السيدة زينب الغزالي رحمها الله

100 عام على ميلاد الداعية الإسلامية الكبيرة

بدر محمد بدر

[email protected]

يوم الخميس الموافق 8 من ربيع الأول 1435هـ مرت مائة عام على ميلاد الداعية الإسلامية الكبيرة السيدة المجاهدة زينب الغزالي رحمها الله، وفي هذه المناسبة أقدم هذه السطور عن جوانب من حياتها:

ولدت الداعية الكبيرة يوم الاثنين الثاني من يناير عام 1917م، الموافق الثامن من ربيع الأول عام 1335 هـ في قرية "ميت يعيش" مركز ميت غمر محافظة الدقهلية (80 كيلومترا من القاهرة) لأبوين كريمين, الأب هو الشيخ محمد الغزالي الجبيلي, العالم الأزهري وتاجر القطن بناحية ميت غمر, الذي ينتهي نسبه إلى أمير المؤمنين الفاروق عمر بن الخطاب رضى الله عنه, والأم ابنة عمدة قرية "مسجد وصيف" و"المعصرة" وعدة قرى حولها..

كانت رحمها الله شديدة التواضع, شديدة البساطة, إذا دعت إلى طعام, قامت بنفسها على خدمة الضيوف, ولا تترك أحداً غيرها يقوم بهذه المهمة.. وتسعد كثيراً إذا جاء عندها ضيوف وكانوا كثر, ليسوا من حي مصر الجديدة أو حتى من القاهرة فقط, بل من كل أنحاء الدنيا: من العرب وغير العرب, ومن المسلمين وغير المسلمين.. وكانت تجيد التعامل الإنساني مع الإعلاميين الغربيين بالذات, وتكرمهم أكثر؛ لأنها كانت تعلم أنها سفيرة للإسلام يجب أن تظهره في أبهى صورة.

كانت تحب المرأة المسلمة أما وأختاً وزوجة وبنتاً.. كانت ترفق بها وتصبر على توجيهها وترد على أسئلتها, وتؤكد أن الصحوة الإسلامية لها جناحان: الرجل والمرأة, لا يمكن أن تحلق في الأجواء بجناح واحد, وكانت تري أن وظيفة المرأة الأساسية هي الأمومة ورعاية شئون البيت والزوج والأبناء, وترفض أن تكون المرأة ترساً في آلة العمل باسم المساواة بينها وبين أخيها الرجل, وترى أن الحضارة الغربية الحديثة أضرت بالمرأة أكثر مما أفادتها.

كانت تدعو إلى تقوية الإيمان في القلوب, وغرس معالم التوحيد في السلوك, وبناء الفرد المسلم والبيت المسلم والمجتمع المسلم, وصولا إلى الأمة المسلمة وسيادة الشريعة الغراء وأستاذية العالم من جديد, فالإسلام العظيم هو سعادة البشرية جمعاء, ونور الهداية والاطمئنان لكل الحيارى والتائهين من البشر.

كانت تهتم بالجوهر قبل المظهر وبالمضمون قبل الشكل وبالتطبيق قبل حسن الحديث, وعندما كانت تلتقي بإحدى السيدات من غير المحجبات, من اللاتي انجرفن إلى التقليد الأعمى للغرب, أو لم يعلمن بحكم الإسلام الصحيح, لم تكن تسألها عن أسباب عدم ارتدائها الحجاب الشرعي, أو تسفه من مظهرها وعريها المنافي للشريعة, بل كانت تسألها أولا عن إقامتها للصلاة المفروضة, وقراءتها للقرآن الكريم, وانتظامها في صلاة الفجر, وحبها للنبي صلى الله عليه وسلم.. كانت تنظر إلى الجوهر والقلب أولاً, لأن صلاحهما هو صلاح للمظهر والجوارح ولو بعد حين.

كانت تحب معالي الأمور وتكره سفاسفها, وتتطلع إلى بناء وتربية وتوجيه المرأة المسلمة الواعية, التي تفكر في هموم الأمة وقضايا الوطن وصالح المجتمع والأسرة, وعندما كانت تجلس لتلقى درساً أو محاضرة أمام تجمع للنساء, كانت تتحدث عن هموم الأمة الإسلامية, وضرورة مشاركة المرأة المسلمة إلى جوار أخيها الرجل من أجل النهوض بها والخروج من هذا الواقع المؤلم, وتتحدث عن دور المرأة المسلمة في تحقيق النهضة المنشودة, بداية من تعميق رؤيتها لقضايا أمتها وتفاعلها معها, وانتهاءً بتربية أبنائها على هذه الرؤية, وتأهيلهم لخدمة دينهم وأمتهم.

كانت تكره أن تنشغل المرأة المسلمة بالأمور الهامشية والجدلية والفرعية والتي لا ينبني عليها عمل, وتتألم عندما تكثر الأسئلة عن حكم الاكتحال أو ترقيق الحواجب أو طلاء الأظافر أو ارتداء النقاب والقفازات, وغيرها من الأسئلة التي ينشغل بها البعض كثيرا على حساب ما هو أهم من قضايا الأمة ونهضتها وبناء مجتمعها.

كانت تنظر إلى الجوهر والقلب, قبل أن ترى المظهر والصورة.. كانت ترى أن تغطية الوجه (النقاب) ليس مرفوضاً وليس مفروضاً, وهو نفس الرأي الذي أعلنه الأزهر الشريف.. كانت تتجنب الرد على التساؤلات الفقهية، رغم علمها الواسع، في ثلاثة مجالات وهي: الطلاق والرضاع والميراث, وكانت تحيل السائل أو السائلة إلى الأزهر الشريف, أو إلى أحد الفقهاء المعروفين, تورعاً عن الوقوع في الخطأ.

كانت الداعية المجاهدة صاحبة مظهر جميل وجذاب, ثيابها بيضاء ناصعة, وهندامها متناسق, وذوقها رفيع, وغرفتها في البيت طاهرة معطرة, جعلت منها مسجداً صغيراً لأداء الصلاة والاعتكاف وقراءة القرآن وصلاة الليل, يخلع المرء حذاءه قبل أن يدخل لأمر ضروري, فيجد الغرفة وقد رتبت ترتيباً بديعاً, وتفوح منها الروائح الذكية, ولا تستقبل فيها إلا صديقات معدودات فقط, تفيض من كرمها عليهن بالدخول إلى غرفتها الخاصة.

وقبل أن تجلس إلى مائدة الطعام في بيتها, كانت تسأل عن خدم البيت: السائق والشغالة والسفرجي والجنايني.. هل تناولوا الغداء؟ فإن تأخر الطعام قامت بنفسها لتقدمه لهم!

ورغم انشغالها في العمل الدعوى, إلا أنها كانت كثيرة الصلاة والصيام, ولا يمر يوم إلا وتقرأ وردها اليومي، أكثر من ثلاثة أجزاء, ترتفع إلى عشرة في شهر رمضان من كل عام، رحمها الله رحمة واسعة.

كانت الداعية الربانية تتضرع إلى الله سبحانه وتعالى بالدعاء, كأنها تحمل فوق رأسها ذنوب الدنيا كلها, وتبكى من شدة التأثر وهى واقفة بين يدي الله, وكانت تقول: إن الداعية الذي يبحث عن القبول والتأثير والاستجابة بين الناس, عليه أن يبحث عن القبول والرضا من الله أولاً, ويجب أن يكون له علاقة خاصة بينه وبين ربه, من ذكر واستغفار ودعاء وتضرع وقيام ليل ومناجاة, فالأمر ليس بكثرة العلم أو بجمال التعبير أو بقوة الفصاحة أو بحسن العرض, ولكنه أولاً بالقبول والتوفيق من الله سبحانه وتعالى. 

كانت ترى أن التدين الصحيح أساسه مراقبة الله سبحانه, ومداره الحب والود والأخوة, وصورته البساطة والكلمة الطيبة وسعة الصدر والقدرة على الصبر والتحمل والمجاهدة.. التدين الصحيح هو التواضع لله عز وجل, والتواضع بين الناس, وحسن الصلة بهم والإشفاق عليهم من الانحراف عن طريق الله سبحانه وتعالى.. التدين الصحيح هو التسامح والتواد والتواصل والتراحم والتكافل..التدين الصحيح هو صدق التوجه نحو طاعة الله في السر والعلانية, وفي السر أكثر عندما تنام العيون وتسكت الألسنة وترتاح الأجساد وتهدأ الأنفاس, فيهب صاحب الإيمان اليقظ إلى مناجاة ربه ومولاه سبحانه..التدين الصحيح ليس هو القلب القاسي والوجه العابس والاستعلاء المزيف على الخلق, وليس هو التكبر والغرور وإشعار الآخرين بهبوط منزلتهم وقلة علمهم وسوء مصيرهم..التدين الصحيح هو الفطرة السليمة إذا مستها روح الإيمان وقوة اليقين بالله وسمو المعرفة به سبحانه وتعالى.. هكذا كانت تفهم زينب الغزالي دينها, وهكذا كانت تدعو إليه على بصيرة.

وعلى المستوى الشخصي, فقد أكرمتني الحاجة زينب كثيراً, بخلقها الزكي وعلمها الغزير وأدبها الجم وحكمتها الغالية, وكانت قمة هذا الكرم والعطاء أن اختارت لي زوجتي السيدة عزة محمد الجرف (أم أيمن) التي أكرمني الله بها, وهي إحدى تلميذاتها النجيبات, السائرات على دربها في العمل الإسلامي الدعوي والاجتماعي.

وفي السادسة من مساء الأربعاء الثامن والعشرين من جمادي الآخرة 1426هـ, الثالث من أغسطس 2005م, فاضت الروح الطاهرة إلى بارئها, وسكن الجسد الضعيف, الذي عاش بقوة الحق وعزيمة الجهاد وإرادة الصمود وحب الشهادة, بعد رحلة طويلة من الجهاد والصبر والمعاناة والألم والكفاح.

هكذا رحلت داعية القرن العشرين السيدة "زينب الغزالي" عن عمر يناهز الثامنة والثمانين, قضته في طاعة الله والعمل على رضاه, وبذل الوقت والجهد دفاعاً عن الإسلام, وتبصيراً للأجيال بأصالة هذا الدين, وسموه وشموخه وعظمته ووسطيته وحتمية انتصاره.

وأدعو الله أن أكون بهذه السطور عن حياتها قد وفيت بعض حقها علي, كما أدعوه سبحانه أن يجعل ذلك في ميزان حسناتي، وأن يجمعني بها أماً مجاهدة وداعية ربانية في مستقر رحمته.