شراب الشيخ شامل

صفحة:

حماة ناشونال جيوغرافيك - National Geographic Hama

كان الشيخ شامل المراد رحمه الله، شخصية متميزة من شخصيات حماة .. ارتبط اسمها بسكاكر خاصة تدعى ( شراب الشيخ شامل ) ، وهذه الشخصية زمنياً ليست بعيدة هذا البعد ، ولاحاجة لكبار معمّرين كي يتحدثوا عنها ، فقد توفي الشيخ شامل في ثمانينيات القرن الماضي ..

وأنا أعي تماما مظهر هذا الشيخ الجليل، وأذكر صفاته وتصرفاته ومواقفه وطرائفه، بخاصة أنني تربطني به صلة قربى عن طريق والدتي،فهو ابن خالها (محمد علي المراد) الكبير، وقد التقيت الشيخ شامل في مناسبات عدة، عائلية كانت أم غير عائلية.

الشيخ شامل حموي الولادة ، لكنه من أصول كردية ، فقد نزح جده الأكبر مراد آغا ( وكان ضابطا كبيرا في الجيش العثماني ) من بلدة ( وان ) الكردية الى لواء ( حماة ) السورية ، لأسباب تتعلق بوظيفته العسكرية ، وقد استقر نهائيا في مدينة حماة ، وتزوّج من أهلها ، وسكن في ( حي الفراية ) ، في بيت مازالت معالمه قائمة حتى الآن.

حصل هذا الأمر منذ قرابة مائتي عام ، وقد رزق مراد آغا من زوجه الحموية ولدين اثنين ، أحدهما ( الشيخ سليم المراد ) ، الذي اشتهرت العائلة المرادية باسمه ، لعلمه وتقواه وصلاحه ولمعان نجمه ، وفد تزوج الشيخ سليم عدة مرات ، مخلفا عددا كبيرا من الأولاد ، أحدهم الشيخ ( محمد علي ) الكبير ، الذي رزقه الله أيضا أولادا كثرا، من بينهم الشيخ ( شامل ) محور حديثنا في هذه المقالة ..

وقد ورث الشيخ شامل عن أبيه وجدّه مهمة التوجيه الديني والاجتماعي ، وكان معروفا على مستوى حماة وريفها ، بل ربما على مستوى سورية.

وللشيخ شامل طرائف عديدة ، تحكى عنه أوتنسب اليه ، وقد بلغت شهرته الآفاق ، اذ يقال أنه كان ذات يوم في حلب ، ونفد مخزونه من السكاكر التي يحملها ، وهو لايستطيع السير بدون هذه السكاكر ، فهو يفرح بها الأطفال ، ويقدمها هدية لكل من يلقاه  أو يتعامل معه ..

لذلك اتجه نحو دكان أحد الباعة الحلبيين ، وطلب منه أن يعرض أمامه أصناف السكاكر التي يحتويها دكانه ، وكلما أراه صنفا كان يرفضه ويقول : (لا ليست هي) ، حتى أراه أخيرا سكاكر في منتهى الصغر ، حباتها بحجم حبات البرد النازل من السماء ، في يوم شديد البرودة ، فتألق وحه الشيخ وصاح بلهفة : ( نعم ، نعم ، انها هي ) ، عندئذ قال البائع الحلبي : ( قل لي منذ البداية أنك تريد شراب الشيخ شامل ) ، فابتسم الشيخ وقال : أنا الشيخ شامل !!.

ويقال ان التاجر الحلبي لما عرف ، أن الذي أمامه هو الشيخ  شامل شخصيا ، أصرّ على اهدائه علبة معدنية كبيرة ( نصية ، أي نصف تنكة ) ، مليئة بتلك السكاكر المسماة باسمه !!!. فقد اعتبره أكبر ممول معنوي ، يدعم اعلانه عن هذا الصنف من  السكاكر.

يقال ان الشيخ شامل وبأسلوبه الخاص كان يستطيع الوصول الى كبار المسؤولين في زمانه ، كان يفعل ذلك لحل قضايا الناس الذين يلجؤون اليه ، ويطلبون منه أن يتدخل لرفع مظلمة أو لتأمين عمل أو لتحصيل حق ، فكان لايخيب أحدا ، ولا ( يكسر بخاطر ) صاحب حاجة ، وكان لديه من الجرأة ما يتيح له أن يطرق أكبرالأبواب الموصدة من دون خوف أو وجل.

وفي ستينيات القرن الماضي ، قصد مكتب أحد المسؤولين الكبار في دمشق ، وكان ذلك المقصود في قمة السلطة آنئذ ، وعندما رآه مدير المكتب ، سمح له بالدخول فورا ، لأنه يعرف منزلة الشيخ عند سيد هذا المكتب .. ويبدو أن ذلك المسؤول كان تعبا وقتئذ ، لدرجة أنه قد غفا قليلا على سرير مجاور لمكتبه ..

وعندما رآه الشيخ نائما ، جلس على مقعد قرب رأسه منتظرا استيقاظه ، وصدف أن فتح المسؤول عينيه ، فوجد الشيخ قرب رأسه ، فأعاد اغماضهما فزعا ، ثم فتحهما ببطء مرة أخرى ، وتأكد أن هذا الجالس بجانبه هو الشيخ شامل .. بعمامته البيضاء وجبته الرمادية ولحيته المهيبة ، ضحك قائلا : أفزعتني يا شيخ !!. متى جئت الى هنا ؟؟!. ظننتك والله ملك الموت ، قد جاء ليقبض روحي.

وكان الشيخ شامل بالاضافة الى عمله التوجيهي والاجتماعي ، يقوم بغسل الأموات على الطريقة الاسلامية.

كان الشيخ شامل عطوفا ، بشوشا ، مرنا ، سمحا ، اجتماعيا من الطراز الأول ، قلّ أن تغادر الابتسامة شفتيه ، كريما ومضيافا وذا ( وجه حام ) !!!.. وأذكر أنني التقيته ذات مرة في دمشق ، وكنت آنئذ طالبا في المرحلة الجامعية ، كان اللقاء جميلا ، وكان الشيخ ودودا ، وقد عرض علي خدماته ، وأصر أن أطلب منه ماأريد ، حتى ولو كان مالا أحتاج اليه ( على اعتبار أنني في بلاد الغربة ) .. لكنني شكرته ، واعتذرت عن قبول ما عرضه علي ، اذ لم أكن في ضيق وقتئذ.

رحم الله الشيخ شامل رحمة واسعة ، وأسكنه فسيح جناته.

وسوم: العدد 897