والكبر والرياء والعُجْب، بينما يركز على المجاهدة وحب الله والإخلاص، ويرى في الرعيل الأول منهم قدوته، وينفذ إلى أعماق النصوص الشرعيَّة ، ويؤمن بأن أئمة المذاهب الأربعة هم أئمة السلف، وهم علماء الأمة الذين تلقتهم الأمة بالقبول، ولا تتعارض عنده المذهبية مع السلفية، بل يعتبر المذهبية والتقيُّد بمذهب معيَّن هو الأصل عند المسلم، حيث يؤخذ العلم من أئمة العلم، دون حَرَج في التقليد عند الضرورة بمذهب معين، فكلهم مقتبس من رسول الله ^، مع المحافظة على المستوى الفقهي العالي عنده في معرفة أدلة الحكم في المذهب وآراء الفقه المقارن، لكن لا يرى أنه وصل إلى مرحلة الاجتهاد في المذهب أو خارجه مع تعمقه في دراسة الأدلة.

*********************************

علمه

وننتقل أخيراً إلى علمه حفظه الله :

أولاً: اختصاصه:

لا يُصَدِّق من يرى الشيخ من بعيد أنه يعرف كلمة عن العلم الحديث، والعلوم الكونية، ولكنه كان من الاختصاصيين النادرين في مادة العلوم الكيمياء والفيزياء، وكان هذا الاختصاص هو الطريق الذي يدخل منه إلى كل أستاذ جامعي يدرس المواد العلمية والرياضيات والعلوم الطبيعية.

فكل من يسمعه يتحدث باختصاصه يأنس له، ثم يبدأ الحوار معه ليتحول الحوار إلى صداقة واحترام وتقدير.

ويشهد الله أني قلما حضرت نقاشاً في أي مادة من هذه المواد العلمية مع دكاترة الجامعة إلا انتهى بصمت المحاور، لا لأن الشيخ سعيد أعمق وأغزر علماً منه، بل لأن الشيخ يعتمد على ذاكرته الحادة، وذكائه الخارق في حفظ المعلومات واستذكارها عنده.

لقد كنت أرافقه دائماً إلى صلاة الظهر في أحد مساجد مكة، ويعود ليمر على قسم الفيزياء والكيمياء، فينتقل من أستاذ إلى أستاذ، يدخل من حوار إلى حوار لينفذ بعد ذلك إلى التوجيه التربوي الذي يريده من هذا الحديث.

فإذا ذُكر الأساتذة العلميون النادرون كان واحداً منهم بلا شك.

كما كان يستغل هذا الاختصاص في الدعوة، فعندما يزوره طلاب من الكليات العلمية، وهم لا يعرفون اختصاصه يدخلون وفي قلبهم وجيب من الأحاديث الدينية التي يطرحها معهم، فله هيبته بلا شك، لكن عندما يعرف اختصاص الطالب يبدأ بالحوار معه في اختصاصه، مهما كانت المادة العلمية نادرة، حتى في الطب والصيدلة، فيدخل في الحديث في تركيب الأدوية، وسرعان ما ينفتح قلب الطالب لهذا الحديث، ويحسُّ أنه ليس غريباً عن الشيخ، وليس بعيداً عنه، بل هو أمام أحد أساتذته المتواضعين، وكان حضور النكتة عنده، حيث يخلط الحديث العلمي بالحديث الشخصي، ويشعر الطالب أنه بحاجة إلى أن يتردد عليه، وينهل من علمه ومن تربيته.

قد يكون العلم الحديث والعلوم الطبيعية والرياضية والعلمية هدفاً حين يتحدث من خلالها عن عظمة الخالق، في خلق الإنسان، أو الحيوان أو الطبيعة أو النبات، لكنها في أغلب الأحيان وسيلة لاحتلال قلب زائره ومحدثه، لينتقل به حيث يريد بعد ذلك.

ثانياً: اختصاصه العلمي:

نخطئ بحق الشيخ كثيراً يوم نعتبر أن اختصاصه هو شهادته الجامعية: البكالوريوس في الكيمياء والفيزياء، ودبلوم التربية العام، لأن الشيخ اختصاصي في كل العلوم، لكن من الأمانة أن نقول: إنه المرجع الأعلى للأمة في علوم التاريخ والسيرة، والأدب والأنساب، والجغرافية، وهو من المراجع المهمة بعد ذلك في الفقه والتفسير والحديث، وبقية علوم الشريعة، وما من اختصاصي في هذه العلوم تربّى لدى الشيخ إلا بقي تلميذاً عنده.

وأبسط ما أقوله عن نفسي: إنه شيخي في الأدب والشعر، وشيخي في التاريخ والسيرة، وشيخي في الأنساب وهذا هو الذي حصلت به شهاداتي العلمية والأدبية، وشيخي في التربية قبل جميع هذه الاختصاصات، ولن تتضح هذه الادعاءات إلا بالأدلة.

الشيخ والشعر:

قال لي في حديثه اليوم بعد أن سألته : سيدي الشيخ في ذهني رقم عن علمك بالشعر وأنت طالب في المرحلة المتوسطة أخشى أن أكون واهماً فيه:

لقد سمعتك تقول: إنك دخلت امتحان الشهادة الإعدادية، وأنت تحفظ أربعة عشر ألف بيت من الشعر!؟

قال: الكلام صحيح وغير صحيح، صحيح بأني أحفظ تقريباً هذه الكمية، والكلام غير صحيح فلم أجلس لأُحصي بالأرقام ما أحفظ، قلت له: ومن أين جاءتك هذه الثروة الشعرية، وأنت ابن السادسة عشرة من عمرك؟ قال: لقد كنت أحفظ دون إرادتي أحياناً، حيث يعلق الشعر بذاكرتي، وأحياناً برغبة قليلة جداً، أحفظ .

لقد قرأت سيرة عنترة بن شداد، من ثماني مجلدات، وأنا في منتصف المرحلة الابتدائية ، وثلثها من الشعر، وقرأتها أكثر من مرة، وأحفظ الكثير من الأشعار منها دون أن أدرك معناها.

وقرأت ثلاث مجلدات كبار عنوانها: المثالث والمثاني في روايات الأغاني، وهي اختيارات من كتاب الأغاني لأبي الفرج الأصفهاني.

وتركت المدرسة في الصف الثاني المتوسط، ورحت أقرأ كل ما يقع في يدي من قصص وروايات مترجمة وعربية ومجلات، وروايات تاريخ الإسلام، وبعد سنة من الضياع قررت أن أتقدّم إلى امتحان الشهادة الإعدادية ـ نظام حر ـ فاستعرت كتاب الأدب للصف الثالث الإعدادي، وكان في 600 صفحة تقريباً لم أفتح إلا فهرسه الأخير الذي استعرض أسماء الشعراء والكتاب ونماذج من شعرهم من لدن امرئ القيس إلى الشعر الجاهلي والإسلامي والأموي والعباسي والأندلسي وعصر الانحطاط، واليقظة: والثلاثي: شوقي وحافظ وخليل مطران الأخطل الصغير، وأحضرت دفتراً فاشتري ديوان كل شاعر أقرأ وأختار من شعره وأحفظه منذ امرئ القيس إلى شوقي. لقد كنت غارقاً في الشعر في كل خلية من خلايا جسمي فلا تعجب إذا قلت لك: إني دخلت الامتحان بهذا الرقم من الأبيات.

لم أكن في الصف الخامس الابتدائي أكتب موضوعاً للإنشاء إلا شعراً، وأحياناً أكتب الموضوع الواحد لزملائي بقصائد مختلفة، وحين كان الموضوع في التعبير للصف الثالث الإعدادي عن الوفاء، استعرضت التاريخ الإسلامي في ذهني، فاخترت ثورة عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث على الحجاج، ولم أقدمها قصة إنما كتبتها مسرحية كاملة، في فصول، وكان علَّامة اللغة العربية الشيخ سعيد الأفغاني ممن يصحح في امتحان الكفاءة، فجاء وزارنا حيث كان صديق أخي الشيخ علي، وتحدث عن أغرب ما رأى عن طالب كتب مسرحية، واختلف المصحِّحون بين من يريدون أن يضعوا له الصفر أو يضعوا له العلامة التامة، ثم أعطوه علامة النجاح حتى لا يرسب لأنه يستحيل أن يكتبها طالب.

ومما قاله في حديث آخر:

سمعت أن أدب العرب وأخبارهم موجود في أربعة كتب: عيون الأخبار لابن قتيبة ، وأدب الكاتب لابن قتيبة، والبيان والتبيُّن للجاحظ ، والأمالي لأبي علي القالي، فقرأت عيون الأخبار والأمالي، وحفظت الكثير منهما، وحين كنت أحفظ بيتين لابن الأطنابة:

متى تجمع القلب الذكي وصارماً وأنفاً حمياً تَجْتنبك المظالم

عرفت بعد ذلك أنَّ لها قصة وقصيدة تفوق ثلاثين بيتاً، وكيف أتى عند الكاهنة، ودعته إلى أن يترك إبله وماله، فرفض فبحثتُ عن القصيدة وحفظتها.

كنت أجلس في المجلس الواحد ثلاث ساعات وأكثر، لا أنطق إلا شعراً، وقلما أسمع كلمة إلا آتي بشاهد شعري عليها.

ولو جلستَ معه جلسة ولو لدقائق لابدَّ أن تسمع أبياتاً من عيون الشعر العربي.

والأكثر أهمية من الحفظ أنه كان يعرف اسم الشاعر، والكتاب الذي وردت فيه القصيدة، والمناسبة الشعرية، وتاريخ الشاعر.

أذكر أني استشهدت في أحد كتبي بالبيت الشعري المشهور

كُتب القتل والقتال علينا وعلى الغانيات جر الذيول

وكان عندنا في الجامعة موسوعة شعرية، قام عليها عدد من الأدباء والباحثين جمعت أكثر من سبعين ألف بيت من الشعر، فأتيت إلى أحد الزملاء ورجوته أن يعلمني عن القائل لهذا البيت حتى أعيد الشعر إلى مصدره، وتوقعنا معاً أن يكون هذا البيت لأحد الشعراء الجاهليين.

ومضى يومان وهو يبحث لي في الموسوعة دون جدوى، فقلت له : سوف أذهب إلى موسوعتي، إلى الشيخ سعيد الطنطاوي، وفعلاً زرت الشيخ في بيته، فقلت له:

سيدي الشيخ : هذا البيت:

كُتِبَ القتلُ والقتالُ علينا وعلى الغانيات جرُّ الذيول.

أليس من الشعر الجاهلي؟ قال: لا . قلت: لمن هو إذن؟ قال: أتسمع بعبد الله ابن الزبير؟ قلت: نعم. قال: بأخيه مصعب؟ قلت: نعم، قال: بالمختار بن عبيد الثقفي، الذي قتله مصعب؟ قلت: نعم. قال: كان للمختار زوجتان، إحداهما تبرأت من أفكاره وادعاءاته بالوحي إليه، وأخرى بقيت على الإيمان به، فقُتلت. فقال الشاعر في رثائها أبياتاً منها هذا البيت. قلت له: وأين أجد ذلك؟

قال: لا تكن ثقيل الدم، انظر في أيِّ كتاب تاريخ الطبري ، البداية والنهاية، وابحث عن هذه الحقبة من التاريخ، فستجد هذه الأبيات.

وفعلاً مضيت إلى بيتي، وبحثت عن المختار ومقتله، ووجدت اسم الشاعر، والقصيدة والبيت. وليس هناك شعر دون شعر، عند علامتنا الشيخ، بل كل أنواع الشعر الوطني والسياسي والقومي والتاريخي والحديث والأندلسي والجاهلي والغزلي ، والماجن والزهد، كل ذلك موجود في تلافيف دماغه.

وكأنما نُقل ديوان الشعر العربي إلى عقله وقلبه.

وصَوْغُ الشعر سهل عليه، وأحياناً يُجيبك على كل رأي بشعر يتمثله، ويصوغه ، فعنده الملَكَة والموهبة الشعرية، لكنه لم يحرص على أن يكون الشاعر الذي يشار إليه بالبنان، وما يقوله متمثلاً أقرب إلى النظم منه إلى الشعر.

ولديه قدرة فنية عجيبة، وموهبة ذوَّاقة، بحيث يُميِّز بها الشعر، صحيحه من سقيمه، ومن كثرة مطالعته له أصبح قادراً على معرفة انتماء الشعر ونقاط ضعفه ومواطن إجادته.

وما أعتقد في عصرنا الحاضر أن هناك رجلاً يحوي في عقله هذا الكم من الشعر، والنوع منه مثله.

لكونه احتواه منذ طفولته، واحتفظ به في شبابه وكهولته، فبقي في عقله حتى جاوز الثمانين، وإن كان يشكو اليوم من بعض النسيان بحكم السن، لكن قلت له : بشعرك المنسي ليت عندنا زكاة شعرك.

ولا أعني أنه أعظم الأدباء، لكني أعني أنه أعظم الموسوعيين، فكثيرون يوجد الشعر في مؤلفاتهم التي قد تتجاوز العشرين والثلاثين، لكنها ليست في عقولهم وصدورهم وقلوبهم كما هي عند شيخنا العظيم.

لقد قمت بدراسة الشعر في عهد النبوة، وعشت معه سنتين متواصلتين، ونلت به شهادة الدكتوراة في الأدب العربي، لكني واثق أني لا أحفظُ من تلك الآلاف المؤلفة من هذا الشعر ما يتجاوز مائة بيت.

ويصح أن نقول عنه اليوم بما يستوعب في عقله وقلبه: راوية شعر العرب في القرن العشرين.

الشيخ والتاريخ:

تلك الثقافات التي تحدثنا عنها في الأدب والشعر، هي كلها جزء من التاريخ فكتاب «الأغاني» فيه سجل تاريخ العرب وتاريخ ثقافاتهم، وفيه السيرة النبوية، وسيرة الراشدين والأمويين، والعباسيين، بغضِّ النظر عن مستوى الصحة في كتب الأدب، فهي رواية أدبية لا تعتبر حُجَّةً في التاريخ.

وله مطالعاته التاريخية الخاصَّة التي ابتدأت منذ وعيه على الدنيا، حيث درس السيرة النبوية، وتاريخ الطبري، وعيون الأخبار، وفتوح الشام للواقدي، ودرس متأخراً البداية والنهاية لابن كثير، وأعني بقولي متأخراً أي في عهد شبابه لا طفولته، ومراهقته، لكن سعة ثقافته لا أعرف عنها الكثير. فهو يقرأ كل يوم، وحتى عندما كلَّ بصره وأصبح يلقى صعوبة كبيرة في القراءة، لم يتمكن أن يتخلى عن هذه الهواية، أو قل: هذه الرسالة، وفوجئت أنه يحفظني بعض أبيات من الشعر، اطلع عليها منذ أسبوعين، وبقي يُردِّدها حتى أصبحت جزءاً من محفوظاته، وكثيراً ما كان يردد عليَّ هذا البيت من الشعر ويحفظني إياه.

نديمي قطتي وحبيب قلبي دفاتر لي ومعشوقي السراج

فلم يعشق في حياته ـ بعد حبِّ الله ورسوله ـ إلا العلم الذي ولد معه، وقد يدفن معه، وهذا ما يحزُّ في نفسي. لقد قلت له: يا سيدي الشيخ يصح بك مقولة أمير المؤمنين علي t بأبي ذر الغفاري: وعاء مُلىء علماً ثم أوكئ عليه.

فالذين استفادوا من علمك قلَّة، لكن إن لم تدوِّن هذا العلم فسيُدفن هذا العلم معك.

ولا أستطيع أن أُلح كثيراً على هذا المعنى، فهو يحملني القسط الأكبر من هذه المسؤولية، وخاب أمله فيَّ في أن أكون راويته وحامل علمه، واعترف أني فشلت في ذلك، فأنا أشبه بالابن العاق له من الابن البار.

لقد قال لي ذات مرة: أنا وأنت كالأعمى والمقعد، فأنت الأعمى الذي يحملني من خلال قدرتك على التأليف، وأنا المقعد الذي أدلك على الطريق من خلال وضع العلم بين يديك لتنشره.

وعودة إلى علمه في التاريخ

التاريخ الإسلامي في عقله زماناً ومكاناً وشخصيات:

ولست مبالغاً ـ بإذن الله ـ فيما أدَّعي فما أذكر أني سألته في حياتي كلها سؤالاً عن حدث في التاريخ الإسلام إلا حدثني عن رجالاته تاريخ ولادتهم وتاريخ وفياتهم، أو تاريخ وفياتهم على الأقل، حيث لم يذكر التاريخ زمن ولادتهم.

وعن الأعمال التي قام بها هؤلاء الرجال ومدى تأثُّرهم بمن سبقهم رضي الله عنهمع المحافظة على تواريخ الوفاة والميلاد إن وجدت)، ومدى تأثيرهم فيمن بعدهم، والمكان الذي وقع فيه الحدث في أي بقعة من العالم الإسلامي أو العالم كله.

وحين تكون البقعة مجهولة، وكثيراً ما تكون كذلك، يقربها لأقرب موقع أو مدينة معروفة، يحدد جهة بُعْدها عنها، وهل هذا البعد عن هذه البقعة، باتجاه الشمال أو الجنوب أو الجنوب الغربي أو الشمال الشرقي.

في رأسه خريطة العالم، وفي رأسه تاريخ العالم، وفي رأسه رجالات العالم خلال كل العصور، وما عليك حين تسأله إلا تنتظر عليه ثواني ليستعرض الخارطة والتاريخ والزمان والمكان، ويأتيك بالجواب سواء الذي نسأله عنه من المشاهير عالماً أو ماجناً أو شاعراً أو مجرماً، أو محدثاً أو بحاراً، فهو الذي تحتشد في عقله كل مواصفات هؤلاء الرجال، ولا أذكر مرة واحدة خانه الجواب، أو ذكرت حدثاً كان جديداً عليه.

كنت مسؤولاً في الجامعة عن الرسائل الجامعية رضي الله عنهالدكتوراه والماجستير)، في تحضير أسمائها أو موضوعاتها للطلبة عن طريق الاتّصال بمركز الملك فيصل بالرياض، وكل معلوماتي منه، ومرت معي رسالة عن دولة في اليمن لعلها الدولة الرسولية فيما أذكر، ودخل عليّ حيث تشرفت بالعمل بجواره سنين عدة، وذكرت له موضوع الرسالة فحدّثني عن تاريخ الدولة، ومكانها في العمق والحقبة التي وُجدت فيها، والرجال الذين حكموها مع التواريخ المتتابعة.

والأطرف من ذلك أن أحد الإخوة العلماء زاره، وطلب أن يتناول الفطور عنده، فعرض الشيخ عليه مفردات الفطور، وذكر إن كان يرغب بقلي البيض، وكان العالم يحفظ بيتاً من الشعر يستعمل كلمة البيض الذي في الخصيتين ـ والكلفة بينهما مرفوعة ـ فاندفع وذكر البيت بهذا المعنى، وظن أنه أفحم الشيخ سعيداً بهذا البيت الذي لا يليق بالشيوخ والعلماء.

سأله الشيخ ببرود : ثم ماذا؟ ما البيت الذي قبله؟ وما البيت الذي بعده؟ ومن قال هذه الأبيات الثلاثة؟ ولمن قالها ؟ وما هي المناسبة؟ أسئلة تتالت، فغر العالم فاه، وكاد يصعق.

والأبيات تكاد تكون ماجنة، وأعطاه تاريخ هذه الأبيات كاملة، والمناسبة والردود عليها من القاضي الآخر، ومن أجل هذا فلا يجرؤ أحد أن يتعالم عنده، لأنه سيناله التراجع وتنزل به الهزيمة، ومن أجل هذا كذلك، فأساتذة التاريخ جميعاً حين يزورونه يأتون طلبة علم يسألونه عما استعصى عليهم أو عجزوا عن تحصيله أو عجزوا عن فهمه.

أذكر أني زرته ذات يوم في بيته، وكان العالم والمؤرخ الكبير اللواء محمود شيت خطاب في زيارته.

وخطَّاب موسوعة عظمى في التاريخ، وله سلسلة : قادة الفتوح في الإسلام، التي تجاوزت بضعة عشر مجلداً، وكانا يتناقشان في تاريخ الموصل: هل هي سوريَّة أم تركية أم عراقية؟ واحتدم الجدل أكثر من ساعة، وأنا أستمع جاهلاً بكل ما يتذاكران به، وبعد هذا الحوار الطويل قال اللواء رحمه الله تعالى :إلى هنا وانتهى علمي، وتابع الشيخ سعيد الحديث بعده قرابة نصف ساعة، حيث أثبت سورية الموصل أو تركيتها لا أدري.

وهذه بعض ذكرياتي العلمية بين يديه:

أزعم أني كتبت ما لم يسبقني أحد إليه عن رجالات الفتنة العظام الذين شُوِّه تاريخهم، وأخص بالذكر كتاب معاوية بن أبي سفيان في سلسلة «أعلام المسلمين» عام 1980م، وجهدت سنين طوالاً لأستخلص الروايات المقبولة، أو الصحيحة من الروايات المنحولة أو الموضوعة، وكتبت في مقدمة الكتاب هذه الفقرة:

«ولعل الفضل الأكبر في تدقيق هذا الكتابرضي الله عنه معاوية) لشيخنا وأستاذنا العلامة محمد سعيد الطنطاوي... وأرفعه نداءً له باسم الشباب الإسلامي على صفحات هذا الكتاب، أن يتناول قلمه ويمدَّ الشباب المتعطِّش بتراجم مركّزة مستوفاة دقيقة عن شخصيات التاريخ الإسلامي، فهي أمانة في عنقه...»

وقدمت الكتاب إليه فكان تقويمه له: هذا كتاب جيد في الفتنة، ولكنه ليس كافياً في تحليل شخصية معاوية العبقرية العظيمة، دفعتني هذه الجملة إلى إضافة أربعة فصول لاحقة في الطبعة الثانية هي: معاوية وأهل البيت، قيادات بني أمية تجتمع، ومعاوية وموقفه من الخصوم، ومعاوية والرعية، وعرضت عليه الكتاب بعد هذه الإضافات فلم تحقق رجاءه، وانتقد فيها ضعف اللغة، وضعف الروايات، قلت له: لا أدقق كثيراً في صحة الرواية حين ذكر الفضائل، إنما أُدقق عند ذكر النقائص فأكد لي أن بعض الحواريات في هذه الفصول تشمل بعض النقائص، ولكنه أجاز الكتاب.

أما كتاب عمرو بن العاص t الذي استحوذ من وقتي سنين طوالاً كذلك، وأخرجته في ستمائة صفحة، كنت أعتقد أنه سيسرُّ به، وكان ما أردت، لكن كتابة جُمل ينقصها التدقيق الشرعي، رأى أنها غيَّرت الموضوع ولم يُجز الكتاب حتى يطبع ثانية وتُصحَّح تلك الجمل.

وحين هممت أن أكتب عن سعيد بن العاصt ترجمة موجزة، وهو من صغار الصحابة، استخرجت ترجمته من تاريخ ابن عساكر، وإذا الترجمة مليئة بالأخطاء،وبالمقابل فكثير من المعاني لا تُفقه، فحملت الترجمة، وجلست تلميذاً بين يديه قرابة ساعتين ونصف أقرأ الجمل بأخطائها، والتي تبلغ أحياناً نصف صفحة، وعلى الصعوبة الكبيرة في قراءته لضعف بصره في هذه الأيام يصحح الأخطاء، ويعرف التحريف من أين جاء، أو الزيادات إن وُجدت من ذاكرته دون العودة إلى مخطوط ابن عساكر عنده، وخرجت فرحاً من عنده بما أنجزت.

كنت قبل يومين عنده، وتحدثنا عن صغار الصحابة، وحدثته عما أنجزته في الكتابة عن عبد الله بن عامر، وسعيد بن العاص، وأودُّ الكتابة عن حبيب بن مسلمة، والنعمان بن بشير.

قال معرضاً وملمحاً وملوحاً بي: الوليد بن عقبة هو الأهم في الكتابة، والذي شوهت تاريخه مجموعة المؤامرات التي قادها ابن سبأ، وجعله شارباً للخمر، فاسقاً. وهو من أنظف وأنصع الشخصيات، وكان محقاً في النيل مني بشكل غير مباشر. فقد قرأت كل شيء عظيم عنه، لكني توقفت عن الكتابة عنه لما اشتهر عنه بأن الآية نزلت فيه : [يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ] {الحجرات:6}

قال لي : هل يمكن لمن صحَّ فسقه، وحسب معرفتك بشخص خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وشخصية عمر t أن يُولِّياه؟ ألم يكن والياً لأبي بكر وعمر؟ وهل دقَّقت في عمره، ومدى صحَّة هذه الرواية عنه.

وشعرت فعلاً بخضوعي وتأثري بدعايات أهل المؤامرة، وعزمت على الكتابة عنه.

إنه شيخي العلمي وشيخي التربوي.

ولم يُجزني إلا في السيرة النبوية، أما في التاريخ الإسلامي فلا أزال في موقع الامتحان عنده، وأرجو أن يجيزني وأنجح علماً بأني كتبت أعقد كتابات في التاريخ الإسلامي، وكانت أساساً ومرجعاً للكتابات الحديثة، عن شخصيات الفتنة ، كما ذكر المؤلفون المعاصرون في هذا المجال.

فقه السند والمتن:

والذي يسمع هذا العرض عن أعظم مؤرِّخي العصر العلامة سعيد يخطر بذهنه أنه مجرَّد جامع للحوادث وراوٍ لها، وهذا منتهى الخطأ.

فدرايته في نقد المتن، لا يبلغ شأوه بها أحد، ففقه النص، ومقارنته بالنصوص الأخرى، ومعرفة التناقضات في داخله لا يدركها إلا المهَرَة الصَّاغة الكبار، فقد يدرك تمحيص السند القلة القليلة من العلماء أما دراسة المتن فهي لقلة القلَّة، التي تُعدُّ على أصابع اليد والشيخ حفظه الله على رأسهم بلا منازع.

وأتحدَّث عن اختصاصي الذي أجازني فيه في السيرة النبوية، لأني كلما استعجم عليَّ نصٌّ أعود إليه فأسأله عنه فيزيل إشكالاته، ومع أني حزت جائزة السيرة النبوية من سلطان بروناي، فأنا أعلن أني لا أزال تلميذاً في مدرسة الشيخ.

قلت له ذات يوم: سيدي الشيخ في رواية البخاري عن سعيد بن زيد: أن عمر رضي الله عنه كان يُوثقه على الإسلام ويمنعه منه، وفي الروايات الصحيحة الأخرى عن إسلام عمر رضي الله عنه: أنه فوجئ بإخباره بإسلام سعيد بن زيد صهره وأخته وهو ماضٍ لقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ومضى بعدها لخنته سعيد وبطش به.

فكيف يُحلُّ هذا التناقض؟!.

كيف كان عمر رضي الله عنه، يوثق ختنه سعيداً على الإسلام، وكيف لم يعرف بإسلامه إلا لحظة إخبار الصحابي له به، ونظر فاحصاً في النصَّين وقال: لابدَّ أن تكون ماهراً في اللغة حتى تفقه نصوص السيرة فكلمة «موثقي على الإسلام» ليست بالضرورة تعني موثقي لأني أسلمت، بل يمكن أن تعني أن موثقي لما يرى من توجهي للإسلام، من دون أن أعلن ذلك.وخوفاً من إسلامي كان يقيدني.

وعلى هذا فالوثاق خوفاً من أن يدخل سعيد في الإسلام، وكشف الإسلام كان حين فُوجئ عمر به، وأمثال هذه الإشكالات العلمية العويصة كانت أكثر من أن تحصى.

وكل بيت شعر في السيرة النبوية لم أدرك معناه أو أعرف ترجمة الرجال فيه كنت أهرول إليه فأسأله عنه ويجيبني عليه.

لقد كانت كبار الشخصيات الرسمية والعلمية في المملكة العربية السعودية خاصَّة وفي العالم الإسلامي عامة تدرك رسوخه في العلم فتزوره إجلالاً له، أو لتتذاكر معه، أو لتسأله، فمثلاً الدكتور عبد الله التركي، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي ووزير الأوقاف السابق، زاره مرتين في بيته المتواضع، وألحَّ عليه للاستفادة منه فاعتذر لأنه غدا طاعناً في السن.

والدكتور راشد الراجح مدير جامعة أم القرى ورئيس النادي الأدبي بمكة ونائب رئيس مؤتمر الحوار الوطني، زاره في بيته مراراً، وكنت شاهداً لذلك، والشيخ عبد الله، أعلم علماء المنطقة الغربية رحمه الله تعالى سمعت منه ثناءه على علم الشيخ، وكيف كانا يتناولان مسائل الفقه الإسلامي بعد الفجر في طرقات مكة.

وقلَّما توجد شخصية علمية دينية لا تعرفه وتعرف فضله وعلمه.

الشيخ وبقية العلوم الشرعيَّة:

ومن أهمها: الفقه والحديث والتفسير والأصول ، له اضطلاع وتبحُّر في هذه العلوم، وكبار أساتذة هذا الفن يزورونه ليتذاكروا معه، أو يسألوه، مثل الشيخ محمد أديب الصالح، والشيخ محمد علي الصابوني، والدكتور أحمد حسن فرحات أستاذ مادة التفسير لثلاثين عاماً في الجامعات العربية، والدكتور مصطفى مسلم،والدكتور أبو الفتح البيانوني، والعلامة المحقق المحدث الشيخ محمد عوامة.

وكذلك العلامة المحدث الشيخ شعيب الأرناؤوط وزميله في صغره، والشيخ ناصر الألباني رحمه الله تعالى والحوارات الطويلة معه والتي كانت تمتد لساعات، والشيخ عبد العزيز بن باز رحمه الله تعالى ، والشيخ ناصر بن حمد الراشد، الذي توفي وهو رئيس القضاء الأعلى في المملكة، وجهابذة الشيوخ السوريين المقيمين في سورية، أمثال الأستاذ الدكتور وهبة الزحيلي، وأخيه الدكتور محمد الزحيلي، والذي كان تلميذه، والشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، ومن لا أستطيع إحصاءهم هم تلاميذه أو إخوانه و كلهم يعلمون رسوخ علمه في هذه الاختصاصات.

الشيخ وعلم الأنساب:

وقد أبدع في هذا المجال، وأخذ هذا العلم من اهتمامه فكأنما نسب قريش، وجمهرة أنساب العرب لابن حزم مُسطَّر في قلبه، وليس فقط بطريقة تأليفه، إنما يقوم بتوزيعه حسب تراجم الصحابة.

وقد سألته ذات يوم عن السلميين من الصحابة فتجاهل السؤال، ثم كتب لي في اليوم الثاني هذه الرسالة: بعضُ الصحابة السلميُّون.

سألتني أعزَّك الله لما التقينا قبل ظهر اليوم 24/3/1411 عمَّن أعرف من الصحابة من بني سُليم، ولما كنت وقتئذ لا أذكر إلا قليلاً منهم، ولما كنت في ذلك الأمر لم تأت البيوت من أبوابها لهذا وذاك لم تخرج مني حينئذ بجواب.

ثم رجعت إلى نفسي لما رجعت إلى بيتي، فأدركت أن الوضع لم يكن مستقيماً، وأنك إذ كنت أخطأت فإني لم أُحسن، وذكرت الحديث :« أدوا الذي عليكم وسلوا الله الذي لكم»، فاسترحت إلى أن أستجيب لطلبك وأعرض فيما يلي ما وصلت إليه من أسماء الأصحاب من بني سليم...»

ثم ذكر لي في خمس صفحات أسماء سبعه وتسعين صحابياً من بني سليم، لا يكتفي بذكر أسمائهم، إنما يذكر تعريفاً موجَزاً بأهم ما اشتهر به هذا الصحابي علماً بأنَّ الصحابة في كتب التراجم يُكتبون حسب سابقتهم في الإسلام أو حسب ترتيبهم الهجائي، وليس هناك تراجم حسب القبائل.

ولحفظه تاريخ الجاهلية كله، يستطيع بيسر أن يربط بين قرابة هذه القبائل من بعضها، والنسب الذي تنتهي إليه، ولم يكتف بثقافته عن القبائل في الماضي، وأماكن وجودهم، وهذا متوفر في الكتب، إنما يتابع الأنساب في الوقت الحاضر للقبائل في اليمن والسعودية والخليج، حيث الانتساب القبلي هو الأساس، وحين يلتقي مع شاب يمني أو سعودي فيعرِّفه على نفسه، فيبدأ باستعادة علمه ومعلوماته عن مكان وجود القبيلة، وهل اسمه محدث، أم أنها من الأساس الذي كان من قبل، والأسماء المعاصرة للقبائل لأيِّ القبائل القديمة تنتمي، وخلال دقائق يقف محدث الشيخ مبهوتاً لا يعرف إلا المعلومات الضئيلة عن قبيلته ومكان إقامتها ليحدثه الشيخ بإسهاب عن الفروع والأسفار والمواقع الأخرى للقبيلة.

وقد ورثني عشر معشار هذه المعلومات، وشاركته في حُب هذه الأنساب من خلال مواقفها من الإسلام. وقد أقمت الجزأين الأخيرين من كتابي عن «المنهج التربوي للسيرة النبوية» باسم التربية السياسية، حاولت من خلالها ومن خلال سنة الوفود أن أستعرض وفود جزيرة العرب التي قاربت مائة وفد، وقدمت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في المدينة، وربطتُ ماضيها بحاضرها، ودورها الريادي في الإسلام، ولعل الكتاب الوحيد من كتب شيخنا الذي أعتبره جاهزاً للطباعة هو: «شجرة نسب سَدَنة البيت الحرام الشيبيين».

كلمة أخيرة:

إذا ذكرنا السياسة التعليمية في المملكة العربية السعودية، والتي قامت على أساسها النهضة التعليمية في المملكة، فنذكر الشيخ سعيداً الطنطاوي واضع أسس هذه السياسة.

وإذا ذكرنا منهج التعليم الثانوي الذي اعتمدته المملكة منذ ثلث قرن تقريباً فالعمود الفقري فيه هو الشيخ سعيد الطنطاوي، وذلك في معظم فروعه.

ففي التاريخ مثلاً تقدم أساتذة الجامعات المختصُّون بمنهج لمادة التاريخ في المرحلة الثانوية وتقدَّم الشيخ سعيد اختصاصي الكيمياء والفيزياء بمنهج مغاير لمادة التاريخ في المرحلة الثانوية، وبقي المنهجان يتصارعان ويُعرضان على اللجنة العليا حتى فاز المنهج الذي قدَّمه الشيخ.

وإذا ذكرنا الكثير من علماء المملكة اليوم ومفكريها فكثير منهم تتلمذ على يد الشيخ حفظه الله.

وإذا ذكرنا الكثير من رجالات الشام وعلمائها، فكثير منهم تتلمذ على يد الشيخ.

لقد كان مدرسة علمية متميزة.

لكنه كان قبل ذلك مدرسة تربوية متميزة، وأعود فأكرر ما قلت في المقدمة:

وحسبي ما قدمت من معلومات في عُجَالة من الوقت، وانشغال في العمل معظمه من الذاكرة لعلي أستطيع أن أوفيه حقه في كتاب مستقل وسفر متميّز.

جزى الله علامتنا وشيخنا خير الجزاء على ما قدَّم ويُقدِّم لهذه الأمة، وحفظه الله بيننا بقية السلف الصالح، وواحداً من العلماء الربَّانيين لهذه الأمة الذين تقوم بهم النهضات، ويتم من خلالهم التغيير .

وأستغفر الله تعالى مما أكون قد سهوت أو أخطأت أو قصرت في حق شيخنا العظيم.

[إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ] {هود:88}

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين

23/ربيع الأول/1425 الموافق 12/5/2004

وسوم: العدد 843